Nuestra cultura frente a la era
ثقافتنا في مواجهة العصر
Géneros
ذهب الفتى إلى كيمبردج، فانفتح أمامه عالم جديد، «لقد وجدت للمرة الأولى» هكذا يروي عن نفسه في ترجمة قصيرة كتبها عن حياته «أنني إذا ما صرحت بفكري، صادف عند السامعين قبولا، أو كان عندهم - على الأقل - جديرا بالنظر: كان وايتهد هو الذي اختبرني في امتحان الدخول، وقد ذكرني لكثيرين ممن يكبرونني بعام أو بعامين، فكان من نتيجة ذلك أنه لم يمض أسبوع واحد، حتى التقيت بمن أصبحوا بعد ذلك أصدقاء العمر كله .. وكانوا يتميزون بقدرتهم العقلية وتحمسهم وأخذهم الأمور مأخذ الجد؛ كانوا يتناولون باهتمامهم أمورا كثيرة خارج نطاق عملهم الجامعي، فيولعون بالشعر والفلسفة، ويناقشون السياسة والأخلاق، وشتى نواحي العالم الفكري ...»
كان ماكتاجارت بين هؤلاء الأصدقاء في كيمبردج، وهو الفيلسوف الهيجلي، فسرعان ما حمل جماعة الأصدقاء على دراسة هيجل؛ وفي ذلك يقول رسل في ترجمته القصيرة لحياته: «وقد علمني ماكتاجارت كيف أنظر إلى الفلسفة التجريبية الإنجليزية نظرة ترى فيها فجاجة وسذاجة؛ وأخذت أميل إلى العقيدة بأن هيجل - وكذلك «كانت» بدرجة أقل - يتصف بعمق هيهات أن تجد له مثيلا في أئمة الفلسفة الإنجليزية: لوك، وباركلي، وهيوم»، على أن الطالب الشاب لم يدخل كيمبردج ليدرس الفلسفة، وإنما دخلها ليدرس الرياضة؛ وهكذا فعل لثلاثة أعوام، وبعدئذ لم يستطع لنفسه دفعا عن الدخول في دنيا الفلسفة بكل ما تستطيعه تلك النفس من جهد واهتمام؛ حتى لقد عني وهو يعد رسالته التي أراد بها أن يظفر بدرجة الزمالة من الجامعة - وكان موضوع الرسالة «أسس الهندسة» - أقول إنه قد عني في تلك الرسالة أن يقيمها على مبادئ الفلسفة الكانتية، وقد عقب عليها ببحث عن العدد والكمية، أقامه على مبادئ الفلسفة الهيجلية؛ لا، بل ذهب به إعجابه عندئذ بهيجل إلى حد الرغبة في محاكاته، فأراد أن يبني لنفسه بناء جدليا كاملا للعلوم كلها، على غرار ما فعل هيجل؛ واستمع إليه يروي عن نفسه: «إني لأذكر ذات صباح، إذ كنت سائرا في متنزه «تير جارتن» في برلين، كيف وضعت لنفسي خطة مؤداها أن أكتب سلسلة من الكتب في فلسفة العلوم، صاعدا بها صعودا متدرجا نحو ما هو أكثر تعينا، فأبدأ بتجريد الرياضة، ثم أنتقل خطوة خطوة إلى نهاية التعيين في علم الحياة (البيولوجيا). وكذلك رجوت عندئذ أن أكتب سلسلة أخرى من الكتب، أعالج بها المشكلات الاجتماعية والسياسة، بادئا هذه المرة بالعلوم المتعينة، ومنتهيا بما هو مجرد، ثم أقيم آخر الأمر بناء - على غرار ما قد صنع هيجل - فأكتب موسوعة أجمع فيها بين النظر والتطبيق؛ تلك خطة أوحى إلي بها هيجل ...»
