الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين
الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين
Editorial
-
Número de edición
الخامسة
Géneros
المجلد الأول
مقدمة
...
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، فإنه من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ١، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ ٢، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ ٣.
ثم أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي سيدنا محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ومن يردِ الله به خيرًا يفقهه في الدين.
اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل يا رب العالمين، ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
ليس يرتاب عاقلٌ في أن العلم خير ما فيه سُعِيَ، وأولُ ما له العبد دُعِيَ،
_________
١ سورة آل عمران الآية ١٠٢.
٢ سورة النساء الآية ١.
٣ سورة الأحزاب الآيتان ٧٠، ٧١.
1 / 5
وأن أي علم يشرف بشرف موضوعه، فأنى يكون شرف من يجعل القرآن قبلته، وبيان ما نزل عليه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم وجهته، من ذا عساه أن يسكنه حقيقته، أو أن يدرك قصده وغايته لن يكون إلا الموفق، وإذا حقق النظر متأمل ودقق فسيجد الموفقين ثلة من الأولين وقليلا من الآخرين شأنهم شأن السابقين، ونعني بهم أولئك الذين عكفوا على كتاب الله وسنة رسوله، ورأوا أنهما أصلا هذا الدين، وأن الصلة بينهما صلة التواثق والتوافق والترابط والتطابق.
وحجية السنة ومكانتها في التشريع ومنزلتها من كتاب الله تعالى وعلاقتها به كل هذه المسائل قُتلت بحثا، وأمعن الناس دراستها، وأسهبوا في بسطها، شأنها في ذلك شأن بقية الموضوعات المتصلة بالكتاب والسنة.
فلقد حشد الله لكتابه ولسنة نبيه الكثير من الجهود جمع على مائدتهما الفينانة قلوب الكثيرين، يجمعون ويحصلون ويقعدون ويأصلون ويهذبون ويرتبون ويقومون وينظمون، وقل أن تجد لاحقا إلا وله استدراك على من سبقه، مما كان له الأثر البعيد في إثراء الفكر وتكوين تراث خالد، أتاح الفرصة لمن جاء بعد لأن ينهل من هذا الموروث الخالد، ولا عليه إلا أن يعب من هذا المزاج الخالص السائغ للقارئين النهمين.
فطالب التفسير يمكن له أن يشفي علته، وأن يروي غلته في تلك الدراسات القرآنية المتشعبة بأصحابها، والمنوعة لهم إلى باحث عن أسباب للنزول، وآخر يبحث عن الناسخ والمنسوخ، وثالث يطلب معرف مكي الآيات من مدنيها، ورابع يتوق إلى إبراز وجوه الإعجاز وإظهار الصور
1 / 6
البيانية التي أعجز بها القرآن أرباب البلاغة والبيان، وأساطين الفصاحة، وخامس يتتبع القراءات، وسادس يبتغي توضيح غريب الكلمات، وهناك من جمع شتات هذه الأبحاث كلها فأمعن النظر في الآيات مستنبطا وجوه تأويلها من الروايات، أو محاولا تفسيرها في ضوء ما صح عند أهل اللغة من استعمالات، فتنوع التفسير إلى تفسير بالمأثور، وتفسير بالرأي، وتنوع الأخير إلى محمود ومذموم، وتعددت إذن الاتجاهات وكثرت الموارد والمشارب، وتملكت الناس المآرب، وتفاوتت الأذواق، واختلفت المدارك، مما تطلب البحث في مناهج المفسرين تقييما لجهودهم وتمييزا بين منحرفهم ومستقيمهم وتفريقا بين صحيحهم وسقيمهم، فنشأ علم جديد عرف باسم "مناهج المفسرين" اعتمدت مادته على تتبع ما كتبه المفسر والخطوات التي اتخذها في تفسيره، والنهج الذي سلكه فيه، ومقارنته بمشابهه في ذلك أو محاكيه، وانساحت مباحث هذا العلم الجديد قديما في كتب علوم القرآن "كالبرهان في علوم القران لأبي عبد الله بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي المتوفى سنة أربع وتسعين وسبعمائة" و"الإتقان للجلال الدين السيوطي المتوفى في سنة إحدى عشر وتسعمائة"، ولن يبعد النجعة من اعتبر الحواشي التي حشي بها على كتب معينة مادة خصبة لمناهج المفسرين ذلك أن المحشي غالبا ما يتعقب المحشي عليه يلاحقه بالنقد والتمحيص.
