The Completion of Knowing the Hadiths Not Ruled by the Jurists
الانتهاء لمعرفة الأحاديث التي لم يفت بها الفقهاء
Editorial
دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤١٦ هـ - ١٩٩٦ م
Ubicación del editor
بيروت - لبنان
Géneros
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: الانتهاء لمعرفة الأحاديث التي لم يفت بها الفقهاء
المؤلف: أبو عبد الله عبد السلام محمد عمر علوش
الناشر: دار ابن حزم - بيروت
سنة الطبع: ١٤١٦ هـ - ١٩٩٦ م
عدد المجلدات: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
1 / 4
المقَدِّمَة
الحمد للَّه القائل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) في تنزيله، والذي جعل أصدق القول في قيله، وأحسن الهدي هدي رسوله، وأشهد أن لا إله إلا هو لا منتهى لتبجيله، وعلمه وتفصيله، وكتابه وتأويله، وأشهد أن محمدًا قد اصطفاه على خلقه بالرسالة لسائر العوالم، ومبلغ المعالم، بإتمام المكارم، وإبطال المظالم، وإحكام القواعد، وإرساء الأوابد، بشيرًا ونذيرًا، وسراجًا منيرًا، فأدَّى وبلَّغ، وأتم فأبلغ.
فلم يكن لمتبعيه عن هديه تحويلًا، وعن الثابت من قوله محيلًا، إلا
ببرهان بين، وصارف من الدليل متعين، بعد أن لزمتهم الحجة في قوله تعالى
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (٣٦).
وإن الواقفين على أحاديث النبي ﷺ التي في الأحكام، وشرائع الإسلام، وعلى فتاوى العلماء، والمجتهدين والفقهاء، ما يجدون من مقبول حديثه مطروحًا، ولا من متروك صحيحه إلا مقدوحًا، قد ظهرت صحته، وخفيت علته.
والمطلعون على علل الأخبار، وضعيف الآثار، يعلمون أن المفتين قد أفتوا وعملوا بالضعيف المردود، بل الواهي والمسرود، هو واقع في مسائلهم؛ بعضهم أكثر من بعض، بحسب ما لهم في هذه الصنعة من علوم
1 / 5
النقض. والإعلال والدحض، وكثرة الاطلاع، وشدة التحري في الاتباع، وما لبسطه في غير هذا المقام اتساع.
فإذا علمت أن هذا فعلهم في الضعيف، فكيف هو بالصحيح المنيف، والحسن الرهيف. ثم إني أجلت البصر في النصوص، وفتاوى أهل الخصوص، فوقفت فيها على أحاديث يسيرة، وجمل عسيرة، قد ندت أوابدها، وأطلقت مقايدها، وليس من قائل يقول بها، مع ظهور السلامة من الانتقاد، أو الجواب عن رد أهل الاجتهاد، على ما سيأتي تفصيله، وترتيبه وتذييله. فوقع في نفسي لذاك التصنيف والتحرير، واستعنت عليه بالعليم الخبير، وسميته: "الانتهاء، لمعرفة الأحاديث التي لم يفت بها الفقهاء ".
وقسمت الكتاب لبابين وسبعة فصول:
- الباب الأول: وقد اشتمل على خمسة فصول.
١ - الفصل الأول: في تعريف خبر الواحد.
٢ - الفصل الثاني: في اتفاق العلماء على العمل بخبر الواحد.
٣ - الفصل الثالث: في بيان أدلة القائلين بالاحتجاج.
٤ - الفصل الرابع: في بيان الشروط التي ذكرها بعض العلماء للعمل
بالخبر ومناقشتها.
٥ - الفصل الخامس: في ذكر شرطنا في الكتاب لإيراد الخبر الذي لم
يفتوا به.
- الباب الثاني: واشتمل على فصلين.
الفصل الأول: في ذكر الأحاديث التي على شرط الكتاب.
1 / 6
الفصل الثاني: في ذكر بعض الأحاديث التي ليست على شرطنا فيه.
