The Book of Manners
الأدب الصغير ت خلف
Editorial
دار ابن القيم بالإسكندرية
Géneros
الْأَدَبُ الصَّغِيرُ
لِلْأَدِيبِ الْكَبِيرِ الْعَلاَّمَةِ
عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُقَفَِّعِ
نُسْخَةٌ مَضْبُوطَةٌ بِالشَّكْلِ التَّامِّ
قَرَأَهُ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ
وائلُ بْنُ حَافِظِ بْنِ خَلَفٍ
عَفَا اللهُ عَنْهُ
الطَّبْعَةُ الأُولَى
الْأَدَبُ الصَّغِيرُ لِلْأَدِيبِ الْكَبِيرِ الْعَلاَّمَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُقَفَِّعِ «وَقَدْ وَضَعْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ الْمَحْفُوظِ حُرُوفًا فِيهَا عَوْنٌ عَلَى عِمَارَةِ الْقُلُوبِ وَصِقَالِهَا وَتَجْلِيَةِ أَبْصَارِهَا، وَإِحْيَاءٌ لِلتَّفْكِيرِ، وَإِقَامَةٌ لِلتَّدْبِيرِ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَحَامِدِ الْأُمُورِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلاَقِ إِنْ شَاءَ اللهُ» (ابن المقفع) قَرَأَهُ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ وائلُ بْنُ حَافِظِ بْنِ خَلَفٍ عَفَا اللهُ عَنْهُ الطَّبْعَةُ الأُولَى
الْأَدَبُ الصَّغِيرُ لِلْأَدِيبِ الْكَبِيرِ الْعَلاَّمَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُقَفَِّعِ «وَقَدْ وَضَعْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ الْمَحْفُوظِ حُرُوفًا فِيهَا عَوْنٌ عَلَى عِمَارَةِ الْقُلُوبِ وَصِقَالِهَا وَتَجْلِيَةِ أَبْصَارِهَا، وَإِحْيَاءٌ لِلتَّفْكِيرِ، وَإِقَامَةٌ لِلتَّدْبِيرِ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَحَامِدِ الْأُمُورِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلاَقِ إِنْ شَاءَ اللهُ» (ابن المقفع) قَرَأَهُ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ وائلُ بْنُ حَافِظِ بْنِ خَلَفٍ عَفَا اللهُ عَنْهُ الطَّبْعَةُ الأُولَى
Página desconocida
مقدَِّمة الْمُحَقِّقِ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمينَ. والصلاة والسلام على الرسل والنبيينَ، لا سيما خاتمِهم العربي ذي المقام المأنوق في أعلى عِلِّيِّينَ. والرِّضَاءُ عن آله الطاهرينَ، وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان أجمعين.
أما بعد:
فَهَذَا كِتَابُ "الأدب الصغير" للأديب الأريب عبدِ اللهِ بْنِ الْمُقَفَِّعِ (١).
_________
(١) كان عبد الله بن المقفع مجوسيًّا من أهل فارس، وكان يسمى روزبه بن داذويه، وأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح والمنصور، وأطلقوا على أبيه: المقفع - بفتح الفاء -؛ لأن الحجاج بن يوسف الثقفي كان قد استعمله على الخراج، فخان، فعاقبه حتى تقفعت يداه. وقيل: بل هو المقفع - بكسر الفاء -؛ نُسب إلى بيع القفاع وهي من الجريد كالمقاطف بلا آذان. وسنذكر ترجمة ابنِ المقفع بعدُ.
وقد مات مقتولًا، واختلفوا في سبب مقتله والطريقة التي قُتل بها وفي سنة وفاته أيضًا، ومهما يكن من أمر فإنا لا نسلم أبدًا لمن قال: إنه قُتل على الزندقة! واستدل بما أورده العلامة ابن كثير ﵀ في "البداية والنهاية" [(ج١٠/ ص٧٨) ط/ مكتبة الصفا] عن المهدي قال: «ما وجد كتاب زندقة إلا وأصله من ابن المقفع، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد» قالوا: ونسي الجاحظ، وهو رابعهم!!» ا. هـ
نقول: أما "فلانٌ" وأمثالُه مِنَ الحَوَاقِّ فعسى، وأما ابن المقفع فلا؛ فَكُتُبُهُ بين أيدينا تكاد تنطق قائلة: «وايم الله! إنَّ صاحبي لبريء مما نُسب إليه»!. وليت شعري كيف ساغ لفلان وفلان وفلان ممن ترجموا للرجل أن يجزموا بذلك، وكلهم قد صَفِرَت يَدُهُ من البرهان؟ إنْ هي إلا تهمة تناقلوها بدون بيان. وقِدْمًا اتهموا أبا العلاء المعري بذلك حتى قيض الله له مِن جهابذة المتأخرين مَن أثبت بالدليل الساطع والبرهان القاطع براءته. فتبصروا رحمكم الله.
1 / 5
وَهُوَ خَلِيقٌ بِأنْ يصلَ ليد كُلِّ عربي قارئ، وَمَقْمَنَةٌ لأن يُتلى على كل أمي عابئ.
وقد اشتمل على حِكَم شتى في الأخلاق والآداب لا تتساوق تحت معنى واحد، إنما هي أشبه شيء بخواطرَ كانت تسنح كلما قَدَحَ تَأَمُّلُ ابنِ المقفعِ زَنْدَ فِكْرِهِ، ثم تأتي الْقَرِيحَةُ بَعْدُ.
