Revolución de la poesía moderna desde Baudelaire hasta la época actual (Parte I): El estudio
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Géneros
أصبحت البنية اللغوية المتحركة والتتابع النغمي والإيقاعي المتحرر من المعنى أهدافا تقصد لذاتها كما حدث في فن الرسم الحديث والمعاصر عندما استقل اللون والشكل بنفسهما وأزاحا الموضوع والشيء أو استبعداهما كل الاستبعاد؛ ولذلك لم يعد من الممكن أن تفهم القصيدة من مضمون عباراتها، لأن مضمونها الحقيقي يكمن في «درامية» القوى الشكلية التي تتحكم فيها من الخارج أو من الداخل. مثل هذه القصيدة تجذب القارئ أو المستمع ولكنها تحيره وتصدمه. إنها تستخدم اللغة بطبيعة الحال ولكنها لغة لا توصل لقارئها موضوعا ولا تنقل إليه معنى.
لا غرابة إذن في أن يوصف الشعر الذي يحتوي على مثل هذه الظواهر بأنه نشاز. ولكنه يتصف كذلك بالشذوذ والخروج على المألوف. يشهد بهذا أن صفة المفاجأة أو الغرابة قد أصبحت من المفهومات الرئيسية التي تتردد في كتابات نقاده المعاصرين. والحق أن من يروم المفاجأة بالوسائل غير المألوفة يضطر للجوء إلى وسائل شاذة. والشذوذ كلمة خطيرة لا يرتاح إليها الإنسان في الشعر ولا في غير الشعر. فهو يوحي بوجود قيم ثابتة تعلو على الزمان والمكان، بينما الواقع يؤكد أن ما يصفه عصر بالشذوذ قد يتخذ منه عصر تال معيارا له، أي أن القيمة التي يستهجنها زمن قد يتقبلها زمن آخر. ولكن هذا الكلام لا يصدق على الشعر الذي نتحدث عنه، بل لا يصدق على رواده الفرنسيين الأوائل. فما زال شعر رامبو ومالارميه بعيدا عن تذوق الجانب الأكبر من جمهور القراء، على الرغم من كثرة ما كتب ويكتب عنهما، كما أن استحالة تمثل الشعر الحديث من أهم الصفات التي تنسحب أيضا على شعر المعاصرين.
ونحب أن نؤكد هنا أن استخدامنا لكلمة الشذوذ في الحكم على الشعر الحديث لا يعني أنه شعر مرضي أو منحل، ولا يعني أننا نصدر عليه حكما أخلاقيا، ولكننا نقصد منه الكشف عن ظواهره التي تميزه عن الشعر القديم. فإذا وصفنا مثلا إحدى قصائد جوته أو هوفمنستال بأنها سوية فإنما نقصد بذلك وصف الحالة النفسية أو الشعورية التي تقدر على فهم هذه القصيدة. صحيح أن بعض المتحمسين للشعر الحديث يحاولون أن يحموه من ضيق الأفق البرجوازي أو الذوق المدرسي والتقليدي ولكنهم بهذا يثبتون عدم نضجهم ويخطئون في إدراك الباعث الحقيقي على مثل هذا الشعر، بل ويؤكدون جهلهم بتطور الشعر الأوروبي على مدى ثلاثين قرنا. ليس الشعر الحديث ولا الفن الحديث في حاجة للوقوف منهما موقف الانبهار أو الإنكار. إنهما ظاهرتان راسختان من ظواهر العصر الحاضر ومن حقهما أن نعرفهما ونقدرهما عن وعي وتبصر. ومن حق القارئ أيضا أن يستمد مقاييسه وقيمه في الحكم والتذوق من الشعر القديم الذي تعود عليه، وليس لنا أن نلومه على ذلك. وإذا كنا نتحاشى تطبيق هذه القيم والمقاييس في حكمنا على الشعر الحديث، فإن هذا لا يمنعنا من الاستعانة بها في الوصف والمعرفة. والوصف والمعرفة ممكنان حتى في مثل هذا الشعر الذي لا ينتظر من القارئ أن يفهمه؛ لأنه، كما يقول إليوت، لا يحتوي على أي معنى يرضي عادة من عادات القارئ. ذلك لأن بعض الشعراء، كما يقول إليوت أيضا، يشعرون بالقلق والضيق إزاء هذا المعنى لأنه يبدو لهم شيئا