والحمد للَّه أولًا وآخرًا.
وكتب أبو عبد الله راجي رحمات ربه
لتسع خلون من شهر ربيع الآخر
لسنة ألف وأربعمائة وأربع عشرة للهجرة
على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام
1 / 7
الباب الأول
1 / 9
الفصل الأول: في تعريف خبر الواحد
وهو ما رواه الواحد أو الاثنان دون أن يبلغ حد الشهرة أو التواتر. ويرى بعض أهل العلم بل أكثرهم أن لا دخل للشهرة في تعريف خبر الآحاد، فيقولون: "الخبر نوعان: متواتر وآحاد ".
فهؤلاء بمقتضى تعريفهم يكون الحديث أو الخبر غير المتواتر آحادًا، وهذا المستتب عند جمهور الأصوليين من أئمة أصول الفقه.
والتعريف الأول هو المقول به عند أئمة أهل مصطلح الحديث. وبهذا يعرف أن الأول يدخل في الثاني بخلاف عكسه.
وبهذا يعرف أيضًا أن ثمرة الخلاف منتفية في وجوب العمل بالخبر، لأنهما قد اتفقا في تعريفيهما على اشتراك أقل الحديث رواية في كونه من أخبار الآحاد، فكان اتفاقهما على مما هو أعلى منه آكد.
وجميعهم إنما يريدون بخبر الواحد، الحديث المتصل الإسناد، الخالي من الشذوذ والإعلال والإعضال أو سائر العلل التي يعلل بها أئمة الحديث الخبر، مما هو مبسوط في كتب المصطلح.
1 / 11
فلم يعد من فرق بين خبر الواحد، وأصح الأحاديث المتواترة، إلا قلة الرواة في الأول عن الآخر.
1 / 12
الفصل الثاني: في ذكر اتفاق أهل العلم
على وجوب العمل بخبر الآحاد إلا من شذ
وقبل الشروع في بيان أعدادهم وتقسيماتهم، وأدلة إثباتهم ونفيهم، فالواجب معرفته أننا نعني هنا بالاحتجاج في مسائل التعبد وإثبات السنن، بخلاف ما يسوقه المتكلمون من مسألة إفادة العلم اليقيني من خبر الآحاد، وبخلاف ما يسوقه بعض المصنفين في العقائد من الاحتجاج به في العقيدة، وغيرها من المسائل، فتلك أشياء أخرى قد اختلفوا فيها واتفقوا، في ما يحتاج غير هذا الموضع لبيانه، وبسطه على النحو المرضي، وإنما القول عندنا هنا عن الاحتجاج فيما يستدل به الفقهاء على الأحكام الشرعية في إثبات الدلالات وإقامة الحجج والبراهين على انتصاب مسائل الحلال والحرام، والسنة والبدعة، وبنحوها مما هو ليس من جنس تلك المسائل الطويلة العريضة في المبنى، والتي إنما هي من عمل فئة قليلة من أهل العلم فضلًا عن المتعلمين.
قال الشوكاني ﵀ في الإرشاد:
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب العمل بخبر الواحد، وأنه وقع التعبّد به. وقال القاشاني والرافضة وابن داود، لا يجب العمل به، وحكاه
1 / 13
الماوردي عن الأصم وابن علية وقال: إنهما قالا: لا يقبل خبر الواحد في السنن والديانات، ويقبل في غيره من أدلة الشرع، وحكى الجويني في "شرح الرسالة" عن هشام والنظام أنه لا يقبل خبر الواحد، إلا بعد قرينة تنضم إليه وهو علم الضرورة بأن يخلق الله في قلبه ضرورة الصدق. قال: وإليه ذهب أبو الحسين اللبان الفرضي، قال بعد حكاية هذا عنه:
فإن تاب فالله يرحمه، وإلا فهي مسألة التكفير لأنه إجماع، فمن أنكره يكفر، انتهى.
