Revolución de la poesía moderna desde Baudelaire hasta la época actual (Parte I): El estudio
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Géneros
كان هذا هو الذي فعله فيكتور هيجو، ولكنه زاد على هذه المعاني كلها معنى القبح. فهو لم يتوسع في نظريته عن المسخرة فحسب، بل سوى بين الجمال والقبح، وتلك في الحقيقة هي أهم خطوة خطاها الشاعر الفرنسي، وكان لها بعد ذلك أبعد الأثر في نظرية الشعر الحديث، ففكرة القبح التي كان ينظر إليها نظرة الإزراء ولا يسمح بها إلا في الأنواع الأدبية المنحطة أو على هامش الفنون التشكيلية؛ قد ارتفعت قيمتها حتى أصبحت قيمة ميتافيزيقية.
وفيكتور هيجو يصدر في هذا كله عن فكرته عن العالم الذي يراه في حقيقته منقسما على نفسه إلى أضداد متصارعة، كما يرى أنه لا يتحد مع نفسه إلا بفضل هذا الصراع بين الأضداد. والفكرة قديمة قدم هيراقليطس، ولكن الذي يضيفه شاعرنا هو الدور الجديد الذي تقوم به فكرة القبح في نظريته؛ فلم يعد القبح قيمة مضادة للجمال، بل أصبح عنده قيمة مستقلة بنفسها، تظهر في العمل الفني على صورة المسخرة، أي على صورة كيان ناقص مشوه متنافر. والنقص كما يقول هيجو: «هو أنسب وسيلة لتحقيق الانسجام.» وإذن ففكرة التجانس قد غيرت مدلولها القديم بحيث أمكن أن يدخل فيها التنافر وعدم الانسجام، ونقصد به تنافر الأجزاء أو الشذرات الناقصة، ووظيفة المسخرة أن تريحنا من الجمال وتجنبنا رتابته «بصوتها الزاعق». إنها تعكس على مرآتها ذلك التنافر أو النشاز القائم بين المراتب الحيوانية والمراتب الإنسانية العليا، وتشوه الظواهر أو تفتتها إلى قطع متناثرة معبرة عن أن «الكل العظيم» لا يمكن أن يدرك إلا على صورة شذرات؛ لأن إدراك الكل يتعارض مع طبيعة الإنسان.
ولكن ما هو هذا الكل؟ الغريب أن فيكتور هيجو لا يجيب على هذا السؤال أو يجيب عنه إجابة مضطربة. ولعله أراد أن يجيب عنه إجابة مسيحية، كأن يقول مثلا إنه العلو (أو الترانسندنس) الخالي من كل حقيقة.
المهم أنه لا يرى منه إلا حطامه الذي يتبدى له على هيئة نتف ممزقة تثير المسخرة وإن كانت لا تثير الضحك ولا تتصل به، ولو كان فيه شيء يضحك لكان ضحكا أقرب إلى التهجم والفزع والتكشير عن الأنياب؛ ضحكا من ذلك النوع الذي يبعث على الإحساس بالقلق والتوتر الذي تتطلع إليه النفس الحديثة أكثر مما تتطلع للهدوء والراحة والاستقرار.
تلك نظريات رومانتيكية سنجدها بعد سنوات قليلة عند كاتب مثل تيوفيل جوتييه. إنها بعض من هذه الجراح التي تحدث عنها بودلير وذكرناها في الصفحات السابقة. وهي تمهد الطريق على كل حال لقصائد فيرلين عن المهرجين، ولكثير من شعر رامبو وترستان كوربيير، كما تشير إلى «المزاج الأسود» الذي عرف عن السرياليين وسلفهم لوتريمو، وإلى كل ألوان العبث والمحال التي نلمسها لدى المعاصرين. وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على الحقيقة الشاملة المتعالية (أو ما يعرف في لغة الفلسفة بالترانسندنس)
5
التي استحالت عند المحدثين إلى شذرات ممزقة وألوان وأنغام متنافرة، فلم يعد أحد يعتقد بكليتها وشمولها أو يؤمن بانسجامها وتجانسها.
الفصل الثاني
بودلير (1821-1867م) شاعر العصر
الحديث
Página desconocida