ولم تكن السنة عند ذوي الألباب، ولن تكون أقل شأنا من الكتاب، فقد حظيت بما حظي به من الاهتمام، واحتفدت حولها الأفهام وتكاتفت الجهود خدمة لحديث خير الأنام، وماذا يعني حديثه صلى الله
1 / 7
عليه وسلم؟ إنه يعني الأقوال والأفعال، والصفات والتقريرات، والهم والإشارات والحركات والسكنات والعادات، بعبارة أوجز يعني كل ما صدر عنه أو عن غيره ويعلمه بالحضور، أو بإعلام عالم الغيب والشهادة إياه به سواء كان فعلا أو تركا طيلة زمن الوحي على مدى ثلاثة وعشرين عاما، كل ذلك يصدق عليه لفظ حديث أو لفظ سنة.
وما أوسع دائرة هذا اللفظ وما أرحب الأفق التي تنضوي تحته، وما أعظم مسئولية الذين يتحملون أمانة الحفظ والوعي، ثم النقل والأداء للحديث أو للسنة.
كيف كان تحملهم وكيف كان نقلهم وأداؤهم وما حال الذين تحملوا عنهم، وما طرقهم في الرواية وأساليبهم في أخذها وإعطائها، ما الأدوار التي مر بها المنقول منذ عصر الرسول ﷺ إلى الآن، وما الأهوال التي هالت الذين ناءوا بهذا الأمر الجليل، وما الرياح العاتية التي هبت أعصاير قاصفة في كل العصور تريد النيل من هذا المنقول، أو العبث به، أو التطاول على حصن الدين من خلاله. والمحدثون على مر السنين يمثلون الطود الراسخ، لا تلين لهم عريكة ولا تنكسر لهم قناة، وهم يواجهون في صبر وأناة ضراوة أولئك العداة.
ماذا نقول عنهم أو فيهم، في أي موقع تبوءوه أو في أي زمان عاشوه، موقع الصحابي الذي أشرق نور النبوة في قلبه ففاض إشعاعه على عقله ولسانه، وبدت نضارة وجهه حين حفظ ووعى ما سمع وبلغ كما سمع.
ما أحوجنا إلى استكناه السبل التي سلكها الصحابة رضوان الله عليهم
1 / 8
خدمة للسنة الغراء، ثم وإن راقنا الانتقال إلى موقع آخر أو شاقنا تتبع الزمان فماذا هناك؟ تابعون بإحسان عظمت مهمتهم وتجاسمت مسئوليتهم باتساع دائرة التبليغ والإسماع لكل ما تحملوه عن الصحابة، وبانخراط بعض من لبسوا مسوح الكباش، وكانت قلوبهم أمر من العلقم، عجزوا عن مواجهة هذا الدين كفاحا فلم يقابلوه في ساحات الوغى، وإنما تظاهروا بقبوله واندسوا بين صفوف أبنائه، يكيدون له، ويحاولون النيل منه، فمن لهم ولكيدهم، ومن لدسهم وسمهم. وإذا قال قائلهم: "وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أحل فيها الحرام، وأحرم فيها الحلال" كان الإسكات لهذا الضلال، والإهلاك لهذا الوبال يتمثل في هذا الرد "يعيش لها الجهابذة" ويمثل لهم بعبد الله بن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهما.