قلت: وهذا الذي قاله هو أو نقله عن غيره فيه أمور:
أولها: أن من ذكر أسمائهم لا يكاد يعتد بأحد منهم أصلًا - أعني الثلاثة الأول - فإن القاشاني وابن داود ليسا ممن يخرق بخلافهم الإجماع، لكونهما ليسا من أئمة هذا الشأن أصلًا ولم يقع على قول أحد منهما التعويل في مسألة من مسائل الأصول أصلًا، ثم لم يأتيا كما سيأتي على حجة تذكر، ولذلك فكأن الجويني ﵀ رأى هذا المذهب، فذكر كما تقدم استكمال الإجماع، وحذر من مسألة التكفير في نقض الإجماع، لكن على ما سيأتي في خامسها.
وثانيها: إطلاقه القول في رفض الرافضة للاحتجاج به، وهو مردود، فإنه قول طائفة من الرافضة قليلة كما حكاه غير واحد منهم، كالكاظمي في " العناوين "، والجيلاني في " القوانين "، والحيدري في " أصول الاستنباط ". فلم ينسبوه لسائر الرافضة.
لكن ربما عنى الشوكاني فيه معنى آخر، فأخذه من أنهم لا يعتمدون
1 / 14
في المسائل إلا قول طائفة من العلماء عندهم، ولو كان الخبر خلاف مسائلهم، فهو خاص مردود، لأن هذه الطائفة عندهم قبلت خبر الواحد فيما حكاه أهل التصنيف عنهم.
وثالثها: أننا لا نعبأ بخلاف الرافضة أصلًا، وبيننا وبين القول بقواعدهم وأصولهم، التي حرروها مفاوز ما أظنها تتجاوز.
ورابعها: أن قول هشام والنظام لا يعتبر نفيًا للقول بحجة خبر الآحاد، وإنما هو زيادة شرط منهما حتى يقبل الخبر.
وإنما كان وجه الإنكار عليهما الاتساع في وضع هذا الشرط الذي ينال كل حديث مهما بلغت صحته وارتفع قبوله، بخلاف غيرهما من الفقهاء الذين اشترطوا شروطًا أخرى في أشياء مخصوصة، كالتي شرطها الحنفية كما سيأتي، وبخلاف اشتراط طائفة من المحدثين أشياء أخرى مبسوطة في كتب المصطلح على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وبيان الشروط الصحيحة منها والفاسدة.
وخامسها: في بيان الإجماع الذي حكاه الجويني، فإن المراد به إما الصحابة، وإما مَن بعدهم، وقد قدمنا أن من لا يعبأ بخلاف من خالف لا يتوانى عن ذكر الإجماع في المسألة، وعلى عدم اعتبار المشترطين من القائلين بالنفي. وأنها مسألة إجماع من العلماء، وذلك بعد الارتفاع عن مسألة نفي العلم أو العلم بالنفي التي يثيرها المتكلمون.
وأما إن كان المراد إجماع الصحابة على ذلك، فهذا نقله غير واحد من العلماء وحكاه عنهم، بل وجعله من أدلة القول على العمل بخبر الواحد، لأنه يكون دليلًا لا يقبل الرد عند سائر من يعتبر إجماع الصحابة، ولا يجيز مخالفتهم.
كما سيأتي بيان هذه المسألة عند دليل الإجماع على صحة قبول خبر الواحد.
1 / 15
وقد قال الإمام الشافعي في الرسالة:
" لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد ".
يعني في العمل به.
1 / 16
الفصل الثالث: في ييان أدلة القائلين
بالاحتجاج بخبر الآحاد
اعلم رحمك الله أن أدلة القائلين بالاحتجاج قد انقسمت من حيث الأصلين لفرعين أساسيين: أدلة عقلية، وأدلة سمعية.
