Revolución de la poesía moderna desde Baudelaire hasta la época actual (Parte I): El estudio
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Géneros
أما شاعرنا «لوركا» فيقول في مطلع قصيدته إن قرطبة بعيدة. ونخطئ لو تصورنا أنه بعد مكاني. فالفارس يرى المدينة أمام عينيه ولكنها بعيدة عنه بعدا مطلقا، على الرغم من قرب المسافة التي تفصله عنها. هناك لغز محير يتمثل في شبح الموت الذي يطارده ويبعد المدينة عنه ويجعل الطريق إليها طريقا خطرا لا نهاية له. ما من شوق ولا دموع، ما من عزاء عن هذا الإحساس بالبعد المحتوم. فالنفس تعيش في يأس مطبق، في حالة شعورية لا حدود لها ولا معالم. والشاعر ينادي الجواد والطريق والموت وهذا هو كل شيء. أضف إليه هذه الجمل التي تدور في شبه دائرة ناقصة، وتخلق باستغنائها عن الأفعال صورة لغوية تعبر عن استسلام الشاعر للغربة والخطر الجاثم عليه.
هكذا يتجلى لنا الفارق العميق بين أسلوبين في التعبير الشعري؛ فالهدف البعيد في المكان يظل قريبا من نفوس القدماء، إنهم يتصورونه ويحنون إليه ويبكونه ويعزون أنفسهم ببلوغه، أما المحدثون فيتحول القرب المكاني عندهم إلى بعد باطني مخيف، تحس به نفوسهم أوضح إحساس وأقساه.
إن الشاعر القديم مطمئن إلى العودة إلى بيته وأهله، أما الشاعر الحديث فيشعر أن هذه العودة مستحيلة، لأن هناك لغزا أو قدرا يأسره ويتسلط عليه ويبعد الوطن عنه أو يبعده عن الوطن. إنه ليس غريبا في هذا العالم فحسب، بل إن العالم نفسه قد صار غريبا عليه. ولعل قصيدة لوركا الأخيرة أن تكون من أوضح الأمثلة على استحالة العودة إلى وطن تسكن النفس إليه، ربما لأن الوطن صار غريبا، والغربة صارت وطنا. (8) غموض الشعر الحديث
تحدثنا في الصفحات السابقة عن غموض الشعر الحديث، وبينا أنه من أهم الخصائص التي تميزه. والواقع أن الشعر الحديث يلقي على اللغة مهمة عسيرة وغريبة معا، ألا وهي أن تفصح عن المعنى وتخفيه في آن واحد. فالغموض يوشك أن يصبح مبدأ جماليا عاما لهذا الشعر. إنه يعزل القصيدة عن وظيفة اللغة الأساسية في النقل وتوصيل المعاني، ليعلقها في ما يشبه الفراغ، فتبتعد عن القارئ كلما حاول أن يقترب منها. وقد يبدو في بعض الأحيان كأن الشعر الحديث ليس إلا محاولة لتسجيل إحساسات مبهمة وتجارب مضطربة يحتفظ بها الشاعر لمستقبل قريب أو بعيد، يستطيع أن يعبر فيه عن إحساسات أوضح وتجارب أنجح. ولهذا فهو يدور ويدور حول إمكانيات لم تثبت أو تتحقق بعد.
ولكن من أين يأتي هذا الغموض؟
قد يأتي من المضمون أو من الأسلوب الذي يلجأ إليه الشاعر. فالقصيدة تتكلم عن أحداث أو كائنات أو أشياء لا يعرف القارئ شيئا عن مكانها أو زمانها أو أسبابها، ولا يخبره الشاعر بشيء عنها، وعباراتها لا تتم ولا تكمل بل تنقطع فجأة لسبب لا يدريه، كأنما حاولت أن تقطع الصمت المطبق فلم تفلح. وقد لا يتألف المضمون إلا من مواقف لغوية متباينة، تختلف بين الخشونة والنعومة والسرعة، بحيث تكون الموضوعات والمشاعر التي تتحدث عنها مجرد مادة بلا معنى محدد. ومن أبرز وسائل الأسلوب التي تسبب الغموض تغيير وظيفة الحروف والروابط والصفات والظروف وصيغ الأفعال المختلفة، وترتيب الجملة العادية ترتيبا غير عادي، والميل إلى ما يمكن تسميته بالجمل المفتوحة، كأن تتألف الجملة من أسماء لا يرتبط بها فعل، أو نجد جملة رئيسية بلا جملة جانبية أو العكس، أو جملة شرطية بغير جواب الشرط، أو إسقاط أدوات التعريف عن الأسماء أو استخدامها بطريقة تزيد من الغموض بدلا من أن تعمل على التحديد والتعريف، أو استخدام الكلمات بمعان قديمة مشتقة من أصولها الأولى التي لم يعد يستخدمها أحد. أضف إلى هذا أننا قد نجد قصائد بلا عنوان، أو بعناوين لا توافق موضوعها فتزيد بذلك من تعدد المعاني المختلفة التي توحي بها. وقد يكون السبب في التخلي عن العنوان هو رغبة الشاعر أن يخلي مضمونه من أية صلة تربطه بالواقع والمألوف. ويذكرنا هذا ببيكاسو الذي اشتهر عنه أنه لا يضع عناوين للوحاته، بل يتولى ذلك عنه تجار اللوحات ومنظمو المعارض الفنية.
ويطول بنا الأمر لو أردنا أن نتتبع أقوال الشعراء التي يطالبون فيها بالغموض أو يحاولون تبريره. وقد سبقت الإشارة إلى بعض هذه الأقوال في الفصل الأول. ولا بأس من أن نورد بعضها الآخر؛ فهي جميعا تثير مشكلة الفهم إلى جانب مشكلة الغموض، ومعظمها يتجه إلى الجواب عليها في نفس الاتجاه الذي سار فيه مالارميه من قبل. فالشاعر «ييتس» يتمنى أن يكون للقصيدة من المعاني بقدر عدد قرائها! وإليوت يقول إن القصيدة شيء مستقل يقف بين المؤلف والقارئ، كما أن العلاقة بين المؤلف والقصيدة تختلف عن العلاقة بينها وبين القارئ. فالقصيدة التي يكتبها الشاعر تخرج من يده إلى الأبد. وقد يستشف القارئ فيها معاني لم تخطر على بال المؤلف، أي أن من حق القارئ أن «يؤلفها» لنفسه من جديد. والشاعر البرتغالي بيدرو ساليناس يقول في هذا المعنى: «إن الشعر يرتبط بشكل عال من التفسير يكمن في سوء الفهم. فالقصيدة تنتهي بعد كتابتها ولكنها لا تتوقف، بل تبحث عن قصيدة أخرى في نفسها أو في المؤلف أو القارئ أو الصمت ...» أي أن القوى الكامنة في القصيدة أو في اللغة التي كتبت بها لا تنتهي بمجرد الفراغ من تأليفها بل تطلق طاقات جديدة في نفس الشاعر والمتلقي، وهي طاقات تظل كامنة في لغة القصيدة دون أن يعرف الشاعر عنها شيئا.
وقد «يوضح» ما نريده بهذا الغموض أو الإظلام في الشعر الحديث أن نضرب مثلا له بإحدى قصائد الشاعر الإسباني «جيان» عنوانها «أغمض عيني» ويمكن أن تعتبر نوعا من التبرير الشعرى لذلك الغموض، كما يمكن أن نتسمع فيها أصداء من قصيدة مالارميه السابقة عن الزهرية. تقول القصيدة:
أغمض عيني، والسواد يطلق شرارات
هي القدر السعيد؛
Página desconocida