لكأني أتمثل حال الإمام الجهبذ المفضال "يحيى بن معين" المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وهو يجلس، وبين عينيه سجل حافل بأخبار كل من اشتغل بالرواية على مدى قرنين وثلث قرن، والرجل لا يعرف عن الراوي سنة مولده أو سنة وفاته فحسب، ولا يكتفي بمعرفة حاله في الرواية وما قيل فيه من مدح أو قدح، بل إنه يتتبع دقائق حله وترحاله وتفصيلات حياته، فيعرف من لقيهم ممن لم يلقهم، والذي لقيه ماذا أخذ عنه وماذا لم يأخذ، وتصل المعرفة بالدقائق والتفصيلات إلى حد رواية الراوي لمجرد ذكر اسمه عند صيرفي خبير بالحديث فامتخط، أو لكونه رآه يركض على
1 / 9
برذون. نقل السيوطي عن الخطيب أنه "قيل لشعبة١: لم تركت حديث فلان؟ قال: رأيته يركض على برذون فتركت حديثه، وروي عن مسلم بن إبراهيم٢ أنه سئل عن حديث صالح المري٣ فقال: وما تصنع بصالح؟ ذكروه يوما عند حماد بن سلمة٤ فامتخط حماد"٥.
يا سبحان الله! أي أناس كانوا؟ وأي عقول تلك التي حفظت لنا ذلك كله؟ وأي نزاهة وتجرد في الحكم بعد أن يروي مثل علي بن عبد الله المديني شيخ البخاري المتوفى سنة أربع وثلاثين ومائتين قائلا: "حدثني أبي وكان غير ثقة"؟
ثم ماذا عن عشرات بل مئات الكتب التي عنيت بجمع الروايات وحشدها، وتنوعت أساليب مصنفيها فمن جامع لمرويات الصحابي الواحد ولا يعنيه إلا كونها من رواية ذلك الصحابي بغض النظر عن مضمونها
_________
١ شعبة بن الحجاج بن الورد المتوفى سنة ستين ومائة، انظر تذكرة الحفاظ ج١ ص١٩٣-١٩٧.
٢ مسلم بن إبراهيم الأزدي مولاهم أبو عمرو الحافظ المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومائتين، انظر التهذيب ص١٢٣ ج١٠.
٣ صالح بن بشير بن وداع المري "بضم أوله وتشديد ثانيه" مات سنة ست أو اثنتين وسبعين ومائة وأكثرهم على تضعيفه، انظر تهذيب التهذيب ج٤ ص٣٨٢-٣٨٣.
٤ حماد بن سلمة بن دينار المتوفى سنة سبع وستين ومائة، انظر تذكرة الحفاظ ج١ ص٢٠٢.
٥ تدريب الراوي ج١ ص٣٠٦.
1 / 10
إلى آخر يراعي معانيها ومدلولها، ويمزجها بغيرها من فتاوى الصحابة والتابعين، ويوطئ بها للتصنيف في الحديث، إلى ثالث يرتب على الأبواب ويفرد الصحيح بالذكر في الكتاب دون غيره، إلى رابع يعنى بجمع أحاديث الأحكام، فخامس يجعل غاية أمره أن لا يخرج حديث من أجمعوا على تركه، فسادس يستدرك، فسابع يبين المبهم ويقيد المهمل، فثامن يوضح الغريب ويشرحه، فتاسع يعنى بالرجال وضبط أسمائهم وألقابهم وكناهم، فعاشر يعنى باستنباط الأحكام الفقهية ويؤيد بالنص هذا المذهب، أو ذاك، واحشد مع كل عدد ما شئت.