قال الشيخ الرازي في المحصول:
" والذين قالوا: وقع التعبد به - يعني خبر الآحاد - اتفقوا على أن الدليل السمعي دلّ عليه، واختلفوا في الدليل العقلي هل دلّ عليه أم لا. فذهب القفال وابن سريج منّا، وأبو الحسين البصري - من المعتزلة - إلى أن دليل العقل دل على وقوع التعبد به. وأما الجمهور منا ومن المعتزلة كأبي عليّ وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار، فقد اتفقوا على أن دليل التعبد به: السمع فقط. وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية. انتهى.
لكن الآمدي في " الإحكام " يزيد ذكر أسماء القائلين بوجود الدليل العقلي فيقول: " واختلفوا في دليل وجوبه بدليل العقل: فأثبته
1 / 17
أحمد بن حنبل، والقفال وابن سريج من الشافعية، وأبو الحسين من المعتزلة وجماعة كثيرة.
ونفاه الباقون.
وفصل أبو عبد الله البصري - بين الخبر الدال على ما يسقط بالشبهة، وما لا يسقط بها، فمنع منه في الأول، وجوزه في الثاني، انتهى. قلت: فهذا أوان الشروع في تفصيل هذين الفرعين وفيهما: الدليل العقلي، ثم ذكر الأدلة السمعية من الكتاب والسنة والقياس والإجماع.
1 / 18
أ - الفرع الأول: في بيان الحجج العقلية:
وحيث أن الآمدي لا يقول بصحة الحجج العقلية على دليل العمل بخبر الواحد، - وإن كان يقول بحجية الخبر الواحد من أدلة أخرى - فقد اخترت إيراد ما ذكره من هذه الححج العقلية ومناقضته لها، ومناقشته في ذلك.
قال ﵀ في " الإحكام ":
فأما من قال بكونه - يعني الدليل العقلي - حجة، فقد احتجوا بحجج ضعيفة، لا بد من ذكرها والتنبيه على ما فيها، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
١ - الحجة الأولى من جهة المعقول:
وهي ما اعتمد عليها أبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة وهي أنهم قالوا: العقلاء يعلمون وجوب العمل بخبر الآحاد في العقليات، ولا يجوز أن يعلموا وجوب ذلك إلا وقد علموا علة وجوبه، ولا علة لذلك سوى أنهم ظنوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل.
وبيان ذلك أنه قد علم بالعقل وجوب التحرز من المضار، وحسن اجتلاب المنافع. فإذا ظننا صدق من أخبرنا بمضرة، يلزمنا أن لا نشرب الدواء الفلاني، وأن لا نفصد، وأن لا نقوم من تحت حائط مستهدم، فقد ظننا تفصيلًا لما علمناه جملة من وجوب التحرز عن المضار.
وبيان أن العلة للوجوب ما ذكره دورانها معها وجودًا وعدمًا، وذلك بعينه موجود في خبر الواحد في الشرعيات، فوجب العمل به، وذلك لأنا قد
1 / 19
علمنا في الجملة وجوب الانقياد للنبي ﷺ فيما يخبرنا به من مصالحنا ودفع المضار عنا.
فإذا ظننا بخبر الواحد، أن النبي ﷺ قد دعانا للانقياد له في فعل أخبر أنه مصلحة وخلافه مضرة، فقد ظننا تفصيل ما علمناه في الجملة، يوجب العمل به.
قال الآمدي:
ولقائل أن يقول: أما أولًا، فلا نسلم وجوب العمل بخبر الواحد في العقليات، بل غايته إذا ظننا صدقه، أن يكون العمل بخبره أولى من تركه، وكون الفعل أولى من الترك، أمر أعم من الواجب لشموله للمندوب، فلا يلزم منه الوجوب.
قلت: قول الآمدي: ". . . العمل بخبره أولى من تركه. . . لشموله للمندوب، فلا يلزم منه الوجوب " منقوض بسائر المسائل التي لا يسع القول بالندب فيها مجالًا. أو التي لا يمكن أن تكون إلا ندبًا أصلًا.
مثال الأول الأحاديث التي تخبر عن فرضية الغسل للجمعة مثلًا، فإن ندب الاغتسال لها ثابت عند سائر الفقهاء، وإحالة أحاديث الفرض على الندب فيه إهمال لأنه أبطل الخبر الزائد فيه إبطالًا تامًا.
