وقبل أن يسمع شيئا اندفع إلى باب الحجرة والدموع تتواكب على عينيه، يكتم نشيجه ويحبسه ويسارع الخطى حتى ليكاد يجري. والتقى به محسن وحاول أن يستوقفه، ولكنه مال عنه إلى الباب في اندفاعة يائسة مجنونة مريرة، وعبر السلاملك ملقيا إليه نظره دون أن يحس، ثم نفذ كالسهم من الباب وراح يدفع خطاه كأنه العاصفة التي تدور في نفسه. حتى إذا ابتعد عن البيت أطلق الدموع والنشيج وراح يسير في الطرقات بلا هدف ولا غاية، إلا ظلاما يستر عليه دموعه الوالهة الحارقة.
الفصل السابع عشر
إنه ابن أبيه، كان لا بد لي أن أتوقع منه هذا. كنت أريد أن أجعل منه أخا لمحسن، وكنت آمل أن أعينه على العيش، فلا يحتاج إلى الوظيفة ويتفرغ للدرس، وكنت أؤدي واجبي نحو صديقي وابن عمي وأخي، وكنت أيضا أضحي بابنتي وألقي بها إلى بيت يقوم على مالها وحده، آملا - والأمل ضعيف - أن يكبر زوجها على الأيام، بل على السنين، والكثير الكثير من السنين. إنها تريده، وأعلم ذاك، ولكن منذ متى استطاعت فتاة في هذه السن الباكرة أن تتبين الطريق الأقوم لتسير فيه. إني أحب خيري وأقدره وما زال تقديري له يزداد منذ مات أبوه، ولكن حبي وتقديري لا يمنعان أن أرى الحقيقة واضحة جلية، إنه فقير بلا شهادة، وعليه لأسرته واجبات يصر على القيام به، وهو محق في إصراره. فإن كان خير وفية وحده هو ما أستهدفه فزواجها من جميل أجدى، ومستقبلها في ظله أثبت، وقد أديت واجبي وأدى خيري واجبه. وأنا بعد سأظل راعيا لهم لا أتركهم، ولعل إكباري لخيري يجعل مكانه مني مكان الصهر القريب. لقد جعلني موقفه أكثر اطمئنانا على مستقبل ابنتي، وهو لهذا جدير مني بالشكر، وسيكون شكري أن أجعل من نفسي أبا له.
مسكينة وفية، لا شك أنها ستتألم، ولكن ألم الشباب سريع الزوال. مسكينة! لقد شبت وهمس صويحباتها والسيدات من حولها لا يني يذكرها أنها عروس خيري. لقد كان فتى آمالها، عاشت ترى فيه زوج المستقبل، أعرف هذا وهي تدري أنني أعرفه. وقد حاولت، بل لقد بذلت في محاولتي ما لم يبذله أب آخر، لقد خطبت أنا لابنتي ورفضت خطبتي. لا أستطيع أن ألوم نفسي في يوم إذا رأيتها حزينة أن لم يتم زواجها من خيري.
وبعد، فما دامت لم تتزوج خيري فالكل عندها سواء، وجميل خير من يصلح لها، وهو في السلك السياسي، فهي لن تقيم في مصر وتستطيع البلاد التي تزورها أن تنسيها ما كان في مصر من آمال محترقة، لعلهما يسافران إلى أوروبا، فأجد بيتا حين أسافر هناك وأستغني عن الفنادق وما ألاقيه فيها من متاعب. نعم إن بيت ابنتي سيكلفني أجرا أغلى، ولكنه خير من الفنادق على أي حال؟ وعون ابنتي أمر لا بد منه، سواء أنزلت بفندق أم نزلت ببيتها. ونظمي باشا السيد من كبراء رجال الحزب، وأستطيع بهذا الزواج أن أضمه إلى جانبي كلما اقتضى الأمر عونا إلى جانبي. وها أنا ذا مرشح للوزارة في التعديل القادم القريب. لو كنت رفضت هذا الزواج، لعارض هو ترشيحي للوزارة. أما الآن فلا بد أن يؤيدني. عجيبة؟! لقد كنت ناسيا مسألة الوزارة هذه، أما كنت أقدر أن رفض جميل كان سيطيح بكرسي الوزارة؟ لا لم أكن ناسيا. لقد خطرت هذه الخاطرة بذهني، ولكن وفائي لهمام كان يحتم علي أن أفعل ما فعلت، أحمد الله أني لم أصغر أمام نفسي، وشاء الله الكريم وشاء خيري - حفظه الله - أن يرد إلي وفائي بالخير العميم.
