57

Medicina Profética

الطب النبوي لابن القيم - الفكر

Editorial

دار الهلال

Número de edición

-

Ubicación del editor

بيروت

فَأَمَّا الْفِقْهِيُّ: فَالَّذِي اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ سُنَّتُهُ ﷺ إِبَاحَةُ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ مُطْلَقًا، وَتَحْرِيمُهُ عَلَى الرِّجَالِ إِلَّا لِحَاجَةٍ وَمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، فَالْحَاجَةُ إِمَّا مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَلَا يَجِدُ غَيْرَهُ، أَوْ لَا يَجِدُ سُتْرَةً سِوَاهُ. وَمِنْهَا: لِبَاسُهُ لِلْجَرَبِ، وَالْمَرَضِ، وَالْحِكَّةِ، وَكَثْرَةِ الْقَمْلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أنس هَذَا الصَّحِيحُ. وَالْجَوَازُ: أَصَحَّ الرّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أحمد، وَأَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّخْصِيصِ، وَالرُّخْصَةُ إِذَا ثَبَتَتْ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأُمَّةِ لِمَعْنًى تَعَدَّتْ إِلَى كُلِّ مَنْ وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، إِذِ الْحُكْمُ يَعُمُّ بِعُمُومِ سَبَبِهِ. وَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ، قَالَ: أَحَادِيثُ التَّحْرِيمِ عَامَّةٌ، وَأَحَادِيثُ الرُّخْصَةِ يُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُهَا بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ والزبير، وَيُحْتَمَلُ تَعَدِّيهَا إِلَى غَيْرِهِمَا. وَإِذَا احْتُمِلَ الْأَمْرَانِ، كَانَ الْأَخْذُ بِالْعُمُومِ أَوْلَى، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَلَا أَدْرِي أَبْلَغَتِ الرُّخْصَةُ مِنْ بَعْدِهِمَا، أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ: عُمُومُ الرُّخْصَةِ، فَإِنَّهُ عُرْفُ خِطَابِ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّخْصِيصِ، وَعَدَمِ إِلْحَاقِ غَيْرِ مَنْ رَخَّصَ لَهُ أَوَّلًا بِهِ، كَقَوْلِهِ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي تَضْحِيَتِهِ بِالْجَذَعَةِ مِنَ الْمَعْزِ: «تَجْزِيكَ وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ فِي نِكَاحِ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ «١» وَتَحْرِيمُ الْحَرِيرِ: إِنَّمَا كَانَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَلِهَذَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ، وَلِلْحَاجَةِ، وَالْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةُ مَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرَائِعِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، كَمَا حَرُمَ النَّظَرُ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْفِعْلِ، وَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ وَالْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ، وَكَمَا حَرُمَ التَّنَفُّلُ بِالصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْمُشَابَهَةِ الصُّورِيِّةِ بِعُبَّادِ الشَّمْسِ، وَأُبِيحَتْ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَكَمَا حَرُمَ رِبَا الْفَضْلِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنَ الْعَرَايَا «٢»، وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ فِي كِتَابِ «التَّحْبِيرُ لِمَا يَحِلُّ ويحرم من لباس الحرير» .

(١) الأحزاب- ٥٠-. (٢) العرايا: جمع عرية بوزن مضيّة، وهي النخلة التي يعطيها صاحبها لفقير لينتفع بثمرتها إلى سنة، فتدفعه الحاجة إلى أن يأخذ بثمرتها تمرا قبل أن تحرز ثمرتها فلا يضر الفضل حينئذ.

1 / 59