ومثال الثاني أحاديث ندب وضع اليدين على الصدر في الصلاة، أو تحريك الأصبع في التشهد ونحوها من أحاديث الندب، فإن القول فيها بالندب على رأي الآمدي هو إعمال تام للخبر، فيرد عليه فيه.
وذلك أن قولنا بوجوب العمل بخبر الواحد لا يعني منه أحاديث الفرض فقط، بل المستحبات، وكذلك المحرمات والمكروهات. فإذا تأملت هذا علمت اضطراب قوله في سائر الأحاديث التي تفيد إما الاستحباب وإما الكراهة حسب، دون التحليل أو التحريم، ولا الفرائض.
1 / 20
ثم قال الآمدي ﵀:
" سلمنا أن العمل بخبره واجب في العقليات، ولكن لا نسلم أن علة الوجوب ما ذكرتموه من الدوران، فلا يدل على أن المدار علة الدائر، لجواز أن تكون العلة معنى ملازمًا لما ذكرتموه لا ما ذكرتموه. . . " إلى آخر ما قال.
وقد ضربت على القسم الآخر من قوله لأنه داخل على التحقيق في مبحث آخر من مباحث القياس في معرفة العلة والطرق التي تتبع في ذلك، وليس ذلك من مباحث هذا الكتاب.
قال الآمدي:
٢ - الحجة الثانية:
قالوا: صدق الواحد في خبره ممكن، فلو لم نعمل به، لكنا تاركين لأمر الله تعالى وأمر رسوله، وهو خلاف ما يقتضيه الاحتياط. قال الآمدي: ولقائل أن يقول: صدق الراوي وإن كان ممكنًا وراجحًا، فلم قلتم بوجوب العمل به والاحتياط بالأخذ بقوله، وإن كان مناسبًا، ولكن لا بد له من شاهد بالاعتبار، ولا شاهد له سوى خبر التواتر، وقول الواحد في الفتوى والشهادة، ولا يمكن القياس على الأول، لأن ذلك مفيد للعلم، ولا يلزم من إفادته الوجوب إفادة الخبر الظني له، ولا يمكن قياسه على الثاني، وذلك لأن براءة الذمة معلومة وهي الأصل، وغاية قول الشاهد والمفتي مع مخالفته للبراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد العمل بخبر الواحد المخالف لبراءة الذمة بالنظر إلى جميع الناس، وإن سلمنا صحة القياس فغايته أنه مفيد لظن لإلحاق. وهو غير معتبر في إثبات الأصول. . .
1 / 21
٣ - الحجة الثالثة:
أنهم قالوا: إذا وقعت واقعة، ولم يجد المفتي سوى خبر الواحد، فلو لم يحكم به لتعطلت الواقعة عن حكم الشارع، وذلك ممتنع.
قال الآمدي: " ولقائل أن يقول: خلو الواقعة عن الحكم الشرعي، إنما يمتنع مع وجود دليله، وأما عدم الدليل فلا، ولهذا فإنه لو لم يظفر في الواقعة بدليل ولا خبر الواحد، فإنه لا يمتنع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي، والمصير إلى البراءة الأصلية ... ".
قلت: وهذا منه ﵀ كاف في دفع هذه الحجة الثالثة بمثاله المذكور، فلا حاجة للإطالة في ذكر بقية جوابه.