لكن هذه الوقفة الكانتية الهيجلية لم يطل أمدها مع الفيلسوف الشاب؛ إذ ما جاء عام 1898م - وكان عندئذ قد بلغ من عمره ستة وعشرين - إلا وقد أعلن تمرده على هذين الإمامين، وشاركه في التمرد جورج مور؛ وكان مدار الثورة عندهما هو اعتقادهما - على نقيض ما ذهب إليه كانت وهيجل - أن الأشياء موجودة في دنيا الواقع، وليست هي من خلق الذهن؛ فحتى لو لم يكن في العالم ذات واحدة واعية، لظل العالم معمورا بأشيائه تلك التي نصادفها فندركها فتصبح بعد إدراكها أجزاء من تيار الخبرة في طوايانا؛ وكأنما قسم الثائران ثورتهما قسمين ليضطلع كل منهما بنصيب، أما مور فنصيبه هو أن يدحض المذهب المثالي في جملته، وأما رسل فكان عليه أن يدحض أهم أركان ذلك المذهب المثالي، وهو فكرة «الواحدية» التي تضم شمل الكون كله في بناء واحد متماسك الأطراف متكافل الأجزاء؛ ولما كان الرباط الذي يصل المذهب المثالي في جملته بفكرة الواحدية الذهنية، هو مبدأ العلاقات الباطنية أو المحايثة في مصطلح الفلاسفة، كان من أهم ما اهتم به رسل عندئذ هو إثبات أن العلاقات «خارجية» لا «باطنية»، ولكن ما هذه؟ وما تلك؟
أما القول بالعلاقات «الباطنية» بين الأشياء؛ فمؤداه أن أي فكرتين مرتبطتين إحداهما بالأخرى بأية علاقة، كقولنا - مثلا - إن العدد أربعة «ضعف» العدد اثنين، فإن هذه العلاقة يمكن رؤيتها في كل من الطرفين على حدة، فلو حللت العدد أربعة تحليلا كافيا وجدت بين عناصر معناه أنه «ضعف» العدد اثنين، فإذا جاء قائل بعد ذلك ليقول صراحة إن العدد أربعة هو ضعف العدد اثنين، لم يكن في قوله جديد؛ إذ كل ما فيه هو التصريح بما كان متضمنا في كل من الطرفين المتعلقين أحدهما بالآخر بالعلاقة المذكورة، وهي علاقة «ضعف» أو علاقة «نصف» إذا عكسنا اتجاه الجملة ، وقلنا إن العدد اثنين هو نصف العدد أربعة؛ على هذا النحو تستطيع أن تتصور فكراتنا جميعا، فتجدها متضمنة بعضها في بعضها، حتى ليمكنك استنباط بعضها من بعضها؛ إلى أن تبني منها نسقا واحدا مترابطا، كل جزء منه كاف وحده - إذا حللته تحليلا كافيا - أن يدلك على بقية الأجزاء، ومن ثم كان صدق الفكرة - أي فكرة - معتمدا على أنها مستنبطة من بقية فكرات النسق، ومن ثم كذلك كان النسق الفكري كله واحدا لا تعدد فيه، كأي كائن عضوي حي بالنسبة لأجزائه.
وأما القول بالعلاقات «الخارجية» الذي أعلنه رسل في ثورته على هيجل بصفة خاصة؛ فمؤداه أن هنالك من العلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض ما لا يمكن استخراجه من مجرد تحليلنا للأطراف المرتبطة بتلك العلاقات؛ مثال ذلك أن يرتبط حادثان بعلاقة «قبل»، فإذا قلنا إن الحادثة «س» وقعت «قبل» الحادثة «ص»، كان هذا التتابع الزمني مما لا نجده في عناصر «س» ولا في عناصر «ص»، وإنما المرجع فيه إلى مقياس الزمن الذي يدلنا على ذلك، وليس مقياس الزمن هذا جزءا من «س» ولا جزءا من «ص». وأهمية أن تكون العلاقات «خارجية»، أو أن يكون بعضها على الأقل خارجيا؛ هي أنك إذا أخذت بهذا المبدأ، انتهيت إلى نتيجة، هي أن العالم مكون من حقائق متعددة متكثرة، يرتبط بعضها ببعض على أنحاء مختلفة، نحتاج في إدراكها - إدراك تلك الصور المختلفة للعلاقات بين الأشياء - إلى بحوث ومشاهدات، خارج بنية الأشياء نفسها؛ وإذا كان ذلك كذلك، فليس العالم في حقيقته «واحدا» كما ذهب المثاليون، ولكنه عالم «متعدد» يحتاج في معرفته إلى مشاهدات وتجارب، ولم يعد يكفي فيه أن يقبع الفيلسوف في عقر داره ليستنبط أفكارا من أفكار، حتى يستوي أمامه البناء كاملا متكاملا.
ذلك هو لب الثورة الفلسفية التي خرج بها رسل من تبعيته لهيجل، وهو لم يزل شابا في السادسة والعشرين من عمره. وكان ما أثار انتباهه إلى تلك الثورة، دراسته لفلسفة ليبنتز حينئذ تمهيدا للقيام بتدريسها؛ إذ شاءت المصادفة لماكتاجارت، الذي كان مفروضا له أن يحاضر عن ليبنتز في كيمبردج سنة 1898م، أن تضطره ظروفه إلى السفر إلى نيوزيلنده، فطلب من تلميذه وصديقه برتراند رسل، أن يؤدي هذا الواجب بدلا منه، فكان أن عكف على دراسة ليبنتز، وهي الدراسة التي أخرجها كتابا بعنوان: «عرض نقدي لفلسفة ليبنتز»، فوجده يبني ميتافيزيقاه على أساس من منطق تحليلي قوامه «العلاقات الباطنية»؛ فمهما تكن القضية التي يقدمها القائل، لتكن - مثلا - أن الزجاج قابل للكسر، أو أن الأرض كروية الشكل، فمحمولها كامن في موضوعها، بحيث إذا حللت ذلك الموضوع تحليلا كافيا وجدت فيه المحمول، حلل فكرة «الزجاج» تجد كامنا فيها فكرة قابليته للكسر، أو حلل فكرة «الأرض» تجد كامنا فيها فكرة أنها كروية الشكل، وهكذا؛ وعلى هذا الأساس المنطقي أقام ليبنتز فلسفته عن «المونادات» (أو الذرات الروحية)، ليقول إن جميع الأحداث التي تصدر عن كائن ما، قد انبثقت من طبيعته، إلى آخر ما قال ... ومن هنا ثارت الثورة في نفس رسل، وفك عن عقله قيود «العلاقات الباطنية»، وانطلق - على حد تعبيره - «كما لو كنت نبتة أخرجت من بيت زجاجي دفيء؛ لتنبت على صخرة في البحر يلطمها الموج.»