فإن تركت كتب المتون فما أوسع دائرة الفنون التي فننها المحدثون؛ فمن كتب في الطبقات إلى مصنفات في الرجال. فتنويع لهم، إلى ثقات وضعفاء ومتروكين، فموازين تنصب طلبا للاعتدال في نقد الرجال، حين يؤول الأمر إلى الاحتمال، ثم كتب في العلل الخفية التي تقدح في صحة الحديث، كوصل مرسل، أو اتصال منقطع أو رفع موقوف، أو غير ذلك ثم كتب في الناسخ والمنسوخ وكتب في غريب الحديث، كتب في تأويل مختلفه إلى غير ذلك مما لا يحصي القلم أسماؤه فكيف بمسماه؟
أليس الرواة قمينين بدراسة مناهجهم في الروايات، أليس من جاء بعدهم جديرين بمعرفة طرقهم في البحث والتمحيص والتخليص للأصل الثاني مما حاول المغرضون أن يلحقوه به.
أليس الذين أفنوا أعمارهم جمعا للحديث وحسن تبويب له وترتيب له وذبا للكذب عن ساحته بمستحقين لأن نطيل الوقوف أمام مناهجهم.
1 / 11
لا يسع أحدا أن يجيب إلا بقوله: بلى. فنحن أحوج ما نكون إلى أن نعيش في أنوار المحدثين، نسري على قبسهم، ونستهدي بسناهم، ونقتدي بهداهم، فهذه نفحات من سيرهم، ولمحات من حياتهم، وومضات من سلوكياتهم، وقبسات من خطواتهم التي خطوها على طريق النور المحمدي وليست المحاولة بدعا في بابها، فقد سبقت بجهود أئمة فضلاء، واعتمدت على محاولات نخبة من النبهاء في القديم وفي الحديث، فكل كتب علوم الحديث لا تخلوا من إشارات بل وربما توضحيات لكثير من مناهج المحدثين، وقريبا من هذا الحين كانت هناك محاولات أقرب إلى التخصص في مناهج المحدثين إن لم تتمحض له ككتاب فضيلة أستاذنا الكبير المغفور له الأستاذ محمد محمد أبو زهو الذي جاء تحت عنوان "الحديث والمحدثون" وحاكى به كتاب "التفسير والمفسرون" للأستاذ الدكتور المغفور له "محمد حسين الذهبي".
وهناك أيضا "أعلام المحدثين" لفضيلة الأستاذ الدكتور المغفور له أبي السادات محمد محمد أبي شهبة صاحب المؤلفات الكثيرة والغزيرة في التفسير والحديث والسيرة.
وهذه خطوة نسأل الله أن يعطيها ضوءها لتلمع في سماء الواقع، مبينة عن مناهج المحدثين، وعن الأطوار التي مر بها الحديث والمحدثون منذ عهد النبي ﷺ إلى هذا الحين، ولسوف نحرص على الاستقصاء ما وسعنا ذلك، وندأب على الإطالة متجنبين الملل ما استطعنا، وقد استخرت الله في تسمية هذا الكتاب فألهمني، وأسأله أن يكون ما ألهمته هو الصواب، وسميته "الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين".
1 / 12
فنبدأ الجزء الأول بكلمة في التعريف بمناهج المحدثين كعلم، وبيان أهميته، وثم نثني بالكلام على الحديث في العهد النبوي، لتتضح خصائصه وتبدو معالمه من خلال دور نبي الرحمة ومعلم الحكمة ﷺ في الحض على طلب العلم عامة، وتلقي الحديث ونقله خاصة، ثم حرص التلاميذ النجباء وما بدا منهم من تسابق وتنافس على الأخذ والتلقي مما أدى إلى انتشار الحديث إلى غير ذلك من العوامل التي أدت إلى انتشاره، ثم نعرض للحديث في عهد الصحابة وكيف كان حرص الراشدين عليه، تحوطا في تحمله، ثم في أدائه، ثم نتابع المسيرة مع التابعين فنعرض لمن ظهر منهم وتألق، ونيمم وجوهنا من غرب منهم وشرق، طلبا لتبليغ الحديث متتبعين أهم المدارس الحديثية، ومناهج أساتذتها، ثم نعرض بعض النماذج الرائدة في حفظ الحديث وتبليغه من الصحابة والتابعين، ثم ننتقل إلى القرن الهجري الثاني لنطلع على مناهج المحدثين فيه، فنقف على انتشار تدوين الحديث، أسبابه، تنوع مناهج المحدثين، أشهرا ما دون في هذا القرن وأشهر المدونين، إلى غير ذلك مما نستعين الله على بيانه.
