Revolución de la poesía moderna desde Baudelaire hasta la época actual (Parte I): El estudio
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Géneros
لغة الزهور والأشياء الخرساء.
تدور القصيدة في إطار من التفكير الأفلاطوني والروح المسيحية الصوفية. فارتفاع الروح إلى الحقيقة المتعالية، وسموها فوق القشرة الأرضية، ونفاذها من هذا الطريق إلى جوهرها وجوهر الحياة الأرضية هو ما تسميه كتب التصوف المسيحي بالارتفاع أو السمو أو الصعود
elevatio-ascensio - وهذه الكلمة الأخيرة هي التي جعلها بودلير عنوانا على قصيدته التي توحي إلى جانب هذا بالاتفاق في كثير من الوجوه بين لغتها ولغة التصوف عامة والتصوف المسيحي بوجه خاص. فالنار الصافية التي يذكرها بودلير تقابل المذاهب القديمة والمسيحية التي ترى أن السماء العليا، أو سماء النار
Empyreum
هي موطن «الترانسندنس» أو الحقيقة المتعالية. والتطهر المعروف عند المتصوفين من أقدم العصور يذكرنا به حديث الشاعر إلى روحه بقوله: «طهري نفسك.» أضف إلى هذا أن التصوف يرتب مراحل السمو والارتفاع على تسع درجات، توافق ما لهذا العدد من قداسة لحقت به منذ القدم. وإذا تأملنا القصيدة وجدناها تصف تسع درجات أو لنقل «مقامات» ينبغي للروح أن ترتفع إليها واحدة بعد الأخرى. فهل نستنتج من هذا أن التراث الصوفي قد أثر على بودلير؟ لا نستطيع أن نجيب على هذا التساؤل إجابة حاسمة. لا سيما وأن الشاعر قد تأثر أيضا بالمتصوف السويدي «سويد نبورج» وغيره من المتصوفين المسيحيين. ولا نستطيع من جهة أخرى أن ننكر دور التراث المسيحي عامة في التأثير على بودلير. والمهم بعد كل شيء أن القصيدة تفتقر إلى شيء يجعل التقابل الذي افترضناه ناقصا. فالشاعر لا يذكر شيئا عن الهدف الذي يريد أن يصل إليه من ارتفاعه، أو لعله لا يريد أن يذكره. وإذا وجدنا شاعرا صوفيا مثل الشاعر الإسباني خوان دي لاكروز يقول: «حلقت عاليا عاليا» حتى بلغت الهدف من رحلتي «فان بودلير لا يبلغ هذا الهدف أو لا يملك الوسيلة التي تمكنه من بلوغه.» والدليل على هذا تقدمه الأبيات الأخيرة من قصيدته. إنها تتحدث بطريقة غامضة عن الرحيق السماوي، كما تتحدث عن الأعماق المهولة غير المحدودة والأجواء الساطعة، ولكنها لا تذكر الله بكلمة واحدة. ثم إننا لا نعرف شيئا عن تلك اللغة التي ستفهمها الروح بغير عناء؛ لغة الأزهار والأشياء الصامتة الخرساء. ولذلك يظل الهدف بعيدا، أو بالأحرى يظل نزعة مثالية خالية من كل مضمون، وهذه المثالية في حقيقتها تمثل أحد قطبي التوتر والصراع الذي يعانيه الشاعر ويسعى إليه دون أن يستقر لديه في آخر المطاف.
هذه المثالية الفارغة هي التي تسيطر على تفكير بودلير بوجه عام. إنها تنحدر بلا شك من أصول رومانتيكية. غير أن الشاعر يبث فيها الحركة ويضفي عليها ديناميكية تجعل منها قوة جذب شديدة، تدفع التوتر إلى أعلى ثم لا تلبث أن تسقط المتوتر نفسه إلى الحضيض. إنها كالشر قوة قاهرة يطيعها الشاعر دون أن تزيل توتره أو تريحه منه؛ ولذلك نجد بودلير يسوي كثيرا بين المثال والهاوية، كما نجده في مواضع عديدة من أشعاره يستخدم تعبيرات تبدو متناقضة في ظاهرها ولكنها مشحونة بالتوتر الذي لا مخرج منه ... لنذكر أمثال هذه التعبيرات التي ترد كثيرا في قصائده: «مثال مؤلم»، «إنني مغلول إلى هاوية المثال»، «سماء مسدودة» ...
وأمثال هذه التعبيرات معروفة في كتابات المتصوفين الكبار، وهي تدل عندهم على الأثر المؤلم اللذيذ الذي تتركه النعمة الإلهية في نفوسهم، كما تدل على المرحلة التي تسبق حلول هذه النعمة، ولكنها تدل عند بودلير على الصراع والتوتر الذي أشرنا إليه بين النزعة الشيطانية والنزعة المثالية، بين الرغبة في السقوط والشوق إلى الارتفاع. ووظيفة التوتر القائم بين هذين القطبين هي المحافظة على العاطفة المتمردة الثائرة التي تمكنه من الخلاص من العالم السطحي السخيف الذي تختنق فيه حياته. ومع ذلك يظل هذا الخلاص بغير هدف، ويظل عاجزا عن الخروج من هذه العاطفة الثائرة أو تجاوزها إلى ما بعدها.
ربما تكون القصيدة الأخيرة في أزهار الشر، وهي قصيدة «الرحلة»، من أدل قصائده على ما نقول. إنها تجرب كل محاولات الخلاص، لكي تصمم في النهاية على الموت، أما ما يجلبه الموت، فهو شيء لا ندريه.
فالمهم هو السفر في حد ذاته، وأما الشاطئ المجهول فلا أهمية له:
أما المسافرون الحقيقيون فهم وحدهم الذين يسافرون،
Página desconocida