Nuestra cultura frente a la era
ثقافتنا في مواجهة العصر
Géneros
أخشى أن يكون ما يدور في أخلاد الكتاب والفنانين حين يلتزمون بهذا المبدأ، هو أن المقصود ب «حياة الناس في بلادنا» هو الجانب المرئي الظاهر من مواضعات العيش؛ لأن التوصية الواردة في المبدأ بوجوب أن يعيش رجال الفن والأدب «في الريف والحضر والمناطق الصحراوية وعلى شواطئ البحر وفي منطقة البحيرات الشمالية وفي الصعيد ... إلخ»، أقول إن هذه التوصية قد توهم بأن المقصود هو شيء أشبه بالمسح الاجتماعي لأبناء البلاد في شتى بقاع سكناهم وأعمالهم؛ فالمادة المحصلة من مثل هذا المسح الاجتماعي - على ضرورتها - يقوم بها مختصون من غير رجال الأدب والفن عادة (وبالطبع لا يعني هذا ألا يطلع الأدباء والفنانون على وجوه الحياة في شتى أرجاء البلاد)، لكن الأديب والفنان يأخذ هذه المادة الاجتماعية - سواء أكانت من تحصيله هو أم كانت من تحصيل علماء الاجتماع - ثم ينفذ خلالها ليتصيد ما وراء السطح الظاهر من أصول وبواعث وقيم ومعايير، هي التي منها تتكون روح الشعب.
وإذن، فبينما نوجب على الفنان والكاتب أن يبحث عن روح الشعب وجوهره، لا يقتضي ذلك منا أن نوجب عليه التنقل بجسده هنا وهناك؛ وهل تنقل على هذا النحو توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ليتاح لهما أن يستخلصا كثيرا من العناصر الأساسية في روح الشعب على الصورة التي وفقا فيها إلى تحقيق هذا الهدف؟!
يقرر المبدأ الرابع أن «الفن في جوهره دعوة لشيء ما»، ثم يترك للفنان كامل الحرية فيما يدعو إليه بفنه، لأن ذلك متوقف على وجهة نظره فيما يحب وما يكره .. وإلى هنا أجد المبدأ يقاتل في غير معركة؛ لأنني أقلب نظري في كل ما أنتجه رجال الفن والأدب، لأرى أين يكون الأثر الفني أو الأدبي الواحد الذي نحاربه بناء على هذا المبدأ؟ فلا أجد شيئا.
لكن عبارة وردت في غضون العبارة التي صيغ المبدأ بها، أراها قلقة في موضعها، ومتناقضة مع جيرتها، وتلك هي العبارة التي قيل فيها إن القائلين بأن الفن ليس ذي رسالة يؤديها، قد يكونون من المغرضين الرجعيين الذين ينادون بالفن الفارغ الخالي من الهدف «لصرف الجماهير عن أهدافها»؛ أنفهم من هذه العبارة الأخيرة أن الكاتب أو الفنان محتوم عليه أن يخدم «أهداف الجماهير»؟ إذا كان الأمر كذلك فهناك إذن تناقض بين هذا القول وقول آخر وارد في المبدأ ذاته من جهة أخرى، وهو أن الكاتب أو الفنان حر في اختيار وجهة النظر التي يدعو إليها؛ ولو كان لي أن أختار أحد النقيضين الواردين في هذا المبدأ، لاخترت حرية الإنسان الكاتب الفنان في اختيار ما شاء من وجهات النظر إلى الحياة، ما يحب منها وما يكره.
ويوصي المبدأ الخامس رجل الفن أن يكون عطوفا على الشعب، وألا يقوم أخطاءه - التي هي نتيجة مباشرة للظلم والقهر مدى قرون طويلة - ألا يقوم تلك الأخطاء وأوجه النقص بالتشهير، ولكن بالعطف والهداية.
