203

فقال الملك رتشارد: «لا بد وأن نكون قد اقتربنا من المكان، وذلك الفارس أحد طلائع صلاح الدين. يخيل لي أني أسمع أصوات الأبواق والصنوج المغربية؛ رتبوا صفوفكم يا أحباء قلبي، واصطفوا حول السيدات واثبتوا ثبات الجنود.»

وفي خلال كلامه خف كل فارس وتابع ونبال على عجل إلى مكانه المعين، وساروا في صفوف متلاصقة أشد التلاصق حتى بدا عديدهم قليلا. وحقا إن لم يسر بينهم الخوف، فقد تملكهم الجزع وحب التطلع وهم يتسمعون منصتين إلى أنغام الموسيقى المغربية وهي تصدح، وتبلغهم الحين بعد الآخر واضحة من الجهة التي اختفى فيها الخيال العربي.

وقال دي فو همسا: «أما كان خيرا لنا يا مولاي أن نبعث برسول إلى قمة هذه الرابية الرملية؟ أم هل تريدني أن أسبق إلى الأمام؟ يخيل لي من كل هذا الضجيج وذاك الظنين أنه إن لم يكن هناك ما يربو على خمسمائة رجل وراء الكثبان الرملية، فلا بد وأن يكون نصف حاشية السلطان من الطبالين واللاعبين بالصنوج. هل لي أن أسبق؟»

وشد البارون على جواده بزمامه، وأوشك أن يحفزه بمهمازه، لولا أن صاح به الملك «كلا، لو أعطيت ملك الدنيا؛ إن مثل هذا الحذر يدل على الريبة ولن يحول دون انقضاضهم علينا، وهو أمر لا أخشاه.»

وتقدم الجمع بعد هذا في نظام محكم متقاربين، حتى تخطوا الكثبان الرملية المنخفضه، وباتوا على مرأى من المكان المقصود، فإذا بانتظارهم مشهد رائع جليل، ولكنه يثير الرعب في النفوس.

كانت «درة الصحراء» على عهد قريب عينا منعزلة لا يميزها وسط القفار سوى عدد من أشجار النخيل المتباعدة، ولكنها الآن محط لخيام عديدة مضروبة، وعليها أعلام مزركشة وزينات من الذهب تتألق تألقا شديدا وتعكس ألوفا من الألوان الزاهية، والشمس تسطع عليها وهي ماثلة للغروب. وكانت السرادقات الضخمة مغطاة بأزهى الألوان، من قرمزي إلى أصفر فاقع، إلى أزرق شاحب، وغير ذلك من الأصباغ ذات الرونق والسناء، وأعالي عمدها - أو قوائم الخيام - كانت محلاة برمان من الذهب، وأعلام صغيرة من الحرير, ولكن إلى هذه السرادقات المتميزة كان هناك، على ما رأى توماس دي فو، عدد كبير من خيام العرب المألوفة السوداء، تكفي - على ظنه - لإيواء جيش من خمسة آلاف رجل على الطريقة الشرقية, وكان هناك عدد من الأعراب والكرد يتناسب واتساع المخيم، يتجمعون على عجل، وكل منهم يقود جواده بيده، ويصحب حشدهم ضجيج يكاد يصم الآذان، يصدر عن آلاتهم الصخابة التي كانوا يضربون عليها موسيقاهم العسكرية، والتي أشعلت في العرب طوال العصور حماس الحرب والقتال.

وسرعان ما تجمعوا أمام خيامهم في حشد مضطرب شديد الزحام من الفرسان المترجلين، وما إن أشير إليهم بصيحة عالية تعلو رنين الموسيقى، حتى خف كل فارس إلى ظهر جواده، وثار النقع سحبا حينما قاموا بهذه الحركة العسكرية، فاختفى عن ناظر رتشارد وأتباعه المعسكر والنخيل وحافة الجبل البعيدة، كما اختفى الجند الذين أثاروا سحب التراب بحركتهم المباغتة. وارتفع الغبار فوق رءوسهم، واتخذ أشكالا عجيبة من عمد ملتوية وقباب ومآذن، وارتفعت صيحة عالية أخرى منبعثة عن صدر هذا الهيكل المنشأ من سحب التراب، وكانت هذه الصيحة إشارة للفرسان بأن يتقدموا؛ وقد فعلوا، راكضين بأقصى سرعة. وكلما ساروا إلى الأمام اصطفوا محيطين بالمقدمة والجناحين والمؤخرة من حراس رتشارد القليلين، وقد باتوا محاصرين، ويكادون يختنقون بسحب التراب الكثيفة التي تغشتهم من كل جانب، والتي كانت تتبين من خلالها حينا وتختفي حينا آخر جسوم الأعراب الكالحة، ووجوههم البربرية، وهم يلوحون برماحهم، ويهزون بها في كل متجه مهللين هاتفين، ولا يمسكون بزمام خيولهم إلا غرارا، وذلك حينما يبيتون على قيد رمح من المسيحيين، بينما كانت مؤخرتهم تمطر على رءوس الفريقين وابلا من السهام، وقد أصاب أحدهم المحفة التي كانت تجلس فيها الملكة، فعلا صياحها واحمر جبين رتشارد في لمح البصر.

فصاح مذعورا: «وحق القديس جورج ليكونن لنا مع هذه الطغمة من الكفار شأن!»

أما أديث التي كانت محفتها على كثب، فقد أطلت برأسها، وأمسكت بإحدى يديها نبلة وصاحت: «أي رتشارد المليك، حذار مما أنت فاعل! انظر، إن هذه السهام بغير رءوس!»

فصاح بها رتشارد: «ما أنبلك وأحكمك من امرأة! والله إنك لتخجليننا جميعا بسرعة خاطرك ونفاذ بصرك.» وصاح بأتباعه: «لا تتحركوا يا أعزاء قلبي من الإنجليز، إن سهومهم ليس لها رءوس، وإن رماحهم كذلك تنقصها أطراف الحديد. إنما جاءونا مرحبين ترحيبا وحشيا على طريقتهم البربرية، ولكنهم رغم هذا - لا مراء - يبتهجون إذا رأونا مرتاعين أو مضطربين. سيروا إلى الأمام بتؤدة وثبات.»

Página desconocida