وابن المقفع رَجُلٌ ثَبِيتٌ عَرُوفٌ، مُجَرَّذٌ مُجَرِّبٌ، طَلاَّعُ الثَّنَايا (١)، ثم هو رشيقُ القلم. وقد سطر في رَقِّ هذا الكتاب بقلمه السيال وأسلوبه البديع - الذي قلما يُبارى ويُوازى وإن ضَرَّجَ المحاكي الكلامَ وزينه - ما أفادته تجارِب الزمان، وما انتقاه من عيون الكلام (٢).
_________
(١) يقال: فلان طلاع الثنايا: إذا كان يعلو الأمور فيقهرها بمعرفته وتجارِبه وجودة رأيه.
(٢) توجد عبارات أفادها ابن المقفع ممن كان قبله ودونها كما صرح هو بذلك، والعلم رحم بين أهله، وهاك مثالًا واحدًا، قوله: «وَعَلَى الْعَاقِلِ - مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى نَفْسِهِ - أَنْ لاَ يَشْغَلَهُ شُغْلٌ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ: سَاعَةٍ يَرْفَعُ فِيهَا حَاجَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَسَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يُفْضِي فِيهَا إِلَى إِخْوَانِهِ وَثِقَاتِهِ الَّذِينَ يَصْدُقُونَهُ عَنْ عُيُوبِهِ وَيَنْصَحُونَهُ فِي أَمْرِهِ، وَسَاعَةٍ يُخلي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّتِهَا مِمَّا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ ... وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لاَ يَكُونَ رَاغِبًا إِلاَّ فِي إِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ، أَوْ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مَحْرَمٍ».
فهذا الكلام رواه الحافظ ابن أبي الدنيا ﵀ في كتاب "محاسبة النفس" رَقْم (١٢) بسنده عن وهب بن منبه قال: «مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ...» فذكره بنحوه. ورواه ابن حبان في "صحيحه" (٣٦٢ - إحسان) (٩٤ - موارد الظمآن)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" [(ج١/ص١٥٨ - ١٦٠/رقم٥٥١) ط/ مكتبة الإيمان]، والطبراني في "المعجم الكبير" (٢/ ١٥٧) رقم (١٦٥١) في أثناء حديث طويل عن أبي ذر الغفاري ﵁ مرفوعًا، وفيه: «أن صحف إبراهيم ﵇ كانت أمثالًا كلها .. وفيها: على العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله ....» فذكره بلفظ مقارب، وسنده ضعيف جدًّا. كما أنَّ هناك عباراتٍ كثيرةً اقتبسها ابنُ المقفع من "كليلة ودمنة".
هذا، وحسبك دلالةً على نفاسة كتاب ابن المقفع هذا أن كثيرًا من العلماء البلغاء الأكابر قد بثوا حِكَمه في مصنفاتهم وإن لم يصرحوا باسمه، منهم الحافظ ابن حبان ﵀ في كتابه الماتع "روضة العقلاء "، والعلامة شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي الشافعي في "المستطرف في كل فن مستظرف".
1 / 6
وقدمه بمقدمة لها القِدْحُ المُعَلَّى من البلاغة والفصاحة والبيان والتبيين.
قال فيها: «وَقَدْ وَضَعْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ الْمَحْفُوظِ حُرُوفًا فِيهَا عَوْنٌ عَلَى عِمَارَةِ الْقُلُوبِ وَصِقَالِهَا وَتَجْلِيَةِ أَبْصَارِهَا، وَإِحْيَاءٌ لِلتَّفْكِيرِ، وَإِقَامَةٌ لِلتَّدْبِيرِ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَحَامِدِ الْأُمُورِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلاَقِ إِنْ شَاءَ اللهُ».
وقد بدا لنا أن نعيد للكتاب بهاءَهُ، ونجدد رُوَاءَهُ؛ ففعلنا وحققناهُ.
فجمعنا ما استطعنا من نسخ الكتاب المطبوعة (١) وقابلنا بينها، وأثبتنا في
_________
(١) النسخة الأم هي نسخة المرحوم العلامة طاهر الجزائري [ونرمز لهذه النسخة بالحرف (ط)]، وهو الذي أخرج الكتاب للنور بعد أن كان كامنًا قرونًا عددًا. ويتلوها نسخة أحمد زكي باشا [ونرمز لهذه النسخة بالحرف (ك)]، وقد طبعتها جميعة العروة الوثقى الخيرية الإسلامية بمطبعة مدرسة محمد علي الصناعية سنة ١٣٢٩هـ = ١٩١١م، بعد أن قررت نظارة المعارف العمومية تدريس هذا الكتاب في جميع مدارسها الابتدائية.
يقول الشيخ طاهر في تصديره للكتاب: «لما ذهبت إلى مدينة بعلبك سنة ١٢٢٣ هـ رأيت عند بعض الأفاضل الواردين عليها مجموعًا استعاره من بعض أعيانها، فرأيت فيه الضالة المنشودة وهي رسالة "الأدب الصغير" لعبد الله بن المقفع الكاتب الذي يُضرب ببلاغته المثل، فكتبتها بخطي في نحو يوم وأرجو أن يتيسر لنشرها مَن عُرف بحسن الطبع ليعم بها النفع».
ثم استعان الشيخ طاهر بالنقادة محمد أفندي كرد علي الدمشقي فنشرها في مجلته العربية الطائرة الصيت أيام كان يصدر "الْمُقْتَبَس" بمدينة القاهرة.
قال أحمد زكي باشا: «فجاءت وفيها شيءٌ كثير من أوجه النقص لعدم وجود نسخة ثانية للتصحيح، ولعدم تيسر الوقت الكافي للعناية بها كما هي أهله. ولقد استخدمتها ورجعت إليها في بعض الكلمات، فلصاحبيها فضل السبق، ولهما نصيب من الشكر».
