فأجاب السير كنث قائلا: «والله لأن أبترهما بعظام اللوح خير لي من هذا.»
فقال له العربي في نغم أكثر توددا: «إذن فهذه العاطفة الرقيقة تغل يديك الآن، وليس في عزمي أن أطلق سراحهما؛ لقد كنا قبل الآن متكافئين قوة وبسالة، وربما نلتقي ثانية في ساحة النزال العادلة، ويا لعار من يفصل من خصمه قبل أخيه! أما الآن فنحن صديقان، وإني لأنتظر منك العون لا شديد العبارة والتحدي.»
فأجابه الفارس مرددا عبارته: «أجل نحن صديقان.» ثم كانت بينهما فترة من السكون، أخذ العربي المتقد يجوب فيها الفسطاط بخطاه، كالليث يشتد هياجه ثم يثوب إلى إطفاء حرارة دمه قبل أن يستلقي للراحة في عرينه. أما الأوروبي - وهو أكثر من صاحبه برودة - فقد لبث في وقفته وهيئته لا يبدل منهما، ولكنه كان - لا ريب - رغم ذلك يكابد إطفاء مشاعره وقد توقدت غضبا واشتعلت على غير انتظار.
ثم قال العربي: «دعنا نفكر في هذا الأمر هادئين. إني كما تعلم طبيب، ومن أراد لجرحه التئاما ينبغي له ألا ينقبض إذا جاءه الطبيب يسبر جرحه ويضع فيه الفتيل. أما ترى أني أوشك أن أضع إصبعي على مكمن الداء؛ أنت تحب هذه المرأة قريبة الملك رتشارد؛ فلتمزقن ذلك الحجاب الذي يستر خواطرك، أو إن شئت فلا تمزقه، فإن عيني تنفذان إلى ما وراء الحجاب.»
فسكت السير كنث هنيهة ثم قال: «لقد أحببتها كما يحب الرجل رحمة ربه، وطلبت رضاها كما يطلب الجاني غفران السماء.»
فقال العربي: «أوما تحبها بعد؟»
فأجاب السير كنث قائلا: «وا حسرتاه! إني لم أعد بحبها قمينا. بربك إلا قطعت هذا الحديث؛ إن كلماتك على فؤادي كالخناجر.»
ثم استأنف «الضريم» حديثه وقال: «عفوك لحظة، وقل لي أفلم ترج أن يثمر لك هذا الحب حينما جسرت - وأنت جندي مسكين مجهول - على أن تعقد حبك بهذه الفتاة الكريمة.»
فقال الفارس: «ليس هناك حب بغير أمل، ولكن حبي كاد أن يكون حليف اليأس، ومثلي في ذلك مثل الملاح الذي يريد لنفسه الحياة فيسبح ويسبح ويطوي موجا إثر موج، وأمام بصره شعاع من ضوء ناء يراه الفينة بعد الأخرى فيعلم أن في الأفق مرسى، ولكن قلبه الواهن وأطرافه المنهوكة تؤكد له أنه لن يبلغه.»
فقال «الضريم»: «والآن غاص الأمل وانطفأ ذلك الضوء الفريد إلى الأبد؟»
Página desconocida