Revolución de la poesía moderna desde Baudelaire hasta la época actual (Parte I): El estudio
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Géneros
وإذا انتقلنا إلى ديدرو وجدناه يجعل من الخيال شيئا مستقلا بنفسه ويسمح له أن يقيس نفسه بنفسه وأفكار ديدرو تختلف عن أفكار روسو فهي مرتبطة بتفسيره لظاهرة العبقرية والعبقري كما عرضه في روايته «ابن أخ رامو».
2
وفي مقاله عن العبقرية في دائرة المعارف الشهيرة التي كان له فضل تأسيسها وإتمامها، يقول ديدرو في روايته إن الارتباط الذي نلمسه كثيرا بين العبقرية والنزعة اللاأخلاقية، وبين الإخفاق في الحياة الاجتماعية والنبوغ العقلي حقيقة ينبغي أن نقررها وإن كنا نعجز عن تفسيرها. والفكرة في حد ذاتها فكرة جريئة؛ فهي تلغي ما عرف منذ العصور القديمة من تسوية بين الملكات الجمالية والمعرفية والأخلاقية ووضعها في مرتبة واحدة. بذلك تصبح العبقرية الفنية نظاما مستقلا يخضع لقوانين مستقلة، كما يصبح العبقري استثناء يشذ عن كل قاعدة. ويكفي أن نقارن هذا الرأي بمحاولات «ليسنج» و«كانت» للربط بين شذوذ العبقرية وبين قيم الحق والخير.
ولا تقل مقالة ديدرو في دائرة المعارف عن ذلك جسارة. صحيح أنها تتصل بفكرة قديمة تقول إن العبقرية قوة فطرية تمكن صاحبها من القدرة على الاستشراف والتنبؤ وتجيز له أن يحطم كل القواعد المألوفة. ولكننا لن نجد عند كاتب قبل ديدرو أمثال هذه العبارات: إن من حق العبقري أن يكون ضاريا، ومن حقه أن يخطئ، بل إن أخطاءه الغريبة المذهلة هي التي تلهب وتضيء. إنها تنتثر في كتاباته كالشرارات المتقدة الخاطفة. وهو يحلق كالنسر المسحور بروعة أفكاره، ويبني بيوتا لا يستطيع عقل أن يسكنها. إن إبداعاته تأليفات حرة يفتن بها ويحبها، وملكته تنتج أكثر مما تكتشف. ولذلك «لم يعد الصدق والكذب من الخصائص المميزة للعبقرية.» أما الخيال أو المخيلة فهي القوة التي توجه العبقري، وما يصدق عليه يصدق بالمثل عليها، أعني أن تكون حركة ذاتية لملكات العقل وقواه، تقاس قيمتها بأبعاد الصور المبدعة، وتأثير الأفكار، والدينامية الخالصة التي تحررت من الارتباط بأي مضمون ولم تعد تعبأ التفرقة بين الخير والشر، والصدق والكذب، والصواب والخطأ. ألا يجعلنا هذا كله على بعد خطوة واحدة مما سميناه بطغيان الخيال أو المخيلة المتسلطة التي سيكون لها أكبر الأثر على الشعر فيما بعد؟
ثمة شيء آخر نجده عند ديدرو في كتابه «الصالونات» الذي كان يصدر فيه أحكامه النقدية على فن الرسم في عهده. فنحن نجد فيها لونا من التذوق الحساس لجو اللوحة، كما نجد آراء جديدة عن القوانين المستقلة للضوء والألوان، أعني المستقلة عن الذات المبدعة والذات المتلقية على السواء. وأهم من هذا كله أن تحليلات ديدرو عن الرسم تلتقى بتحليلاته الأدبية. ولا صلة لهذا بالنظرية القديمة التي ارتبطت بكلمة هوراس المعروفة (وهي كلمة أسيء فهمها كثيرا): «الشعر كالرسم
ut pictura
فالملاحظ عند ديدرو هو تقارب التفكير في الأدب من التفكير في الفنون التشكيلية، وهو شيء يعود إلى الظهور عند بودلير ويستمر ويزداد قوة في العصر الحاضر.
ونجد كذلك في «الصالونات» رأيا في طبيعة العمل الأدبي والخلق الشعري قد لا نعرف له نظيرا إلا في آراء الفيلسوف الإيطالي ج. ب. فيكو الذي لم يعلم ديدرو عنه شيئا. فديدرو يرى أن النغمة بالنسبة للبيت من الشعر كاللون بالنسبة للصورة. وهو يسمي العنصر المشترك بينهما «سحر الإيقاع»، ويقول إنه يؤثر على العين والأذن والخيال تأثيرا عميقا لا تقدر عليه الدقة الموضوعية. إن «الوضوح يضر!» ولذلك فهو يهتف بالأدباء: «أيها الأدباء، كونوا غامضين.» ويدعو الأدب إلى الاتجاه للموضوعات المظلمة، البعيدة ، المفزعة، الحافلة بالغموض والظلام والأسرار. والمهم بعد هذا كله أن الأدب في رأي ديدرو ليس تعبيرا عن الأشياء والموضوعات، بل هو حركة وجدانية «تتوسل بالخلق الحر للاستعارات» لتقذف بنفسها إلى أقصى الحدود والأطراف، كما تستعين كذلك بالألحان والأنغام الغريبة المتطرفة.
وديدرو يعلن بهذا كله حقائق جوهرية تتمثل فيها روح الشعر الحديث، وكأني به يتنبأ بما ستكون عليه حاله في المستقبل الذي نشهده اليوم!
فها هو ذا يقدم سحر اللغة على مضمونها، وحركة الصورة على معناها. وبينما كان عصر التنوير يشرف على نهايته كان ديدرو يكتشف ما أنكره أقطاب هذا العصر وتجاهلوه. فالأدب عنده سر، نسيج هيروغليفي، حديث بالرموز والألغاز، يتألف من طاقات نغمية أفعل في تأثيرها من الفكرة. بل إنه ليسير إلى أبعد مدى ممكن في التحرر من الموضوعية أو الشيئية، تشهد على ذلك هذه العبارة المدهشة: «إن الأبعاد الخالصة المجردة للمادة لا تخلو من قدرة معينة على التعبير.» وسنرى من هذه الدراسة أن بودلير سينطق بمثل هذه العبارة وسيزيدها حسما وتحديدا، وإنه سيضع بذلك حجر الأساس لأحد معالم الأدب الحديث، وهو الذي يمكن أن نسميه الشعر المجرد أو الشعر الخالص المحض.
Página desconocida