وأقول: ولقد عثرت على النسختين وغيرهما، والكل تبع لهما وفروع عنهما، وكلفني ضبط النص عَرَقًا من القِرْبَةِ، وإن كان العلامة أحمد زكي قد سبقني إلى ذلك، ولكن وقع في نسخته هنات في الضبط وسقط في النص، وقد خالف الشيخَ طاهرًا في بعض الكلمات وظنها تحريفًا أو تصحيفًا، والصواب في بعضها مع الشيخ طاهر. رحمهما الله وغفر لهما.
1 / 7
المتن ما خلناه الأصوبَ منها، وما عُد اختلافًا ففي الحاشية مكانهُ، وما كان خطأً أهملناهُ.
وعمدنا إلى بعض الغريب فشرحناهُ، وقصدنا إلى النص فضبطناهُ، وبالشكل التام زيناهُ. فَدُونَكَهُ.
1 / 8
بَيْدَ أَنَّ بعضَ مَن تناول الكتاب بالطبع قد عَلْوَنَ فِقَرَهِ (١) بعناوينَ ارتآها، ولو شئنا لفعلنا مثل هذا، غير أننا آثرنا أن يظل الكتاب كما وضعه صاحبُهُ.
وللأخلاق الحسنة ومكارم الآداب في ديننا منزلةٌ سَنِيَّةٌ سَامِقَةٌ، بلغ من علو شأنها أن قال رسول الله (ﷺ): «إنما بُعِثْتُ لأتمم صالحَ الأخلاقِ» وفي لفظ: «إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارمَ الأخلاقِ» (٢).
وفرض الشارع الحكيم على الآباء تأديبَ الأبناء وتعليمَهم جميل الخصال ليكملَ نفعهم (٣)، فإن الذي يرجو منفعةَ غير المؤدب ويبتغي خيرَ ذي النَّزَقِ كالذي يبل الصخر الأصم كي يلينَ، أو يطبخ الحديد يلتمس أدمه.
- قال ربنا (جل ثناؤه): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم:١٢]. قال غير واحد: معنى قوله (تعالى ذكره): ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ أي: علموهم وأدبوهم.
- ورُوِيَ عن رسول الله (ﷺ) أنه قال: «مَا نَحَلَ والِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ
_________
(١) أي: جعل لكل فِقْرَةٍ مِن فِقَرِهِ عُِنْوَانًا. فالعلوان هو: العُِنْوان.
(٢) حديث صحيح: أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (ج٢/ص٣١٨)، والإمام البخاري في "الأدب المفرد" (٢٧٣)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (ج٢/ص٣١٦)، والبيهقي في "السنن الكبير" (ج١٠ص١٩١ - ١٩٢) وغيرُهم من حديث أبي هريرة ﵁.
(٣) انظر كتابنا "المنتخب مِن وصايا الآباء للأبناء".
1 / 9
أَدَبٍ حَسَنٍ». أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"، والترمذي في "السنن" (١٩٥٢)، والبيهقي في "السنن الكبير" (ج٣/ص٨٤) وضعفوه، وكذا ضعفه الذهبي وهو الصواب. وصححه الحاكم في "المستدرك" (٤/ ٢٦٣)!، ورمز له السيوطي بالصحة في "الجامع الصغير" (٨١١٨)!.
- وعن عثمان الحاطبي قال: سمعت ابن عمر ﵄ يقول لرجل: «أدب ابنك؛ فإنك مسئول عن ولدك ماذا أدبته وماذا علمته؟، وإنه مسئول عن برك وطواعيته لك». أخرجه الإمام البيهقي في "السنن الكبير" (ج٣/ص٨٤).
- وعن ضمرة بن ربيعة قال: سمعت سفيان الثوري ﵀ يقول: «كان يقال: حُسْنُ الأدبِ يطفئ غضبَ الربِّ ﷿) ا. هـ. أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" [(ج٦/ص٣٣٩/رقم٩٠٩٧) ط/ مكتبة الإيمان بالمنصورة].
- وعن أبي زكريا العنبري قال: «علم بلا أدب، كنار بلا حطب. وأدب بلا علم، كروح بلا جسم» رواه الإمام السمعاني في أول كتابه "أدب الإملاء والاستملاء ". وانظر "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي (١/ ٨٠).
- قال ابن المقفع: «أَحَقُّ النَّاسِ بِالْعِلْمِ أَحْسَنُهُمْ تَأْدِيبًا».
- وقال أيضًا: «أَفْضَلُ مَا يُورِثُ الآبَاءُ الْأَبْنَاءَ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَالْأَدَبُ النَّافِعُ، وَالْإِخْوَانُ الصَّالِحُونَ». "الأدب الصغير".
- عن حَبِيبٍ الْجَلاَّبِ قَالَ: قِيلَ لابن المبارك ﵀: مَا خَيْرُ ما أُعْطِيَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: «غَرِيزَةُ عَقْلٍ فِيهِ». قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: «أَدَبٌ حَسَنٌ».
1 / 10
قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: «أَخٌ صَالِحٌ يَستَشِيرُهُ». قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: «صَمْتٌ طَوِيلٌ». قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: «مَوْتٌ عَاجِلٌ» ا. هـ أخرجه ابن حبان في أول كتابه "روضة العقلاء".
- وعن ابن المبارك ﵀، قال: «مَن تهاون بالأدب عُوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة».