سطحيا، وهم يرون أن إمكانيات العمق أو الحدة الشاعرية يمكن أن تأتي من انصراف الشاعر عن المعنى، والشعر الحديث قابل بغير شك أن يوصف ويعرف، مهما سمح لنفسه بأقصى درجات الحرية. صحيح أن الناقد أو القارئ لن يفهم منه كثيرا، بل إن قدرة الشاعر نفسه على فهم قصيدته محدودة إلى أقصى درجة، ولكن القارئ سيعرف على الأقل أنه شعر متحرر، وسيحاول أن يتبين مظاهر هذه الحرية التي بررت من قبل وصفه بالشذوذ أو النشاز، وسيقرر بعد قراءة العديد من نماذجه الصالحة أن صعوبة فهمه أو استحالته في أغلب الأحيان طابع مميز فيه وعلامة دالة على أسلوبه. وقد يستطيع كذلك أن يتبين بعض علاماته الأخرى المميزة، إذا حاول أن يضعه في سياق التطور التاريخي، ويستكشف أسرار صنعته ويدرك العوامل المشتركة بين مختلف الشعراء المحدثين والمعاصرين في اللغة والبناء والأداء، ولا بد أن كثرة المعاني التي تشع من القصيدة الواحدة ستربكه وتحيره، ولكنه سيعرف في النهاية أن تعدد المعاني في القصيدة وقابليتها لإمكانات التفسير المختلفة المفتوحة من أهم خصائص الشعر الحديث. (3) مقولات سلبية
لا بد لدارس الشعر الحديث أن يبحث عن المقولات التي يصفه بها، ولا مناص من القيام بهذه المهمة التي يؤكدها النقد كله، ولا مناص أيضا من القول بأن هذه المقولات في مجموعها مقولات سلبية. وينبغي أن نؤكد ما قررناه من قبل من أننا نستخدم هذه المقولات للفهم والتعريف، لا للتقييم وإصدار الأحكام. ووصفنا لها بالسلبية لا يعني بطبيعة الحال أننا ندين الشعر الحديث أو نوجه إليه الاتهام. فأقصى ما يطمح إليه الدارس هو أن يعرف طبيعة هذا الشعر ويضعه في موضعه التاريخي الصحيح. بل إن موقف التعريف لا التقييم هو نفسه جزء من العملية التاريخية الشاملة التي تحرر بها الشعر الحديث من القديم.
لقد أدى التغيير الذي طرأ على الشعر في القرن التاسع عشر إلى تغيير مماثل في مفهوم الآداب ونظريات النقد. كان الشعر حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر وربما بعد ذلك بفترة غير قصيرة، يعيش بأكمله في إطار المجتمع أو في حماه. فالناس ينتظرون منه أن يكون تعبيرا أو تشكيلا مثاليا للمواقف والمشاعر العادية، وعزاء شافيا للآلام والجراح مهما تناول من موضوعات مخيفة أو قاسية. وكان الشعر نوعا من الأنواع الأدبية لا يفكر أحد في تقديمه عليها أو تفضيله عنها. ثم وجد الشعراء أنفسهم في مواجهة مجتمع مشغول بمطالبه الاقتصادية وتأمين حياته المادية، وتقدم علمي يجاهد في تجريد العالم من أسراره وألغازه. فكانت صرخات الاحتجاج التي أطلقها على المجتمع والجماهير التي فقدت الإحساس بروح الشعر. وكان أن أنشق على التراث، وأصبح شذوذ الشاعر تبريرا لأصالة الشعر، وصار الأدب لغة العذاب المتصل الذي يدور ويدور حول نفسه فلا يسعى إلى النجاة والخلاص بقدر ما يسعى إلى الكلمة المعبرة عن عذاب الوجدان. وأصبح الشعر هو أسمى مظاهر الأدب وأنقاها، بل لقد وقف من بقية الأنواع الأدبية موقف المعارضة، وأعطى لنفسه الحرية المطلقة في التعبير عن كل ما يوحي به الخيال القادر المتسلط، والتغلغل المستمر في الحياة الباطنة وأعماق اللاشعور، واللعب بفكرة الوجود الخالي من كل حقيقة متعالية. وانعكس هذا التحول على اللغة التي يستخدمها النقاد والشعراء أنفسهم في كلامهم عن الشعر.
