وواصل الشيخ الزحف شيئا فشيئا كالأفعى أو القوقعة، وما يكاد الرائي يحس به، حتى بات على بعد عشر أذرعة من شخص رتشارد، ثم نهض على قدميه، ووثب قدما كما يثب النمر، ووقف إلى ظهر الملك في أسرع من لمح البصر، ولوح بخنجره في الهواء، وكان قد أخفاه في كمه، وما كان جيش رتشارد بأسره حينئذ بمستطيع أن ينقذ مليكه البطل، ولكن النوبي كان - كذلك الشيخ المتهوس - يسير بقدر، فما إن هم الثاني بالطعن حتى أمسك الأول بذراعه المرفوعة، فحول «الخارجي» - وظاهره كالأولياء - ثورة غضبه نحو ذلك الذي اعترض ما بينه وبين مرماه فجاءة وبغير انتظار، وطعن النوبي بخنجره طعنة سحجت ذراعه، بينما انقض عليه النوبي وطرحه أرضا، وما أيسر ما هشمه بقوته التي ترجح قوة الشيخ أضعافا مضاعفة. وحينئذ أدرك رتشارد ما دار بين الرجلين، فنهض، وما عراه من الدهشة والغضب، أو ارتسم على محياه انفعال ما، غير ما يبدي الرجل العادي حينما يبعد عن نفسه زنبورا دخيلا أو يسحقه. ثم أمسك بالمقعد الذي كان يستوي عليه، وما زاد على أن صاح قائلا: «ها! وغد دنيء!» ثم هشم رأس القاتل تهشيما، وصاح الرجل وقال: «الله أكبر، الله أكبر.» مرتين، مرة بنغم عال، ومرة بصوت متهدج، ثم أسلم الروح عند قدمي المليك.
هذا الشغب الذي صحب ما وقع، نبه النبالين من أتباع رتشارد، فاندفعوا إلى السرادق مرتاعين صاخبين، فصاح بهم رتشارد في صوت فيه نغم العتاب والتهكم وقال: «حقا إنكم لحفظة ساهرون، وحراس نابهون، فلقد تركتموني أقوم بعمل الجلاد بيدي لا بيد عمرو. أنصتوا جميعا، وأوقفوا ضجيجكم هذا الذي لا ينطوي على شيء! هلا رأيتم أبدا من قبل رجلا تركيا قتيلا؟ هو ذا. انبذوا هذه الجيفة من المعسكر، وافصلوا الرأس عن جذعه، وعلقوه فوق رمح، وولوا وجهه شطر مكة، حتى يتيسر له أن يقول لذلك المدعي الدنس، الذي أوحى له أن يأتي إلى هنا، كيف بلغ الرسول رسالته.» ثم قال وقد التفت نحو الأتيوبي: «أما أنت يا صاحبي الأسود الصامت ... ولكن ما هذا؟ إنك جريح، وبسلاح في ظباته السم لا ريب؛ إذ إن حيوانا ضعيفا كهذا لا يستطيع بقوة الطعن وحدها أكثر من أن يصيب إهاب الليث. ليمتص السم من جرحه أحدكم؛ إن السم قاتل إذا اختلط بالدماء، ولكنه لا يؤذي الشفاه إن مسته.»
فأخذ عامة الحراس يتبادلون النظر مضطربين مترددين، وغلب الرعب من هذا الخطر الداهم أولئك الرجال الذين ما كانت الخشية تتطرق إلى قلوبهم.
ثم واصل الملك حديثه وقال: «ثم ماذا أيها الرجال؟ هل أنتم ذوو شفاه رقيقة، أم هل تخشون الموت فتتأخرون ولا تتقدمون؟»
فقال «لنج ألن» وكان الملك ينظر إليه وهو يتكلم: «نحن لا نخشى موت الرجال، ولكني لا أحب أن أموت كما تموت الفأر المسمومة في سبيل تلك الكتلة السوداء الملقاة هناك، التي تباع وتشترى في السوق كثور «مارتلماس».»
فتمتم رجل آخر وقال: «إن جلالة الملك يطلب إلينا مص السم وكأنه يقول لنا هيا احتسوا من هذه الخمر!»
فقال رتشارد: «كلا، والله ما سألت يوما رجلا أن يعمل ما لم أعمل.»
ثم وضع الملك شفتيه على جرح العبد الأسود، غير آبه ولا مكترث بأصوات الاحتجاج ممن أحاط به، ولا بمعارضة النوبي نفسه الذي كان يجل سيده، فلقد هزأ رتشارد بكل عتاب وغلب كل مقاومة، وما إن توقف لحظة عن هذا العمل الفريد الذي أقدم عليه، حتى املس منه النوبي، ورمى فوق ساعده وشاحا، وألمع - بشارات تنم عن الحزم كما تنم عن إجلاله لمليكه - إلى عزمه على ألا يسمح للملك أن يعود إلى هذه الخدمة المحطة به؛ وتعرض «لنج ألن» كذلك وقال: إن كان لا بد من إبعاد الملك عن الاشتغال بمثل ذلك العلاج فإنه يقدم شفتيه ولسانه وأسنانه لخدمة العبد (وكان يسمى الأتيوبي كذلك)، وإنه ليلتهم جسده التهاما قبل أن يلمسه الملك رتشارد بفمه.
ثم دخل نفيل مع ثلة من الضباط، وضم صوت احتجاجه إلى أصوات الآخرين.
فقال الملك «كلا، كلا، لا تصيحوا صياحا لا طائل منه بعد أن يفلت الظبي من كلاب الصيد، أو بعدما يقبل الخطر ثم ينقضي. سوف يكون الجرح طفيفا لأني لم أكد أمتص من الدماء قطرة. والله لو كان قطا غاضبا لكان خدشه أشد وأعمق. أما أنا فحسبي أن أتناول حبة من بلسم شاف أتقي بها، وإن تكن لا حاجة لي بها.»
Página desconocida