- قال أبو نصر الفقيه: سمعت البوشنجيَّ - (أبا عبد الله محمد بن إبراهيم العبدي الفقيه المالكي. ﵀ - يقول: «مَن أراد العلم والفقه بغير أدب؛ فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله ﷺ» "سير أعلام النبلاء" (١٣/ ٥٨٦).
- وقال الطَّيبي في شرح حديث: «مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ شَانَهُ، وَلاَ كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ زَانَهُ» قال: «وأشار (يعني: النبيَّ ﷺ) بهذين إلى أن الأخلاق الرذلة مِفتاح كل شر، بل هي الشر كله. والأخلاق الحسنة السَّنية مفتاح كل خير، بل هي الخير كله» "فيض القدير" للعلامة المناوي [(ج٥ص٥٩٨) ط/ مكتبة مصر].
- وقال الحجاج بن أرطأة: «إن أحدَكم إلى أدب حسن أحوجُ منه إلى خمسين حديثا».
- وقال ابن المبارك: قال لي مَخْلد بن الحسين: «نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث» "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي.
- وقال علي بن أبي طالب ﵁ لابنه محمد ابن الحنفية: «أذك قلبك
1 / 11
بالأدب كما تذكي النار بالحطب» "العِقد الفريد" للعلامة ابن عبد ربه.
- عن ابن أبي أويس قال: سمعت خالي مالكَ بْنَ أنسٍ ﵀ يقول: «كانت أمي تلبسني الثياب، وتعممني وأنا صبي، وتوجهني إلى ربيعةَ بنِ أبي عبد الرحمن المدني، وتقول: «يا بُني! ائت مجلس ربيعة، فتعلم من سمته وأدبه، قبل أن تتعلم من حديثه وفقهه» أخرجه الإمام الكبير ابن عبد البر ﵀ في "التمهيد لما في الموطإِ من المعاني والأسانيد" [(ج٢ص٥) ط/ دار الكتب العلمية - بيروت- لبنان].
- وقال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: قال لي أبي: «يا بني! ائت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم؛ فإن ذاك أحب إليَّ من كثير من الحديث».
- وقال ابن قيم الجوزية (قدس الله روحه ونور ضريحه): «أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره. فما استُجْلِب خيرُ الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانهما بمثل قلة الأدب» ا. هـ "مدارج السالكين" (ج٢/ص٢٩٧ - ٢٩٨).
- وقال محمد بن علي: أدب الله محمدًا (ﷺ) بأحسن الآداب، فقال: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:١٩٩]، فلما وعى قال: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الحشر:٧]. "البيان والتبيين" للجاحظ [(ج٢ص١٤) ط/ دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان].
1 / 12
ذلك، واللهَ (جل ثناؤه) أسألُ أن يهديني لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عني سيئ الأخلاق والأعمال لا يصرف عني سيئها إلا هو، وأن يحسن خُلُقي كما حسن خَلْقي، وأن يجعل عملي كله صالحًا، ولوجهه خالصًا، ولعباده نافعًا؛ إن ربي لسميع الدعاء،،،
وخطه بيمينه
وائل بنُ حافظ بنِ خلف
غفر الله له ولوالديه، وأحسن إليهما وإليه
ليلة الأربعاء الثامنَ عشرَ من شهر ربيع الآخِر لسنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وألف من الهجرة.
الموافق: الثالث والعشرين من مارس (آذار) لعام ألفين وأحد عشر من الميلاد.
بمنزلي الكائن بقرية العكريشة - مركز كفر الدوار - محافظة البحيرة - جمهورية مصر العربية
هاتف رَقْم: ٠٠٢/ ٠١٦٠٨٢٧٨٣٦
waelhafez٩٥@gmail.com
1 / 13
ترجمة ابن المقفع
مقتبسة من كتاب "تاريخ الإسلام" للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: ٧٤٨هـ) ﵀ وطيب ثراه)
عبد الله بن المقفع: أحد المشهورين بالكتابة والبلاغة، والترسل والبراعة [زاد في "سير أعلام النبلاء": أحد البلغاء والفصحاء، ورأس الكتاب، وأولي الانشاء، من نظراء عبد الحميد الكاتب].
وكان فارسيًّا فأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح وهو كهل، ثم كتب له واختص به.
ومن كلام ابن المقفع قال: «شربت من الخطب ريًّا، ولم أضبط لها رويًّا، فغاضت ثم فاضت، فلا هي نظامًا، ولا هي غيرها كلامًا».
قال الأصمعي: صنف ابن المقفع "الدرة اليتيمة" التي لم يصنف مثلها في فنها.
وقد سُئل: مَن أدبك؟ قال: «نفسي. كنت إذا رأيت من غيري حسنًا أتيته، وإذا رأيت قبيحًا أبيته».
ويقال: كان ابن المقفع علمه أكثر من عقله.
وهو الذي وضع كتاب "كليلة ودمنة" فيما قيل، والأصح: أنه هو الذي
1 / 14
عربه من الفارسية (١).
قال الهيثم بن عدي: جاء ابن المقفع إلى عيسى بن علي فقال: أريد أن أسلم على يديك، فقال: ليكن ذلك بمحضر من وجوه الناس غدًا.
ثم جلس ابن المقفع وهو يأكل ويزمزم على دين المجوسية، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت تريد أن تسلم؟!
قال: «أكره أن أبيت على غير دين».
وكان ابن المقفع يتهم بالزندقة.
