وقبل أن يمتطيا جواديهما لمواصلة الرحيل، بلل الفارس المسيحي شفتيه، وأغرق يديه في ماء العين، ثم قال للرجل الوثني
1
زميله في السفر: «وددت لو عرفت اسم هذه العين ذات الماء النمير، حتى أحفظ لها جميل الذكر، فوالله ما ارتويت حياتي بماء أشد عذوبة من مائها الذي أطفأت به نار العطش الذي أحسست به اليوم.»
فأجاب العربي: «اسمها درة الصحراء.»
فقال المسيحي: «نعم الاسم. إن بالوادي الذي أتيت منه ألف عين، ولكنني لن أحمل بعد هذا لأيها مثل هذه الذكرى العزيزة التي أحملها لهذه العين النائية، التي تمد النفس بكنوزها السائلة، فتسر القلب وتسد لبانة من لباناته التي ليس له عنها غنى.»
فقال العربي: «حقا ما قلت، ولعنة الله على ذلك البحر الميت، الذي لا يستقي منه - ولا من النهر الذي لا يفتأ يصب فيه ولا يملأ جوفه - إنسان أو حيوان حتى يخرج من هذه الصحراء الجافة.»
ركب صاحبانا واستأنفا المسير يقطعان أرضا رملية خلاء، وقد تبدد وهج الظهيرة، وأخذ يهب نسيم عليل، يهون عليهما مشقة الصحراء، ولكنه يحمل على جناحيه ترابا دقيقا لم يكن يأبه له العربي، بينما كان رفيقه المثقل بالسلاح يضجر منه، فخلع خوذته وعلقها بجانب سرجه، واستبدل بها تقية ركوب خفيفة، تشبه في شكلها الهاون، ثم سارا معا برهة من الزمن صامتين لا يتحدثان، والعربي يقوم بوظيفة المرشد أو القائد في السفر، مستعينا بمشاهدة دقيق العلائم ومواضع الصخور النائية التي كانا يسيران رويدا نحو حافتها، وظل كذلك فترة قصيرة، وكأنه لا يفكر إلا في هذا العمل، كربان السفينة وهو يعبر قناة عسيرة؛ ولكنه - ولما يقطعا نصف فرسخ - استوثق من طريقه، وأظهر الرغبة في فتح باب الحديث بصراحة غير معهودة بين بني قومه.
فقال: «لقد سألتني اسم عين ساكنة لها هيئة الكائن الحي ولكنها ليست بالكائن الحي، فهل لي أن أسأل عن اسم الزميل الذي صادفته اليوم ورافقته في الضراء والسراء، وما إخال إلا أن هذا الاسم ذائع الصيت حتى هنا في صحراوات فلسطين.»
فقال المسيحي: «كلا، إن هذا الاسم لم يحق له الذيوع بعد، ولكن اعلم أن جنود الصليب يسمونني «كنث صاحب النمر الرابض»، ولي في بلادي ألقاب أخرى لا تستسيغ مسمعها أذن شرقية؛ أيها العربي المقدام ! من أي قبائل العرب أنت وما اسمك؟»
فأجاب المسلم وقال: «يسرني أن اسمك هين على شفتي أن تنطقا به يا سير كنث؛ أما أنا فلست بعربي، وإنما أنا أنتمي إلى جماعة لا تقل عن العرب إقداما ولا حبا في القتال؛ اعلم يا فارس النمر أنني شيركوه، أسد الجبل، وأن ليس بكردستان التي أنتسب إليها أسرة أشرف من أسرة سلجوق.»
Página desconocida