The Tatars from the Beginning to Ain Jalut
التتار من البداية إلى عين جالوت
Géneros
حال الخليفة المستعصم
كان رأس الدولة في الخلافة العباسية الخليفة السابع والثلاثين والأخير من خلفاء بني العباس في بغداد المستعصم بالله واسمه كبير جدًا المستعصم بالله، ووظيفته كبيرة جدًا خليفة المسلمين، ولكن أين مقومات الخلافة في المستعصم بالله؟ وعندما تقرأ عن سيرة المستعصم بالله الذاتية في كتب السير مثل تاريخ الخلفاء للسيوطي أو البداية والنهاية لـ ابن كثير أو غيرهما من الكتب تجد أمرًا عجبًا، فتجدهم يصفونه بأنه كان رجلًا فاضلًا في حياته الشخصية وفي معاملاته مع الناس، بخلاف ما ذكرنا عن محمد بن خوارزم من أنه قطع العلاقات بينه وبين من حوله، لكن تعالوا نرى ما هي مشكلة المستعصم بالله، يقول ابن كثير واصفًا المستعصم بالله: إنه إنسان فاضل في نفسه، كان حسن الصورة، جيد السريرة، صحيح العقيدة، مقتديًا بأبيه المستنصر بالله في العدل وكثرة الصدقات وإكرام العلماء والعباد.
ثم يقول كلمة غريبة جدًا يقول: وكان سنيًا على مذهب السلف.
ولا أعرف ماذا يقصد بكلمة (على مذهب السلف)، أفلم يكن في مذهب السلف جهاد وإعداد للقتال، ودراسة لأحوال الأرض وموازين القوى العالمية، وحمية ونخوة لدماء المسلمين التي سالت على مقربة من العراق في فارس وأذربيجان وأفغانستان وباكستان وغيرها؟! ألم يكن في مذهب السلف وحدة وألفة وترابط؟ فالخليفة المستعصم كان جيدًا في ذاته، ولكنه افتقر إلى أمور لا يصح أن يفتقر إليها حاكم مسلم، فقد افتقر إلى القدرة على إدارة الأمور والأزمات، وإلى كفاءة القيادة، وإلى علو الهمة والأمل في سيادة الأرض والنصر على الأعداء، ونشر دين الله ﷿ في الأرض، وإلى الشجاعة التي تمكنه من أخذ قرار الحرب في الوقت المناسب، فلم يكن عنده القدرة على تجميع الصفوف وتوحيد القلوب، ونبذ الفرقة، ورفع راية الوحدة الإسلامية الواحدة، ولم يكن قادرًا حتى على اختيار أعوانه، ففشت في بلاده بطانة السوء، فالوزراء يسرقون، وأفراد الشرطة يظلمون، وقواد الجيش يتخاذلون، والفساد عم وطغى في كل مكان، وكثرت الاختلاسات من أموال الدولة، وعمت الرشاوى، وطغت الوساطة، وانتشرت أماكن اللهو والفساد والإباحية والمجون في كل مكان، بل وأعلن عنها صراحة، ودعي إليها على رءوس الأشهاد، والراقصات والخليعات كن يعلن عن أنفسهن صراحة في هذا البلد المسلم، والخليفة كان يصلي ويصوم ويزكي، وكان لسانه نظيفًا ومحبًا للفقراء والعلماء، وكل ذلك جميل في مسئوليته أمام نفسه، ولكن أين مسئوليته أمام مجتمعه وأمته؟ فقد ضعف تمامًا عن حمل مسئولية الشعب.
وكان باستطاعة الخليفة أن يجهز من داخل العراق في ذلك الوقت مائة وعشرين ألف فارس، فضلًا عن المشاة والمتطوعين، فالجيش التتري الذي حاصر بغداد كان مائتي ألف، فكان هناك أملًا كبيرًا جدًا في رد الغزاة، ولكن الخليفة كان مهزومًا من داخله، وفاقدًا للروح التي تمكنه من المقاومة، كما أنه لم يربِ شعبه أبدًا على الجهاد، ولم يعلمهم فنون القتال، فلم يوجد معسكرات للتدريب تعد شباب الأمة ليوم كيوم التتار، ولم يهتم بالسباحة والرماية وركوب الخيل، ولم يجهز الأمة معنويًا لتعيش حياة الجد والنضال.
وأنا لست متحاملًا على الخليفة أبدًا، فقد حكم البلاد (١٦) سنة، وأعطي الفرصة الكاملة لإدارة البلاد، فكان عليه أن يعد العدة، ويقوي من شأن البلاد، ويرفع من هيبتها، ويعلي من شأنها، ويجهز جيشها، ويعزز رأيها إن كان كفؤًا، وإن لم يكن كفؤًا وكان صادقًا فعليه أن يتنحى عن الحكم ويترك الأمر لمن يستطيع، فهذه ليست مسئولية أسرة أو قبيلة، وإنما مسئولية أمة عظيمة كبيرة جليلة، أمة هي خير أمة أخرجت للناس، ولكن الخليفة لم يعمل هذا ولا ذاك، فلا قام بالإعداد ولا بالتنحي، فكان لا بد أن يدفع الثمن، ولا بد لشعبه الذي رضي به أن يدفع الثمن معه.
والبلاد لم يكن ينقصها المال اللازم لشراء السلاح أو تصنيعه، فقد كانت خزائن الدولة ملأى بالأموال والسلاح، ولكنه إما سلاح قديم بال عفا عليه الزمن، وأكل عليه الدهر وشرب، أو سلاح جديد عظيم جدًا، ولكنه ما تدرب عليه أحد.
فهذا هو جيش الخلافة العباسية الذي سيواجه التتار.
5 / 7