وعن المهدي قال: «ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع» [تقدم أنا لا نُسلم بذلك. فكن على ذُِكر. راجع الحاشية رَقْم (١) من
_________
(١) اضطربَتِ الأقوالُ فِي وَاضِعِ "كليلة ودمنة" مَنْ هُوَ؟ والأصح مَا رجحه الإمامُ الذَّهَبِيُّ هنا مِنْ أنه هنديُّ الأصلِ، وَضَعَهُ الفَيْلَسُوفُ الهِنْدِيُّ بَيْدَبَا لِدَبْشَلِيمَ مَلِكِ الهِنْدِ. ثم تَرْجَمَهُ مِن الهِنْدِيَّةِ إلى الفَارِسيةِ (الفهلوية): بَرْزَوَيْهِ بْنُ أَزْهَرَ رأسُ أطباءِ فارسَ بِأَمْرِ كِسْرَى أَنوشِرْوَانَ بْنِ قُبَاذَ بْنِ فَيْرُوزَ ملكِ الفرسِ. ثم ترجمه للعربية عبد الله بنُ المقفع وزاد فيه. والأدلة على ذلك كثيرة، منها: أن الإمام ابن قتيبة ﵀ ينقل منه في "عيون الأخبار" ويقول: «قرأت في كتاب للهند ...». وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ [المتوفى سنة خمس وخمسين ومائتين] في الرسالة الرابعة من "مجموع رسائله" (كتاب فخر السودان على البيضان) وهو يعدد فضائل الهند وهم من السودان: «ولهم خط جامع لحروف اللغات، وخطوط أيضًا كثيرة، ولهم شعر كثير، وخطب .. . وعنهم أُخذ كتاب "كليلة ودمنة ". ولهم رأي ونجدة، وليس لأحد من أهل الصبر ما لهم». هذا، ونحن الآن بصدد تحقيق كتاب "كليلة ودمنة" بعد أن عثرنا له على مخطوطة نفيسة يتيمة. وقد أشرفنا على الانتهاء منه.
1 / 15
مقدمة المحقق].
وقيل: إن ابن المقفع كان ينال من متولي البصرة سفيانَ بنِ معاويةَ بن يزيد بن المهلب ويسميه ابن المغتلمة، فحنق عليه وقتله بإذن المنصور، ولكونه كتب في توثق عبد الله بن علي من المنصور يقول: «ومتى غدر بعمه فنساؤه طوالق، وعبيده أحرار، ودوابه حبس، والمسلمون في حل من بيعته». فلما وقف المنصور على ذلك عظم عليه وكتب إلى سفيان يأمره بقتله.
وقال المدائني: دخل ابن المقفع على سفيان، وقال: أتذكر ما كنت تقول في أمي؟ قال: «أنشدك الله أيها الأمير في نفسي»، فأمر له بتنور فسجر، ثم قطع أربعته ثم سائر أعضائه وألقاها في التنور، وهو ينظر، وقال: «ليس عليَّ في المثلة بك حرج؛ لأنك زنديق قد أفسدت الناس».
فسأل سليمان بن علي وعيسى عنه، فقيل: إنه دخل دار سفيان بن معاوية سليمًا ولم يخرج، فخاصماه إلى المنصور وأحضراه مقيدًا، فشهد شهود بالحال، فقال المنصور: أرأيتم إن قتلت سفيان، فخرج ابن المقفع من هذا المجلس أأقتلكم بسفيان؟ فنكلوا عن الشهادة كلهم، وعلموا أنه برضا المنصور.
ويقال: إن ابن المقفع عاش ستًّا وثلاثين سنة.
وحكى البلاذري أن سفيان ألقاه في بئر. وقيل: أدخله حمامًا وأغلقه عليه.
وقيل: إن قتله كان في سنة خمس وأربعين ومائة. وقيل: في نحو سنة اثنتين وأربعين. [وذُكر أنه توفي سنة سبع وثلاثين ومائة].
1 / 16
وكان اسم أبيه داذويه، وكان كاتبًا، ولي للحجاج خراج فارس فخان وأخذ من الأموال، فعذبه الحجاج، فتقفعت يده فلقب المقفع. وقيل: بل الذي عذبه يوسف بن عمر الثقفي الأمير.
والمقفَّع: بفتح الفاء، الصحيح.
وقال ابن مكي في كتاب "تثقيف اللسان": يقولون ابن المقفَّع، والصواب بكسر الفاء؛ لأنه كان يعمل القفاع ويبيعها، وهي قفاف الخوص» ا. هـ.
1 / 17
الْأَدَبُ الصَّغِيرُ
لِلْأَدِيبِ الْكَبِيرِ الْعَلاَّمَةِ
عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُقَفَِّعِ
«وَقَدْ وَضَعْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ الْمَحْفُوظِ حُرُوفًا فِيهَا عَوْنٌ عَلَى عِمَارَةِ الْقُلُوبِ وَصِقَالِهَا وَتَجْلِيَةِ أَبْصَارِهَا، وَإِحْيَاءٌ لِلتَّفْكِيرِ، وَإِقَامَةٌ لِلتَّدْبِيرِ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَحَامِدِ الْأُمُورِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلاَقِ إِنْ شَاءَ اللهُ» (ابن المقفع)
قَرَأَهُ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ
وائلُ بْنُ حَافِظِ بْنِ خَلَفٍ
عَفَا اللهُ عَنْهُ
الطَّبْعَةُ الأُولَى
1 / 19
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن المقفع:
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ حَاجَةً، وَلِكُلِّ حَاجَةٍ غَايَةً، وَلِكُلِّ غَايَةٍ سَبِيلًا.