فاللهم علمنا من علمك، وذكرنا ما نسينا، وافتح علينا أبواب رحمتك وخذ بأيدينا، واشرح صدورنا ويسر أمورنا واحلل ما تعقد في طريقنا.
1 / 13
التعريف بمناهج المحدثين كعلم وبيان أهميته:
بين لك أن قولك "مناهج المحدثين" مركب إضافي مكون من كلمتي "مناهج" مضاف و"المحدثين" مضاف إليه.
وكلمة "مناهج" كلمة مجموعة على صغية منتهى الجموع؛ فهي على وزن "فعالل" الوزن الذي اختاره وشبهه الصرفيون جمعا لما فوق الثلاثة ارتقى وقواعد الميزان الصرفي تقتضي أن يكون وزن كلمة "مناهج" "مفاعل" ومفردها "منهج" وهي مصدر ميمي" لنهج" ينهج مفتوح العين في الماضي والمضارع من باب قطع وفتح والمصدر الأصلي منه "نهج" بفتح فسكون ويدور معناه على البيان والوضوح.
قال الراغب "نهج: النهج الطريق الواضح ونهج الأمر وأنهج وضح ومنهج الطريق ومنهاجه، قال ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ ومنه قولهم: نهج الثوب وأنهج بان فيه أثر البلى، وقد أنهجه البلى١ وقريبا منه ما ذكره ابن الأثير٢، وقد زاد أن النهج بفتح أوله وثانيه تتابع صوت النفس بسبب الربو أو سرعة الحركة وشدة الإجهاد، وأن فعله نهج بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، وعليه فبابه تعب.
والنهج والمنهج والمنهاج ثلاثتها بمعنى. قال الفيروزآبادي: "النهج: الطريق الواضح كالمنهج والمنهاج وبالتحريك البهر وتتابع النفس، والفعل كفرح وضرب وأنهج وضح وأوضح، والدابة سار عليها حتى انبهرت
_________
١ المفردات، في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص٥٠٦.
٢ النهاية في غريب الحديث والأثر ج٥ ص١٣٤.
1 / 14
عليها حتى انبهرت، والثوب أخلقه كنهجه كمنعه، فنهج الثوب -مثلثة الهاء- بلي، كالنهج ونهج كمنع وضح وأوضح، والطريق سلكه، واستنهج الطريق صار نهجا كالنهج، وفلان سلك مسلكه١.
من كل ما سبق بدا لك أن كلمة منهاج تعني الطرق الواضحة والمسالك البينة للمحدثين، فكأن الإضافة بمعنى اللام، فمن المحدثون؟ الكلمة جمع مذكر سالم مفرده "محدث" اسم فاعل من التحديث، لقب من الألقاب التي خص بها جماعة معينة، ترى ما مؤهل استحقاق هذا اللقب، اختلفت عباراتهم في تحديد القمين بأن يوصف بوصف محدث "فالمسند" بكسر النون، هو من يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به، أو ليس له إلا مجرد روايته، وأما المحدث فهو أرفع منه بحيث عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال. وأكثر من حفظ المتون وسماع الكتب الستة والمسانيد والمعاجم والأجزاء الحديثية، وأما الحافظ فهو مرادف للمحدث عند السلف.
وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس: المحدث في عصرنا: من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع بين رواته، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك، عرف فيه خطه، واشتهر فيه ضبطه، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيوخ شيوخه طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله فهذا هو الحافظ
_________
١ القاموس المحيط ج١ ص٢١٨.
1 / 15
وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم، كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء فذلك حسب أزمنتهم١.