قال الآمدي:
٤ - الحجة الرابعة:
قالوا: إنه لو لم يكن خبر الواحد واجب القبول، لتعذر تحقيق بعثة الرسول ﷺ إلى كل أهل عصره. وذلك ممتنع، وبيان ذلك أنه لا طريق إلى تعريف أهل عصره إلا بالمشافهة أو الرسل، ولا سبيل له إلى المشافهة للكل لتعذره، والرسالة منحصرة في عدد التواتر والآحاد، والتواتر إلى كل أحد متعذر، فلو لم يكن خبر الواحد مقبولًا، لما تحقق معنى التبليغ والرسالة إلى جميع الخلق فيما أرسل به، وهو محال مخالف لقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
قال الآمدي رادًّا:
ولقائل أن يقول: إنما يمتنع ذلك لو كان التبليغ إلى كل من في عصره واجبًا، وأن كل من في عصره مكلف بما بعث به، وليس لذلك. بل إنما هو مكلف بالتبليغ إلى من يقدر على إبلاغه، إما بالمشافهة أو
1 / 22
بخبر التواتر، وكذلك كل واحد من الأئمة إنما كلف بما أرسل به الرسول إذا علمه، وأما مع عدم علمه به فلا، ولهذا فإن من كان في زمن الرسول في البلاد النائية والجزائر المنقطعة، ولا سبيل إلى إعلامه، فإن النبي ﷺ لم يكن مكلفًا بتبليغه، ولا ذلك الشخص كان مكلفًا بما أرسل به،. انتهى كلام الآمدي.
قلت: وقول الآمدي باطل، وما ادعاه من شرط شمول التبليغ ونفيه ليس بلازم، وبيان صورة الرد في المثال الآتي:
وهو أن رسله ﷺ الذين أرسلهم، كان بعضهم آحادًا، ولو لم يكن خبرهم حجة لما حل له ﷺ منابذة الرافضين منهم إلى القتال في مواقع معلومة من السيرة بل ودعائه ﷺ على من مزق كتبه.
بل وكيف يستقيم أن يرسل ﷺ إلى القبائل من يعلمهم الشرائع آحادًا،
وهو يعلم من شريعته ﷺ أن خبر الواحد ليس بحجة!!!
لكن النظر عندي في هذه الحجة هل تلحق على الصواب بالعقلية أم النقلية منها، والأصوب الثاني قال الآمدي:
٥ - الحجة الخامسة:
قالوا: قد ثبت أن مخالفة أمر الرسول سبب لاستحقاق العقاب، فإذا أخبر الواحد بذلك عن الرسول ﷺ، وغلب على الظن صدقه، فإما أن يجب العمل الراجح والمرجوح معًا، أو تركهما معًا، أو العمل بالمرجوح دون الراجح أو بالعكس.
1 / 23
وبالاحتمال لا سبيل إلى الأول والثاني والثالث لأنه محال. فلم يبق سوى الرابع وهو المطلوب ".انتهى.
قلت: وهذا احتجاج بين البطلان، فلم نذكر رد الآمدي عليه لوضوحه.
1 / 24
ب - الفرع الثاني: في بيان النقلية: وهي أنواع.
١ - أولها: حجج القرآن الكريم:
* الحجة الأولى في قوله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢).
قال الرازي وغيره من العلماء فيها:
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أوجب الحذر بأخبار الطائفة، والطائفة ها هنا عدد لا يفيد قولهم العلم، ومتى وجب الحذر بإخبار عدد لا يفيد قولهم العلم فقد وجب العمل بالخبر الذي لا نقطع بصحته.
وإنما قلنا: إنه أوجب الحذر - عند إخبار الطائفة - لأنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة، والإنذار هو الإخبار.
وإنما قلنا: إنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة لقوله تعالى: (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وكلمة " لعل " للترجي، وذلك في حق الله تعالى محال، وإذا تعذر حمله على ظاهره وجب حمله على المجاز، وذلك لأن المترجي طالب للشيء. فإن كان الطلب لازمًا للترجي وجب حمل هذا اللفظ على الطلب، فيلزم أن يكون الله طالبًا للحذر، وطلب الله تعالى هو الأمر فثبت أن الله تعالى أمر بالحذر عند إنذار الطائفة. وإنما قلنا: إن الإنذار هو الإخبار، لأنه عبارة عن الخبر المخوف، والخبر داخل في الخبر المخوف، فثبت أن الله تعالى أوجب الحذر عند إخبار الطائفة.
1 / 25