وَاللهُ وَقَّتَ لِلْأُمُورِ أَقْدَارَهَا، وَهَيَّأَ إِلَى الْغَايَاتِ سُبُلَهَا، وَسَبَّبَ الْحَاجَاتِ بِبَلاَغِهَا.
فَغَايَةُ النَّاسِ وَحَاجَاتُهُمْ صَلاَحُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَالسَّبِيلُ إِلَى دَرَْكِهَا الْعَقْلُ الصَّحِيحُ.
وَأَمَارَةُ صِحَّةِ الْعَقْلِ: اخْتِيَارُ الْأُمُورِ بِالْبَصَرِ، وَتَنْفِيذُ الْبَصَرِ بِالْعَزْمِ.
وَلِلْعُقُولِ سَجِيَّاتٌ وَغَرَائِزُ بِهَا تَقْبَلُ الْأَدَبَ، وَبِالْأَدَبِ تَنْمَى الْعُقُولُ وَتَزْكُو.
فَكَمَا أَنَّ الْحَبَّةَ الْمَدْفُونَةَ فِي الْأَرْضِ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَخْلَعَ يَبَسَهَا وَتُظْهِرَ قُوَّتَهَا وَتَطْلُعَ فَوْقَ الْأَرْضِ بِزَهْرَتِهَا وَرَيْعِهَا (١) وَنَضْرَتِهَا وَنَمَائِهَا إِلاَّ بِمَعُونَةِ الْمَاءِ الَّذِي يَغُورُ (٢) إِلَيْهَا فِي مُسْتَوْدَعِهَا فَيُذْهِبَ عَنْهَا أَذَى الْيَبَسِ وَالْمَوْتِ، وَيُحْدِثَ لَهَا بِإِذْنِ اللهِ الْقُوَّةَ وَالْحَيَاةَ = فَكَذَلِكَ سَلِيقَةُ الْعَقْلِ مَكْنُونَةٌ (٣) فِي مَغْرِزِهَا مِنَ الْقَلْبِ، لاَ قُوَّةَ لَهَا وَلاَ حَيَاةَ بِهَا وَلاَ مَنْفَعَةَ عِنْدَهَا حَتَّى يَعْتَمِلَهَا الْأَدَبُ الَّذِي هُوَ ثِمَارُهَا وَحَيَاتُهَا وَلِقَاحُهَا.
_________
(١) الرَّيْع - بفتح الراء: النَّمَاءُ والزِّيادةُ.
(٢) غَارَ الْمَاءُ غَوْرًا وغُؤورًا: أي: سَفَلَ في الأرضِ.
(٣) اكتَنَّ الشيْءُ واستكَنَّ: أي: استتر، والْكِنُّ - بكسر الكاف: السُّتْرة.
1 / 21
وَجُلُّ الْأَدَبِ بِالْمَنْطِقِ، وَجُلُّ الْمَنْطِقِ بِالتَّعَلُّمِ، لَيْسَ مِنْهُ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ مُعْجَمِهِ، وَلاَ اسْمٌ مِنْ أَنْوَاعِ أَسْمَائِهِ إِلاَّ وَهُوَ مَرْوِيٌّ مُتَعَلَّمٌ مَأْخُوذٌ عَنْ إِمَامٍ سَابِقٍ مِنْ كَلاَمٍ أَوْ كِتَابٍ؛ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَبْتَدِعُوا أُصُولَهَا، وَلَمْ يَأْتِهِمْ عِلْمُهَا إِلاَّ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ.
فَإِذَا خَرَجَ النَّاسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَمَلٌ أَصِيلٌ وَأَنْ يَقُولُوا قَوْلًا بَدِيعًا؛ فَلْيَعْلَمِ الْوَاصِفُونَ الْمُخْبِرُونَ أَنَّ أَحَدَهُمْ - وَإِنْ أَحْسَنَ وَأَبْلَغَ - لَيْسَ زَائِدًا عَلَى أَنْ يَكُونَ كَصَاحِبِ فُصُوصٍ وَجَدَ يَاقُوتًا وَزَبَرْجَدًا وَمَرْجَانًا، فَنَظَمَهُ قَلاَئِدَ (١) وَسُمُوطًا (٢) وَأَكَالِيلَ (٣)، وَوَضَعَ كُلَّ فَصٍّ مَوْضِعَهُ، وَجَمَعَ إِلَى كُلِّ لَوْنٍ شِبْهَهُ وَمَا يَزِيدُهُ بِذَلِكَ حُسْنًا، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ صَانِعًا (٤) رَفِيقًا. وَكَصَاغَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ صَنَعُوا مِنْهَا مَا يُعْجِبُ النَّاسَ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْآَنِيَةِ. وَكَالنَّحْلِ وَجَدَتْ ثَمَرَاتٍ أَخْرَجَهَا اللهُ طَيِّبَةً، وَسَلَكَتْ سُبُلًا جَعَلَهَا اللهُ ذُلُلًا؛ فَصَارَ ذَلِكَ شِفَاءً وَطَعَامًا وَشَرَابًا مَنْسُوبًا إِلَيْهَا، مَذْكُورًا بِهِ أَمْرُهَا وَصَنْعَتُهَا.
فَمَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ كَلاَمٌ يَسْتَحْسِنُهُ أَوْ يَسْتَحْسِنُ مِنْهُ، فَلاَ يَعْجَبَنَّ إِعْجَابَ الْمُخْتَرِعِ الْمُبْتَدِعِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا اجْتَنَاهُ كَمَا وَصَفْنَا.