ونحن نرى أن سعة أفق المحدث وكثرة حفظه قضية نسبية تختلف باختلاف الزمان والاستعداد، فبينما حدها الأقدمون بما ذكر نستطيع نحن الآن أن نحد المحدث أو أن نسمه ونصفه بأنه المشتغل بصنعة الحديث الخبير بها، وعليه يكون المقصود بهذا التركيب الإضافي "مناهج المحدثين" طرق البحث عندهم، وكيفية تحصيلهم للحديث، وسبل جمعهم له ووسائل فهمهم وهضمهم لمسائله، فأفق الدراسة إذن واسعة أمام المتكلم في هذه المادة.
إن كل محاولة بذلت في جمع الحديث أو من أجله تصلح لتكون محور الدراسة في منهاج المحدثين، وإذا كانوا قد اصطلحوا على تقسيم علم الحديث إلى قسمين: "رواية" ويعنون به العلم المشتمل على نقل ما أضيف إلى النبي ﷺ من قول أو فعل أو وصف خِلْقي أو خُلقي أو تقرير، و"دراية" يعنون به العلم المشتمل على قوانين وقواعد يعرف بها حال السند والمتن من صحة وحسن وضعف وعلوٍّ ونزول ورفع ووقف وقطع وكيفية التحمل والأداء ومعرفة صفة الرواية وحال الرواة، وغير ذلك؛ وإذاكانوا قد اصطلحوا على ذلك، فكل ما صنف في العلمين: الرواية والدراية من صميم تخصص الباحث في مناهج المحدثين، فأي أفق تلك التي سينساح
_________
١ قواعد التحديث ص٧٦-٧٧ وانظر علوم الحديث للدكتور صبحي الصالح ص٧٥.
1 / 16
فيها؟ وأي وجهة تلك التي سيوليها؟ أيولي وجهه شطر الرواية، وما أدراك ما المصنف فيها، وما الحديث عنها ومعها بالمنقضي أبدا؟ أم يولي وجهه شطر الدراية، وهي القوانين التي تنضبط بها الرواية، فهي منها بمنزلة قواعد المنطق تعصم الذهن من الخطأ في الفكر، أو بمنزلة مسائل أصول الفقه من الفقه تمثل القواعد التي يرجع إليها الناد والشارد، أو بمنزلة أصول القراءة وأحكام التلاوة من القرآن لا يكون قرآنا إلا بها، ولا تأتي قراءته إلا من خلالها.
وأنواع علوم الحديث كثيرة ومادتها غزيرة، قال السيوطي: "اعلم أن أنواع علوم الحديث كثيرة لا تعد، قال الحازمي١ في كتاب "العجالة": علم الحديث يشتمل على أنواع كثيرة تبلغ مائة، كل نوع منها علم مستقل لو أنفق الطالب فيه عمره لما أدرك نهايته، وقد ذكر ابن الصلاح٢ منها، وتبعه المصنف٣ خمسة وستين، وقال: وليس ذلك بآخر الممكن في ذلك
_________
١ الحازمي هو أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم المولود سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، والمتوفى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، نبغ في فنون الحديث، وعرف بسعة الحفظ لمتونه، وسعة المعرفة برجاله وأسانيده. انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ ج٤ ص١٣٦٣، والبداية والنهاية ج١٢ ص٣٣٢، وتهذيب الأسماء واللغات ج٢ ص١٩٢.
٢ هو تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة. انظر ترجمته في طبقات الحفاظ ص٤٩٩-٥٠٠.
٣ يقصد به شيخ الإسلام أبا زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة ست وسبعين وستمائة، إذ هو صاحب التقريب والتيسير الذي شرحه السيوطي.
1 / 17
فإنه قابل للتنويع إلى ما لا يحصى: أحوال رواة الحديث، وصفاتهم، وأحوال متون الحديث، وصفاتها، وما من حالة منها ولا صفة إلا وهي بصدد أن تفرد بالذكر وأهل له، فإذا هي نوع على حياله"١.
