The Tatars from the Beginning to Ain Jalut
التتار من البداية إلى عين جالوت
Géneros
مقدمة ابن الأثير لحادثة التتار
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فمع المحاضرة الثانية من محاضرات قصة التتار من البداية إلى عين جالوت، ذكرنا في المحاضرة السابقة قصة نشأة دولة التتار، وحالة الضعف الشديد التي كانت تمر بها أمة الإسلام والفرقة والتشتت والترف والتمسك بالدنيا، وهذه الحالة أدت إلى اجتياح تتري لشرق الدولة الخوارزمية واحتلال مدينة بخارى المسلمة واستباحتها استباحة تامة، فقتل الرجال واغتُصبت النساء وأُسر الأطفال وأحرقت الديار والمساجد، كل هذا تم في أواخر السنة السادسة عشرة بعد الستمائة من الهجرة، وكانت هذه الأحداث المؤلمة مجرد مقدمة لأحداث أشد إيلامًا.
انتهت سنة ٦١٦ هـ باحتلال مدينة بخارى وإقليم كازاخستان المسلم، لتبدأ سنة ٦١٧ هـ بأحداثها الرهيبة.
وقد كانت ٦١٧ هـ من أبشع السنوات التي مرت على المسلمين منذ بعثة الرسول ﷺ وإلى هذه اللحظة، فقد علا فيها نجم التتار، حتى اجتاحوا البلاد الإسلامية اجتياحًا لم يُسبق، وأحدثوا فيها من المجازر والفظائع والمنكرات ما لم يُسمع به مطلقًا ولا يُتخيل أصلًا.
وأرى أنه من المناسب أن نقدم لهذه الأحداث بكلام المؤرخ الإسلامي العلامة ابن الأثير ﵀ في كتابه القيم الكامل في التاريخ، وكلامه يعتبر به في هذا المجال أكثر من غيره؛ لأنه كان معاصرًا لهذه الأحداث، فقد عاش في نفس الفترة التي تمت فيها هذه الأحداث ورأى بعينه وسمع بأذنه ﵀، وليس من رأى كمن سمع، فهو يقدم لشرحه لقصة التتار في بلاد المسلمين بقوله: لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلًا وأؤخر أخرى.
ثم يقول كلمة غريبة جدًا وعجيبة ومؤلمة، يقول: فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ والذي كان معاصرًا لهذه الأحداث ظن أن هذه بداية النهاية، وأنها علامات الساعة الكبرى، وأن الأرض ستنتهي الآن وسيبدأ يوم القيامة، ولم يظن أن أمة الإسلام ستبقى بعد هذه الأحداث.
يقول ﵀: فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا.
ثم يقول: إلا أنه حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا.
أي: أن كتابة القصة أو عدم كتابتها لن يقدم ولن يؤخر، فلماذا لا تُكتب ليستفيد المسلمون بعد ذلك منها؟ ثم يقول مقدمًا للقصة: فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكرى الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله ﷾ آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث -أي: الحوادث السابقة- ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرّب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس؟ وما بنو إسرائيل إلى من قتلوا -أي: بنو إسرائيل كلهم في ذلك الوقت ما نسبتهم إلى الذين قُتلوا من المسلمين-؟ فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم.
ثم يقول قولًا غريبًا عجيبًا، فيقول: ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويُهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد.
فعند ابن الأثير ﵀ أن فتنة التتار وبأسهم وقوتهم أشد من فتنة الدجال، وفتنة الدجال أشد وأمر، ولكن من شدة المأساة وقع هذا الكلام على لسانه ﵀.
ثم يقول: بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة في بطون أمهاتهم.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كانت هذه مقدمة كتبها ابن الأثير ﵀ لكلام طويل جدًا يفيض ألمًا وحزنًا وهمًا وغمًا، لقد كانت كارثة على العالم الإسلامي بكل المقاييس، بمقاييس الماضي والحاضر والمستقبل، فإن هذه المصيبة تتضاءل إلى جوارها كثير من مصائب المسلمين في كل العصور.
2 / 2