وَمَنْ أَخَذَ كَلاَمًا حَسَنًا عَنْ غَيْرِهِ فَتَكَلَّمَ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ وَعَلَى وَجْهِهِ، فَلاَ تَرَيَنَّ
_________
(١) القَلائِد: جمع قِلاَدَة، وهي: ما يُجْعَلُ في العُنُقِ مِنْ حَلْيٍ وَنَحْوِهِ.
(٢) السِّمْط: الخَيْطُ ما دام فيه الْخَرَزُ، وإِلاَّ فهو سِلْكٌ، و: خَيْطُ النَّظْمِ لأنه يُعَلَّقُ، وقيل: هي قِلادة .. وجمعه: سُمُوطٌ.
(٣) الإِكْلِيلُ: شِبْه عِصَابَةٍ تُزَيَّنُ بالْجَوْهَرِ. ويُسَمَّى التاجُ إِكْليلًا.
(٤) في بعض النسخ: [صَائِغًا].
1 / 22
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضُؤُولَةً (١)؛ فَإِنَّ مَنْ أُعِينَ عَلَى حِفْظِ كَلاَمِ الْمُصِيبِينَ، وَهُدِيَ لِلاقْتِدَاءِ بِالصَّالِحِينَ، وَوُفِّقَ لِلْأَخْذِ عَنِ الْحُكَمَاءِ، فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَزْدَادَ؛ فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ، وَلَيْسَ بِنَاقِصِهِ فِي رَأْيِهِ وَلاَ غَامِطِهِ (٢) مِنْ حَقِّهِ أَنْ لاَ يَكُونَ هُوَ اسْتَحْدَثَ ذَلِكَ وَسَبَقَ إِلَيْهِ.
وَإِنَّمَا إِحْيَاءُ الْعَقْلِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ وَيَسْتَحْكِمُ خِصَالٌ سَبْعٌ: الْإِيثَارُ بِالْمَحَبَّةِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي الطَّلَبِ، وَالتَّثَبُّتُ فِي الاخْتِيَارِ، وَالاعْتِقَادُ (٣) لِلْخَيْرِ، وَحُسْنُ الْوَعْيِّ (٤)، وَالتَّعَهُّدُ لِمَا اخْتِيرَ وَاعْتُقِدَ، وَوَضْعُ ذَلِكَ مَوْضِعَهُ قَوْلًا وَعَمَلًا.
أَمَّا الْمَحَبَّةُ: فَإِنَّمَا (٥) يَبْلُغُ الْمَرْءُ مَبْلَغَ الْفَضْلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حِينَ يُؤْثِرُ بِمَحَبَّتِهِ؛ فَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ أَمْرَأَ وَلاَ أَحْلَى عِنْدَهُ مِنْهُ.
وَأَمَّا الطَّلَبُ: فَإِنَّ النَّاسَ لاَ يُغْنِيهِمْ حُبُّهُمْ مَا يُحِبُّونَ وَهَوَاهُمْ مَا يَهْوَوْنَ عَنْ طَلَبِهِ وَابْتِغَائِهِ، وَلاَ يُدْرِكُ لَهُمْ بُغْيَتَهُمْ نَفَاسَتُهَا فِي أَنْفُسِهِمْ دُونَ الْجِدِّ وَالْعَمَلِ (٦).
_________
(١) أي: ضَعْفًا وَنَقْصًا.
(٢) يقال: غَمَطَ فلانٌ فلانًا غَمْطًا: أي: اسْتَصْغَرَهُ وَاحْتَقَرَهُ. وفي الحديث الذي أخرجه الإمامُ مسلمُ بْنُ الحجاجِ ﵀ في "صحيحه" (ج٢/ ٨٨ - ٨٩/نووي): «الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» أي: احتقارهم وازدراؤهم. وفي نسخة "للأدب الصغير": [ولا بغائضه].
(٣) في نسخة "ك": [وَالاعْتِيَادُ].
(٤) في "ك": [وَحُسْنُ الرَّعْيِّ].
(٥) في "ك": [فَإِنَّهَا تُبْلِغُ الْمَرْءَ مَبْلَغَ الْفَضْلِ ... إلخ].
(٦) في "ك": [ولا تُدْرَكُ لَهُمْ بُغْيَتُهُمْ وَنَفَاسَتُهَا فِي أَنْفُسِهِم دُونَ .. إلخ].
1 / 23
وَأَمَّا التَّثَبُّتُ وَالتَّخَيُّرُ: فَإِنَّ الطَّلَبَ لاَ يَنْفَعُ إِلاَّ مَعَهُ وَبِهِ. فَكَمْ مِنْ طَالِبِ رَُشَْدٍ وَجَدَهُ وَالْغَيَّ مَعًا، فَاصْطَفَى مِنْهُمَا الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَأَلْغَى الَّذِي إِلَيْهِ سَعَى.
فَإِذَا كَانَ الطَّالِبُ يَحْوِي غَيْرَ مَا يُرِيدُ وَهُوَ لاَ يَشُكُّ بِالظَّفَرِ؛ فَمَا أَحَقَّهُ بِشِدَّةِ التَّبْيينِ وَحُسْنِ الابْتِغَاءِ!
وَأَمَّا اعْتِقَادُ الشَّيْءِ بَعْدَ اسْتِبَانَتِهِ: فَهُوَ مَا يُطْلَبُ مِنْ إِحْرَازِ الْفَضْلِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ.
وَأَمَّا الْحِفْظُ وَالتَّعَهُدُّ: فَهُوَ تَمَامُ الدَّرَْكِ (١)؛ لأَنَّ الْإِنْسَانَ مُوَكَّلٌ بِهِ النِّسْيَانُ وَالْغَفْلَةُ، فَلاَ بُدَّ لَهُ إِذَا اجْتَبَى صَوَابَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْ أَنْ يَحْفَظَهُ عَلَيْهِ ذِهْنُهُ لِأَوَانِ حَاجَتِهِ.