لعله من نافلة القول أن نقول ما أهم هذا العلم، وما أمس الحاجة إليه، إن أي علم يكتسب أهميته من أهمية موضوعه، وموضوع "مناهج المحدثين" هو كل محاولة بذلت خدمة للحديث رواية ونقلا وتحصيلا وجمعًا وفهمًا وهضمًا وتأصيلا وحكمًا وتوضيحًا وتبيينًا، بقدر رحابة واتساع دائرة البحث في هذا العلم تعظم أهميته، وتجل عن الوصف قيمته وتتضاءل الكلمات دون التعبير عن منزلته ومكانته.
_________
١ تدريب الراوي ج١ ص٥٣.
1 / 18
المبحث الأول: الحديث في العهد النبوي
القرآن يقدم الحديث وصاحبه إلى الأمة:
قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ١، وقال عز ذكره: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ٢.
في قمة الامتنان، وفي معرض الحديث عن دروب الإنعام والإحسان التي منّ بها الرحمن على الإنسان، يسوق لنا القرآن بآكد أسلوب وأقواه حديثا عن مهام الرسول الخاتم ﷺ، وإنما ينتفع به المؤمن وتظهر وجوه التفضيل به على المؤمنين الذين يشرق نوره في قلوبهم، وتسطع أضواؤه في كل جوانب حياتهم، فينكشف لهم تمام المنة به عليهم.
واللام في قوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ﴾ موطئة للقسم، والتقدير: والله لقد منّ، والمنّ في لغة القرآن يجيء على معانٍ منها: ما ينزل من السماء، الذي قالوا فيه: إنه
_________
١ سورة آل عمران ١٦٤.
٢ سورة الجمعة ٢.
1 / 19
أحلى من العسل، وهو الذي أنعم به على بني إسرائيل ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾، ومنها القطع كقوله: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ ومنها أن تمنّ بما أعطيته للغير وتتحدث عنه فيتأذى به ذلك الغير.
ومنه قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى﴾ .
ومنها: الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه كقوله: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ والمنان في صفة الله تعالى: المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا.
والمفسرون١ على أن ﴿مَنَّ﴾ هنا بمعنى أحسن وأنعم على المؤمنين في علمه أو الذين يئول حالهم إلى الإيمان، منّ عليهم ببعث رسول عظيم من أشرفهم وأنبلهم وأكرمهم وأفضلهم وأوسطهم نسبا، ثم كان مهمة الرسول المبينة في هذه الآية تمثل ثلاث حلقات: قراءة للآيات، وتبليغ لها، وتزكية للنفوس وتطهيرها، وتعليم للكتاب وللحكمة، وقد علم أن الكتاب هو القرآن. فما الحكمة؟ لن تكون إلا السنة كما نص على ذلك أبو السعود٢، وسبقه إلى تقريره وتأكيده الشافعي٣، وهو يطلب ويستقصي أنواع بيان والسنة للقرآن.
_________
١ انظر التفسير الكبير المعروف بمفاتيح الغيب ج٩، ص٨٠، وروح المعاني ج٤، ص١١٤.
٢ إرشاد العقل السليم ج١، ص٤٤١.
٣ الرسالة للإمام الشافعي ص٣٢، وص٧٨.
1 / 20
وتزيدنا سورة الأعراف بعض الأوصاف التي كانت علامات وسمات واضحة فيه ﷺ، نصبت حتى قبل زمان نبوته، إقامة للحجة، وإسقاطا لمعذرة المتأبين على طاعته الرافضين لمتابعته ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ١.
وتتوجه سورة المائدة بالخطاب في أشد عتاب لأهل الكتاب على الإعراض عن الحق والتعامي عن النور ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ٢.
ومعروف أن الكتاب المبين إنما هو القرآن، ولن يكون النور إلا من كلف بالبيان.
