Revolución de la poesía moderna desde Baudelaire hasta la época actual (Parte I): El estudio
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Géneros
إن الواقع قاصر، والحقيقة المتعالية عدم، وعلاقته بهما صراع مرير؛ ونشاز مستمر، والفشل دائما هو الحصاد الأخير ماذا يبقى إذن لهذا الشاعر؟ يبقى له القول الذي يحمل في ذاته حجته وبرهانه. إنه وحيد تماما مع لغته، يجربها ما شاءت له التجربة الحرة والخيال الطليق. هنا حريته ووطنه، وهو يقوم بمغامرته ويعلم أن الناس قد تفهمه وقد لا تفهمه، ولو لم يكن هذا هو موقف الشعر الحديث كله، لما وجد مالارميه ما وجده حتى الآن من الإكبار والإعجاب. (18) كلمة أخيرة
يقول مالارميه: «بعد أن وجدت العدم وجدت الجمال.» ولكنه بعد أن وجد الجمال المطلق رأى نفسه يعود من جديد إلى العدم. تبين له أو لمن جاءوا بعده أن «التذوق المتطرف للشكل» - كما يقول بودلير - والعناية الفائقة بالجمال قد التهمت الحياة وأفقرت الواقع وانتهت إلى عقم الشعر.
وإذا قلنا في نهاية هذا البحث بالعودة إلى الواقع فليس ذلك إيثارا للسهولة، ولا جريا وراء النداءات والكلمات المكرورة التي جنت هي أيضا على الواقع حين وضعته في قوالب جامدة محدودة. ولكننا نقصد أن الشعر كان دائما في صميمه مشغولا بالواقع، أعني بوضع الإنسان وحالته في العالم. وإذا كان الشعر في أواخر القرن التاسع عشر قد اندفع إلى أقصى حدود هذا الواقع لكي يمد يديه إلى المجهول، وإذا كان قد حاول إلغاء هذا الواقع والفرار من سجنه الخانق بحثا عن المطلق أو الجمال الخالص أو المجهول؛ فقد كان في ذلك كله يحقق وظيفة الشاعر الخالدة؛ تنقية الواقع وإعادة خلقه أو تشكيله بعد أن خربه الإنسان بالشر والقهر، وأفسده بالظلم والفقر، وتقديم أغنيته شهادة على إيمانه بالمعنى في عالم فقد معناه. صحيح أنه أسرف في هدمه للواقع - الخارجي واللغوي - وتصفيته بل وإلغائه، حتى صار الشاعر هو الشهيد أو المنتحر الذي يقتل نفسه في سبيل أن يحيا المطلق. ولكن ألم تكن هذه هي النهاية المحتومة لقصة طويلة بدأت من عصر الإصلاح والنهضة حين انفصلت الرموز عن الواقع الذي كانت قائمة فيه، وراح الإنسان بعد ذلك - مثل باسكال - يضل بينهما في صحراء البحث؟ ألم تصل هذه الدراما إلى ذروتها عند «كانت» الذي أوقف موكب العقلانية المنتصر، وكشف لسفينة العقل البشري عن الظلمات المحيطة بها من كل جانب في رحلتها إلى المطلق والمجهول؟ أليس حكيم كونجسبورج العجوز هو الذي سلب العقل من كل أمل في بلوغ المطلق ثم أشفق عليه ففتح باب الأمل الخلفي عن طريق القلب أو الإيمان أو الأخلاق أو العقل العملي كما يسميه؟ ألم يزد الاهتمام بعد ذلك بتجربة الخلق والفن والجمال على يد فلاسفة مثل شيلنج وشوبنهور حتى وصل إلى حد الرعشة المقدسة عند نيتشه؟ ألم يقل هذا إن العالم في صميمه «ظاهرة جمالية» وإن ملكة الخلق والإبداع هي السبيل الوحيد إلى المطلق، وإن الشيء الوحيد الذي يبرر العالم والوجود إلى الأبد هو أن يكون ظاهرة جمالية؟ ألم يحكم بعجز المعرفة والأخلاق عن إدراك معناه؟ وحين كان في مراحل حياته التالية يفقد إيمانه بهذه الحقيقة أو «هذا الإنجيل الوحيد الممكن على الأرض» - ألم يكن ينحدر إلى أعماق اليأس ويجد نفسه وحيدا مع العدمية التي كان أكبر مكتشفيها وأكثرهم استماتة وأملا في القضاء عليها؟ ألم يكن يحدث له هذا كلما تشكك في الجمال وتصور أنه وهم وباطل؟
ولكن نيتشه حلقة في سلسلة طويلة بدأت بكانت إلى شوبنهور، وامتدت بعدهما إلى فاجنر وبودلير، إلى أن وصلت لمالارميه فكان أعظم وآخر حلقة فيها، وجوهرة العقد التي توهجت ثم خبا فيها البريق. صحيح أن نورها أو لهيبها ما يزال يلسع أصابع الشعراء إلى يومنا الحاضر، ولكن لعلهم قد صاروا الآن أكثر ميلا إلى الاستدفاء بشمعة الحياة والواقع، بدلا من الاحتراق في وهج المثال والمطلق.
الفصل الخامس
ثورة الشعر في القرن العشرين
ليكن الشعر عونا على الفعل.
إلوار ***
كانت هذه نظرات سريعة إلى التطور العام للشعر الحديث، لا تغني بالطبع عن التفصيل؛ فالصورة العامة لهذا الشعر صورة محيرة، ولن يقربنا منها سوى الرجوع إلى الأصول التي مهدت لها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإلقاء نظرة خاطفة على ملامحها الفردية عند بعض الشعراء الذين يمثلون أصدق تمثيل.
ولقد رأينا أن الأسلوب الشعري الذي يسيطر اليوم على القرن العشرين قد نشأ في فرنسا لا في أي بلد أوروبي آخر، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
Página desconocida