ونستطيع القول، ونحن في مأمن من الخطأ، إن فيلسوفنا الشاب عندئذ، قد تمخضت له ثورته الفكرية عن بضعة مبادئ فلسفية، لم يغير رأيه فيها منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا؛ منها: مبدأ العلاقات الخارجية، ومبدأ التعدد في الكون، وهو مبدأ ينتج بالضرورة عن المبدأ الأول، ومبدأ أن صدق كل حقيقة جزئية مكفول لها بغض النظر عن بقية الحقائق الجزئية الأخرى، ومبدأ أن منهج التحليل الذي يحلل الفكرة إلى عناصرها ليعيد تركيبها عن فهم؛ هو مبدأ قديم، ومبدأ أن صدق القضايا التجريبية مرهون بمطابقتها للواقع التي جاءت تلك القضايا لتصورها، ومبدأ أن وقائع العالم الخارجي قائمة فيه، سواء وجدت الذات الواعية التي تعيها أو لم توجد.
3
على أن الحد الفاصل الذي قسم حياة برتراند رسل الفلسفية مرحلتين، تختلف أولاهما عن ثانيتهما، هو عام 1900م، والمؤتمر الفلسفي الذي أقيم في باريس عامئذ، وبصفة خاصة لقاؤه مع الرياضي الإيطالي بيانو؛ فها هنا قل إن شئت إن «برتي» قد أسلم زمامه ل «برتراند». قل إن مرحلة التحسس قد ذهبت؛ لتحل محلها مرحلة الرسوخ، أو قل إن الفيلسوف الرياضي قد ظهر من الرجل عندئذ، لتودع الفلسفة على يديه صفحة وتبدأ صفحة أخرى، وأعجب العجب أن هذا الذي ظهر من الرجل ليجعل منه فيلسوفا لعصره غير منازع، هو نفسه الذي لا يعرفه عنه إلا الدارسون المتخصصون، وأما المثقفون بالمعنى العريض فيعلمون عنه أشياء أخرى، كان يمكن أن تجتمع كلها، بل أن تجتمع أضعاف أضعافها في رجل، ثم لا تجعل منه فيلسوفا لا صغيرا ولا كبيرا.
فما الذي سمعه رسل من بيانو، ليحدث الانقلاب؟ هما شيئان قبل سواهما: الأول أن ثمة فارقا بين قولنا «سقراط فان»، وقولنا «كل الإغريق فانون»، ولم يتنبه أرسطو في منطقه على هذا الفارق، وحسب أن الصورتين متشابهتان منطقيا، وأن كلا منهما قضية حملية، تنسب محمولا إلى موضوع، مع أن تقدم المنطق الحديث والرياضة الحديثة كليهما موقوف على إدراك هذه التفرقة. ومن أهم ما نلاحظه مسرعين عن الفرق بين هاتين الصيغتين: أن قضية «سقراط فان» تتحدث عن فرد معين، ومن ثم يتحتم أن تكون ذات مقابل فعلي في دنيا الواقع، على حين أن قضية «كل الإغريق فانون» تتحدث عن الرابطة التي تربط فكرتين عامتين مجردتين إحداهما بالأخرى؛ فكرة أن يكون الإنسان إغريقيا وفكرة أن يكون فانيا؛ وهنا لا يشترط لصدق هذه الرابطة وجود واقعي على الإطلاق، فحتى لو لم يكن هنالك على أرض الواقع إغريق، فسيظل في مستطاعنا أن نقيم هذه الرابطة بين الفكرتين، على اعتبار أن الصيغة التي تربطهما يدخلها معنى الشرط، كأنك تقول: إذا حدث أن وجد في الدنيا إنسان إغريقي فهو معرض للفناء؛ وكأي جملة شرطية أخرى، يكون قوام الجملة ارتباطا افتراضيا لا شأن للواقع الفعلي في تكوينه؛ وهكذا قل في كل قضية كلية، بالمقارنة إلى أي قضية جزئية.
Página desconocida