وَأَمَا الْبَصَرُ بِالْمَوْضِعِ: فَإِنَّمَا تَصِيرُ الْمَنَافِعُ كُلُّهَا إِلَى وَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا، وَبِنَا إِلَى هَذَا كُلِّهِ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ. فَإِنَّنَا لَمْ نُوضَعْ فِي الدُّنْيَا مَوْضِعَ غِنىً وَخَفْضٍ (٢) وَلَكِنْ مَوْضِعَ فَاقَةٍ وَكَدٍّ (٣)، وَلَسْنَا إِلَى مَا يُمْسِكُ بِأَرْمَاقِنَا (٤) مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ بِأَحْوَجَ مِنَّا إِلَى مَا يُثْبِتُ عُقُولَنَا مِنَ الْأَدَبِ الَّذِي بِهِ تَفَاوُتُ الْعُقُولِ. وَلَيْسَ غِذَاءُ الطَّعَامِ بِأَسْرَعَ فِي نَبَاتِ الْجَسَدِ مِنْ غِذَاءِ الْأَدَبِ فِي نَبَاتِ الْعَقْلِ. وَلَسْنَا بِالْكَدِّ فِي طَلَبِ الْمَتَاعِ الَّذِي يُلْتَمَسُ بِهِ دَفْعُ الضَّرَرِ وَالْغَلَبَةُ بِأَحَقَّ مِنَّا بِالْكَدِّ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي
_________
(١) الدَّرَك - بالتحريك: اسمٌ مِنَ الإِدْرَاكِ مثل اللَّحَق. والدَّرْكُ: اللَّحَاقُ والوصولُ إلى الشيء وبلوغه. يقال: أدركته إِدْراكًا ودركًا.
(٢) انظر الحاشية رقم (١٠٥).
(٣) الْكَدُّ: الشدة في العمل وطلب الرزق، والإلحاحُ في محاولة الشيء.
(٤) الرَّمَق - بفتحتين: بقية الروح. وقد يُطلق على القوة.
1 / 24
يُلْتَمَسُ بِهِ صَلاَحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَقَدْ وَضَعْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ الْمَحْفُوظِ حُرُوفًا فِيهَا عَوْنٌ عَلَى عِمَارَةِ الْقُلُوبِ وَصِقَالِهَا (١) وَتَجْلِيَةِ أَبْصَارِهَا، وَإِحْيَاءٌ لِلتَّفْكِيرِ، وَإِقَامَةٌ لِلتَّدْبِيرِ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَحَامِدِ الْأُمُورِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلاَقِ إِنْ شَاءَ اللهُ.
الْوَاصِفُونَ أَكْثَرُ مِنَ الْعَارِفِينَ، وَالْعَارِفُونَ أَكْثَرُ مِنَ الْفَاعِلَينَ.
فَلْيَنْظُرِ امْرُؤٌ أَيْنَ يَضَعُ نَفْسَهُ. فَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهِ آفَةٌ نَصِيبًا مِنَ اللُّبِّ يَعِيشُ بِهِ، لاَ يُحِبُّ أَنَّ لَهُ بِهِ مِنَ الدُّنيا ثَمَنًا. وَلَيْسَ كُلُّ ذِي نَصِيبٍ مِنَ اللُّبِّ بِمُسْتَوْجِبٍ أَنْ يُسَمَّى فِي ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَلاَ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَاتِهِمْ.
فَمَنْ رَامَ (٢) أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ الاسْمِ وَالْوَصْفِ أَهْلًا، فَلْيَأْخُذْ لَهُ عَتَادَهُ (٣)، وَلْيُعِدَّ لَهُ طُولَ أَيَّامِهِ، وَلْيُؤْثِرْهُ عَلَى أَهْوَائِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رَامَ أَمْرًا جَسِيمًا لاَ يَصْلُحُ عَلَى الْغَفْلَةِ، وَلاَ يُدْرَكُ بِالْمَعْجَِزَةِ (٤)، وَلاَ يَصِيرُ عَلَى الْأَثَرَةِ. وَلَيْسَ كَسَائِرِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَسُلْطَانِهَا وَمَالِهَا وَزِينَتِهَا الَّتِي قَدْ يُدْرِكُ مِنْهَا الْمُتَوانِي مَا
_________
(١) الصَّقْلُ: الْجِلاَءُ. وصَقَلَ الشيْءَ يَصْقُلُهُ صَقْلًا وصِقَالًا، فهو مَصْقُولٌ وَصَقِيلٌ: جَلاَهُ. والاسم: الصِّقَالُ.
(٢) رَامَ الشيْءَ يَرُومُهُ رَوْمًا ومَرَامًا: أي: طَلَبَهُ.
(٣) الْعَتَادُ: الْعُدَّة، يقال: أَخَذَ للأمرِ عُدَّتَهُ وَعَتَادَهُ، أي: أُهْبَتَهُ وَآلَتَهُ.
(٤) الْمَعْجَِزَةُ بفتح الجيم المعجمة وكسرها، مِنَ الْعَجْزِ وهو الضعف. قال الجوهري في "الصحاح": «تقول: عَجَزْتُ عن كذا أَعْجِزُ بالكسر عَجْزًا وَمَعْجِزَةً وَمَعْجَزَةً وَمَعْجِزًا وَمَعْجَزًا بالفتح أيضًا على القياس».
1 / 25