لم يعد أمامي الآن مشكلة إلا إقناع وفية. ولكن ليست هذه مشكلتي، إنها مشكلة إجلال. مسكينة إجلال، مصيبتها في فايزة تكبر مع الأيام، فأنا أخرج وأعمل ولا أقيم في البيت إلا قليل وقت، أما هي فلا تبارحه ولا تبارح فايزة أو هي لا تكاد. لعل دولت ترفع عنها بعض العبء فهي تلاعب فايزة وتصاحبها أغلب الوقت. ولكن من للعبء الذي تحمله إجلال في نفسها! من لهذا العبء! ودولت إلى متى تقيم هنا! أرى محسن كثير النظر إليها، ترى هل بينهما شيء؟ لكم أخشى، ولكن إجلال يقظة، ولعل محسن يقدر الظروف التي جاءت بدولت فلا يعدو عليها ويكتفي بالنقود الكثيرة التي يصيبها مني، والتي يدعي أنه يأخذها للكتب، يا له من أبله؟ أيظنني لا أعرف أين ينفقها؟ لو شئت لكشفت حيله ولذكرت له الأمكنة التي يرودها، ولكن ما شأني أنا؟ إنه شاب فليعش كشاب ما دام ينجح آخر العام وما دام يحسب أنني أجهل أمره ويبذل كل جهده أن يظل أمره خافيا عني، فلأظل أمامه جاهلا لعل في جهلي ما يجعله رزينا في تصرفاته. لقد كنت مثله، وإن كانت النسوة اليوم أكثر تحررا وأقرب منالا، ولكن أيستطيع أن يتمتع مثلما تمتعت؟ لا أظن، ولماذا لا أظن؟ المتعة مسألة نسبية، ولعله يحس بها أكثر مما كنت أحس، أحاول أن أطمئن نفسي أن متعتي أكبر من متعته. ماذا يهم أن تكون أكبر أو أصغر ما دمت أنا تمتعت وملأت المتعة نفسي في أيام الشباب؟ ما لي تركت هذه الأجواء جميعا منذ تزوجت؟ أما كان هذا طبيعيا؟ في الأمر نظر. بعضهم يراه طبيعيا وبعضهم لا يراه. نعم الناس يعرفونني، والشهرة تقيد العربدة. ولكن أكان لا بد لي من العربدة العلنية؟ إنني لم أكلف بها في يوم من الأيام. فيم أفكر؟ أريد أن أعيد الشباب. هيهات، لتكن متعتي اليوم في أولادي، ولكن، سبحانك يا رب، أمرك. نرضى بحكمك، فايزة صماء، ووفية أمامها أيام طويلة من مصارعة اليأس، ومحسن. اللهم احفظه من كل سوء يا رب. من يدري لعل وفية تسعد بزوجها. ومن يدري لعل أحدا يحب فايزة ويتزوجها، هيهات، ولكن ما البأس بالأمل؟ مصرعه مر، ولكنه على كل حال أمل لن يصرع في يوم وليلة، وإنما سيصرعه مر السنين الطوال، فلنأمل الخير في وجه الله، ولتمر الأيام والسنون، ولننتظر، وهل نملك في هذه الدنيا إلا أن ننتظر ونسعى حتى لا نشعر بثقل الانتظار؟
وقام عزت بك إلى زوجته إجلال يضع في عنقها هذه المهمة الجديدة من أخبار وفية، وسؤالها عن رأيها في جميل، وما زال طنين هذا التفكير يدور بذهنه أقرب إلى الارتياح لهذا الزواج، وإن كانت غصة لا تزال تراوحه وتغاديه من ذلك الحزن الذي يعلم أنه سيلم بابنته. •••
جلست إجلال هانم إلى ابنتها تحس الحرج فيما هي مقدمة عليه، ولا تجد عن الإقدام مناصا، فتجمع أمرها آخر الأمر وتقول: يا بنتي، أنا وأبوك كنا نريد أن تتزوجي من خيري، وقد استقدمه أبوك وعرض عليه الزواج بك.
وندت عن وفية صرخة عجب أطلقتها كالملسوع: ماذا؟! - ورفض.
وندت عنها صرخة أخرى: ماذا؟ - لماذا تعجبين؟ أنت تعرفين موقفه. فقد كان نبيلا.
Página desconocida