وكان دي فو من بين أشراف الإنجليز جميعا، الذين ساروا وراء مليكهم إلى فلسطين، أشدهم تحاملا على الاسكتلنديين. كانوا جيرانه الأقربين، وقد اشتبك معهم طوال حياته، في حروبه خاصة أو عامة، وأوقع بهم كثيرا من المصائب، وتحمل على أيديهم غير قليل من الأرزاء، وكان حبه وإخلاصه لمليكه قويا شديدا كحب الكلب الإنجليزي قديما لصاحبه، وكان شرسا لا يقربه أحد غير سيده، حتى أولئك الذين لم يكن له شعور خاص نحوهم من حب أو بغض، وكان فظا خطرا على كل من لم يكن معه هواه؛ وما رأى دي فو مليكه قط يظهر أية شارة من شارات الرضا والرأفة لذلك الجنس اللئيم الغادر المتوحش
2
الذي نشأ على الضفة الأخرى للنهر الذي يفصل بين بلاده وبلادهم، أو على الجانب الآخر لأي خط وهمي يشق الفيافي والقفار ويفصل بينه وبينهم، إلا وتملكته الغيرة والسخط؛ بل إنه كان يشك في نجاح الحملة الصليبية، التي كان أولئك القوم يحملون فيها السلاح، وكان ينظر إليهم في دخيلة نفسه وكأنهم لا يفضلون كثيرا الأعراب الذين أتى لنزالهم، بل وفوق ذلك كان دي فو يرى نفسه رجلا إنجليزيا صريحا هادئ الطبع، لم يتعود أن يخفي أية شارة - مهما خفت - من شارات الحب أو البغض؛ ولذا فقد كان ينظر إلى التظرف والتلطف في الحديث - الذي تعلمه الاسكتلنديون من تشبههم بالفرنسيين حلفائهم الدائمين، أو الذي ربما كان ينبعث عن إعجاب بالنفس وتكتم في الخلق - كأنه دليل على خطط ماكرة يدبرونها ضد جيرانهم الذين كان دي فو يعتقد - والثقة الإنجليزية الحق تملأ نفسه - أن الاسكتلنديين لن يتفوقوا عليهم بمحض الرجولة الخالصة.
ومع أن دي فو كان يتأثر بهذه العواطف نحو جيرانه أهل الشمال - بل وكان يبالغ فيها ويبقي عليها غير منقوصة، حتى كانت تشمل أولئك الذين ينضوون منهم تحت لواء الصليب - فقد كان احترامه للمليك، وإحساسه بالواجب الذي يفرضه عليه عهد أخذه على نفسه للصليبيين، يحرمان عليه أن يظهر هذه العواطف بأية وسيلة ما، إلا أنه أصر على أن يتحاشى مخالطة الاسكتلنديين زملائه في القتال ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وكان يتكتم ويكتئب إذا اضطرته الظروف أن يلاقيهم حينا ما، وكان ينظر إليهم شزرا إذا التقى بهم في المسير أو المخيم؛ ولم يكن أشراف الاسكتلنديين وفرسانهم ليتقبلوا هذا الازدراء بالتغاضي أو إهمال الجواب، فكان أن أصبحوا ينظرون إليه كأنه عدو دائب لدود لأمة لم يحمل لها في الواقع أكثر من البغض وشيء من التحقير؛ بل إن كل من أمعن ودقق، عرف أنه وإن لم يعاملهم ببر المسيحية - الذي يقضي على المرء أن يقاسي كثيرا ويغلب الرأفة والشفقة إذا تحكم - إلا أنه لم يفته بأية حال أن يكرمهم - ولو قليلا وإلى مدى محدود - إكراما يخفف من عوز المحتاجين، ويفرج من هم المكروبين. وكان لتوماس الجلزلاندي من الثروة ما يمده بالمئونة والدواء، فكان شيء من هذا المدد يتسرب سرا إلى منازل الاسكتلنديين، وهذا الإحسان الجافي كان يقوم على عقيدة أن العدو يلي الصديق في الأهمية، ولا يتوسطهما رجال هم بين بين، فإنما هؤلاء لا هم إلى أولئك ولا هم إلى هؤلاء، وليسوا أهلا حتى للمحة من الفكر أو الاعتبار. وهذا البيان ضروري للقارئ كي يفهم جد الفهم ما سنفصله فيما يلي.
لم يبعد توماس دي فو كثيرا عن مدخل السرادق الملكي حتى أدرك ما أدركته في لمح البصر أذن ملك إنجلترا الحادة ذات الخبرة والمعرفة بفن العزف والغناء، وذلك أن الألحان الموسيقية التي طرقت أذنيه، كانت تنبعث من مزامير العرب وقصباتهم وطبولهم. وفي نهاية طريق طويلة ضربت الخيام على جانبيها، متصلة بفسطاط رتشارد، وقعت عيناه على حشد من الجنود الكسالى ، تجمعوا حول المكان الذي كانت أنغام الموسيقى تنبعث منه، وهو يتوسط المعسكر. ولشد ما كانت دهشته حينما رأى بين الخوذات المتعددة الأشكال - التي كانت على رءوس الصليبيين من الأمم المختلفة - عمامات بيضا وحرابا طوالا، مما كان يدل على وجود الأعراب المسلحين؛ كما رأى كثيرا من رءوس الجمال والإبل الضخمة المشوهة، وقد مكنتها أعناقها الطويلة القبيحة من الإشراف على الجمع المحتشد.
عجب البارون لهذا المشهد واشتد سخطه، إذ رأى منظرا فريدا لم يكن يتوقعه؛ ذلك لأن العادة جرت بأن تلقى أعلام الهدنة جميعا، وغير ذلك من رسائل العدو، في مكان معين خارج الحدود. وتلفت شغوفا ذات اليمين وذات اليسار، عله يرى أحدا يستفسر منه عن علة هذه الظاهرة الجديدة الخطيرة.
وكان أول من وقعت عليه عيناه من الناس رجل يتقدم نحوه، ظنه لأول وهلة من خطوه الرزين المتعجرف إسبانيا أو اسكتلنديا، ثم تمتم لنفسه وقال: «إنه اسكتلندي؛ إنه فارس النمر، لقد شاهدته مرة يقاتل في سبيل رجل من بني وطنه فيحسن القتال ولا يبالي.»
وقد كره أن يبتدر القادم حتى بسؤال عارض، وأوشك أن يمر بالسير كنث وعلى سيماه الاكتئاب والتكبر، وكأن لسان حاله يقول: «إني أعرفك، ولكني لن أبادلك الخطاب.» ولكن فارس الشمال أفسد عليه خطته إذ أقبل عليه يقصده، وبدأه بالمجاملة وقال: «سيدي دي فو الجلزلاندي، في ذمتي رسالة علي أن أبلغك إياها.»
فرد عليه البارون الإنجليزي وقال: «ها! رسالة تبلغنيها؟ قل ما شئت وأوجز إنما أنا في خدمة الملك.»
فأجاب السير كنث «إنما رسالتي أمس بالملك رتشارد مما تقوم أنت عليه، لقد أتيته بالصحة والعافية، إن صح أملي.»
Página desconocida