كان نقاد الشعر القديم وشعراؤه يحكمون على القصيدة من مضمونها ويصفونها بما يمكن تسميته بالمقولات الإيجابية. ولو نظرنا في تعليقات جوته مثلا على بعض قصائده أو قصائد غيره من الشعراء لوجدنا مثل هذه الأحكام: متعة، فرح، توافق سعيد، وكل ما خاطر به الشاعر يخضع لمعيار محكم مقنن. الكارثة تستحيل إلى نعمة، العادي والدنيء يسمو ويرتفع. وفضيلة الأدب أنه يعلم الناس أن حالة الإنسان أو وجوده شيء محبب مرغوب فيه؛ فهو ينطوي على «مرح داخلي»، «ونظرة سعيدة وموفقة إلى الواقع» وهو يرتفع بالفردي إلى المستوى العام، أما الأوصاف الشكلية فنجد منها:
الدلالة الفنية للكلمة، اللغة المتزنة المتماسكة التي «تسير بحرص ودقة وتأن». «وتنتقي الكلمة الصحيحة وتتحاشى المعاني الجانبية.»
وأحكام شيلر لا تخرج كذلك عن هذا الإطار، فالقصيدة عنده تضفي النبل وتخلع على الانفعال ثوب الكبرياء، إنها «تكوين مثالي للموضوع الذي تتناوله، بغيره لا تستحق أن تسمى قصيدة.» وهي تتلافي «الإغراب» والشذوذ الذي ينافي «العام المثالي»، وكمالها مستمد من روح مرحة صافية، وشكلها الجميل من «اتصال السياق». وطبيعي أن مثل هذه الأوصاف الإيجابية تستدعي أضدادها من الأوصاف السلبية. ولكن الشعر القديم لم يكن يستخدم هذه الأوصاف السلبية إلا للاتهام أو الإزراء بما يخالف معاييره وأحكامه، كأن يقول مثلا إن القصيدة شذرة ناقصة، أو غامضة مضطربة، أو مجرد حشد للصور، أو ليل مظلم (بدلا من أن تكون نورا يضيء)، أو أحلام مختلطة مترنحة أو نسيج مهزوز (كما يقول الشاعر والناقد النمسوي جريلبارزر في بعض أحكامه).
وهناك نوع آخر من المقولات السلبية يستخدمه أصحابه استخداما ينصب على الشكل أكثر مما ينصب على المضمون. فالشاعر الكاتب الرومانتيكي الألماني الشهير نوفاليس (1772-1801م) يطبق هذا النوع في شذراته المشهورة التي احتوت على تأملات قيمة عن الشعر تطبيقا يميل إلى الوصف والإطراء ويبتعد عن اللوم والاتهام وإبراز العيوب. إن الشعر عنده يقوم على «الإنتاج العرضي المقصود»، ويصور ما يقوله في «تسلسل عرضي حر». وكلما كانت القصيدة شخصية وكلما زاد ارتباطها بالمكان والزمان، كلما اقتربت من مركز الشعر (ولنلاحظ هنا أن الزمانية والمكانية أو المحلية كانتا تعدان في النقد القديم من المآخذ التي تحد من آفاق الأدب عامة).
وإذا انتقلنا إلى شاعر مثل لوتريمو (1846-1870م) وجدنا المقولات السلبية تتراكم عنده بشكل ملحوظ. فقد تنبأ في سنة 1870م بالصورة التي سيكون عليها الأدب من بعده. صحيح أن هذه الصورة تبدو أشبه بالتحذير ودق نواقيس الخطر، وإن كان من المتعذر أن يستقر الإنسان على تفسير لما يقوله هذا الفوضوي العظيم الذي ظل يغير الأقنعة على الدوام. ولكن المدهش حقا أن هذا الشاعر الذي ساهم مساهمة كبيرة في التمهيد للشعر من بعده، قد عرف كيف يحدد خصائصه الأساسية تحديدا صادقا يدل على بعد النظر، ويجعلنا نشك فيما يقال من إنه أراد أن يوقف تطور الشعر على هذا النحو الذي صوره، أو يحملنا على الأقل على عدم الاكتراث. ولننظر الآن إلى بعض هذه الخصائص والملامح التي حددها. سنجد بينها مثل هذه التعبيرات: القلق، الاضطراب، إهدار القيم، السخرية المرة، غلبة الاستثناء والشذوذ، الغموض، الخيال الجامح، الكآبة والظلام، التمزق بين الأضداد المتطرفة، الميل إلى العدم. ثم تأتي هذه الكلمة بين غيرها من عديد الكلمات: النشر (بمعنى نشر الخشب!) ...
Página desconocida