إنه إذا جاز توجيه مثل هذه التوصية إلى من هم غرباء عن الشعب؛ فلا يجوز أن يوجه لابن الشعب وربيبه، إن الكاتب أو الفنان لم يهبط على قومه من المريخ، وليس هو بالذي يجلس متفرجا من خارج، يشهد أفراد شعبه وهم يتحركون على المسرح، بل هو واحد منهم، وعلى مسرح واحد معهم؛ إن أحدا منا لا يتفرج على أحد، بل إن جميعنا بحارة على مركب واحد، تتنوع بيننا الواجبات، لكن المرفأ المقصود واحد؛ ولهذا فإني أحس من عبارة هذا المبدأ ظلا من الريبة يلقيها بعضنا على بعضنا بغير جدوى.
في المبدأ السادس تكرار لما ورد في المبدأ الثاني، لكنه تكرار يزيد الخطأ وضوحا؛ فهو مبدأ يقرر الارتباط القوي بين الفنان وبيئته - وجمهور الناس جزء جوهري من هذه البيئة - وإذن فلا بد أن يخاطب الأديب أو الفنان هؤلاء الناس. إلى هنا لا خلاف.
لكن عبارة المبدأ السادس تستطرد لتضع أمامنا مقدمة ونتيجة تنتج عنها في ظن أصحاب المبدأ، ولكنها لا تنتج عنها أبدا في ظننا؛ وفضلا عن عدم لزومها عن مقدمتها، فهي كذلك نتيجة تحمل رأيا لا نراه صائبا؛ أما المقدمة فهي ما أسلفناه من ضرورة أن يكون العمل الفني عملا اجتماعيا، بالإضافة إلى كونه في الوقت نفسه تعبيرا عن صاحبه؛ وأما النتيجة فهي قولهم: «ولهذا فإن الأعمال الفنية التي تخاطب أعدادا كبرى من الناس، وتحظى برضاهم أو اهتمامهم، هي بالضرورة أفضل من أعمال أخرى أقل منها جمهورا»، وهذا حكم يتضمن أن العمل الفني الواحد يخاطب «الجمهور» كله على اختلاف درجاته الثقافية، فكأنما توفيق الحكيم - مثلا - يخاطب بمسرحية «أهل الكهف»، فلاح الحقل، وعامل المصنع، كما يخاطب بها جمهور الثقافة الرفيعة، فإذا وجدنا مسرحية أخرى له أو لكاتب آخر قد لقيت إقبالا أكثر من الجمهور بكل درجاته الثقافية؛ تحتم أن تكون مسرحية أفضل! نعم، إن المبدأ السادس يشترط في العمل الفني ذي الجمهور الكبير جودة فنية، لكننا برغم هذا الشرط المفيد، نقول إنه إذا كان ثمة عملان فنيان، كلاهما جيد من الوجهة الفنية، أحدهما يخاطب فئة عالية الثقافة، والآخر يخاطب فئة أقل ثقافة وأوسع رقعة؛ فكلاهما يكون عندنا على درجة واحدة من الفضل؛ لأن كليهما حقق الغرض الذي من أجله أنشئ؛ ولو لم يكن الأمر كذلك، لانتفت الحكمة في أن نخصص في الإذاعة برنامجا خاصا، وفي التلفزيون قناة خاصة، وفي المسرح مسرحا خاصا، وفي المجلات والمؤلفات مطبوعات خاصة، نريد بها جميعا فئة قد لا تكون كثيرة العدد، لكنها بالغة التأثير.
لهذا أقترح في المبدأ السادس أن نبقي على المقدمة، وأن نحذف ما زعمناه نتيجة ضرورية لها، وهو في حقيقته ليس كذلك.
لست أظن أن ثمة خلافا في الرأي حول المبدأ السابع الذي يوصي بصيانة التراث الفني والأدبي الذي استطاع أصحابه أن يجاوزوا به حدود مصالحهم الشخصية أو الطبقية، إلى الجانب الإنساني المشترك بين البشر أجمعين.
Página desconocida