من ذلك كله يتضح جليا المنزلة التي بوأها الله نبيه ﷺ، والصورة التي قدمه للناس من خلالها، إنه حبيبه ومصطفاه وخيرته من خلقه ومجتباه لتبليغ ما أراده من خلقه، فمنطقي أن يأمر بطاعته وأن يقرن
_________
١ سورة المائدة ١٥، ١٦.
٢ سورة الأعراف ١٥٧.
1 / 21
تلك الطاعة بطاعته جل في علاه فربما ينظمها أمر واحد، وربما تنفرد كل طاعة بأمر على استقلالها.
فالمؤمنون يقرءون في سورة آل عمران من كتاب ربهم المكنون: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ ١ وبعد تسع وتسعين آية يقرءون في نفس السورة: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ ٢.
سورة النساء تؤكد على وجوب طاعة الرسول والتحاكم إليه:
ثم يجيء إفراد كل من الطاعتين على الاستقلال في سورة النساء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ ٣.
وأعجب كل العجب لإفراده طاعته بأمر وطاعة رسوله كذلك، ثم تأمل دمج طاعة أولي الأمر في طاعته تعالى، وطاعة رسوله ﷺ، وإيجابه علينا رد ما يعرض فيه التنازع إلى الله ورسوله، وبعد خمس آيات يجيء قسم أصدق القائلين، ففيم القسم؟ وعلام يقسم؟ على نفي الإيمان عن كل من لم يحتكم إليه ويحكمه فيما شجر أو ظهر من نزاع، بل ولا يكتفي
_________
١ سورة آل عمران ٣١، ٣٢.
٢ سورة آل عمران ١٣٢.
٣ سورة النساء ٥٩.
1 / 22
بمجرد التحاكم، بل لا بد من الرضا التام عن كل ما صدر من الأحكام، والإذعان والتسليم والقبول لقضاء الرسول ﷺ ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ١.
ونترك الحافظ ابن كثير المؤرخ المفسر المحدث يسفر ويبين عن مناهج المحدثين في فهم وإفهام آي التنزيل "يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحدكم حتى يحكم الرسول ﷺ في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا؛ ولهذا قال: ﴿ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ .
أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة.
كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
ثم ساق رواية البخاري بسنده عن عروة قال: "خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة٢، فقال النبي ﷺ: "اسق يا زبير ثم أرسل
_________
١ سورة النساء ٦٥.
٢ قوله "شراج" بكسر الشين جمع شرج بفتح فسكون كبحر وبحار، ويجمع على شروج، والمراد به هنا موضع مسيل الماء. و"الحرة" اسم مكان في المدينة. "فتح الباري بتصرف ج٥ ص٤٣٣".
1 / 23
الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله ﷺ، ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فاستوعى النبي ﷺ للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما ﷺ بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ الآية"١.
وأشار الحافظ ابن كثير إلى أن البخاري أخرج الحديث في كتاب التفسير والشرب والصلح، وأن الإمام أحمد وافقه على إخراجه، وأن أكثر طرقه فيها إرسال لأن عروة بن الزبير لم يسمع من أبيه.
والراجح أنه سمعه عن عبد الله عن أبيه، وقد رجح البخاري بإخراجه له اتصاله بناء على ترجح سماع عروة من الزبير، وكيفما درا الحديث فهو عن الثقات.
والحديث يحكي نازلة حدثت مع الزبير، وكل من عروة وعبد الله توجد عندهما داعية قوية لحفظه لتعلقه بأبيهما.
وقد استرسلنا مع هذا الحديث لشدة الإعجاب بتحكم الصنعة الحديثية في ابن كثير٢.
_________
١ البخاري في كتاب الأشربة ج٥ ص٤٣١، وأخرجه في كتاب التفسير ج٩ ص٣٢٣ بهامش الفتح.
٢ تفسير ابن كثير ج١، ص٥٢٠-٥٢١ "بتصرف".
1 / 24