Nuestra cultura frente a la era
ثقافتنا في مواجهة العصر
Géneros
وأقول ذلك تمهيدا لإثبات خواطري التي خطرت بمناسبة ما طرحته مجلة «الاشتراكي» في عددها الحادي والعشرين، الصادر يوم السبت 13 من نوفمبر 1965م، أمام المثقفين جميعا ليكون موضوعا للمناقشة، وهو أن يكون لهم دستور قوامه جملة مبادئ اقترحتها إحدى اللجان المتخصصة في أمانة الدعوة والفكر الاشتراكي.
وينقسم المعروض قسمين رئيسيين؛ أحدهما للمبادئ العامة، والآخر لمشكلات التطبيق، وسأكتفي هنا بذكر ما قد عن لي من ملاحظات عن «المبادئ» الأحد عشر، تاركا ما قيل عن مشكلات التطبيق إلى فرصة أخرى.
كانت الإشارة دائما إلى الفن والأدب، ولم ترد إشارة واحدة إلى «الفكر» الذي يتناول القضايا بالتحليل والنقد والعرض والشرح، والذي يقدم الرأي الجديد فيما ينبغي تغييره من أوضاع الحياة، أو ما تنبغي إضافته أو حذفه، وكيف يكون ذلك ومتى؟ وميثاقنا الوطني مثل لهذا النوع من «الفكر» وهذا البيان نفسه المعروض للمناقشة ضرب من ضروب «الفكر»، فليس هو بالقصة ولا بالمسرحية ولا بقصيدة شعر، والنقد الأدبي والفني «فكر»، والفلسفة «فكر»، والاقتصاد والاجتماع «فكر »، فهل يراد بالدستور ألا يشمل الكتابة التي تدخل في هذه الأبواب؟! أغلب ظني أن الحذف هنا غير مقصود؛ لأن الغاية - كما جاء في العنوان الكبير الذي صدر به البيان المنشور - هي «وحدة فكرية للمثقفين»، وأصحاب «الفكر» هم بغير شك من هؤلاء المثقفين، الذين تراد لهم الوحدة؛ وإذن فلنفترض أن البيان حين أخذ يكرر الإشارة إلى «الأدب والفن»، كان مراده أن يتضمن معهما بقية ضروب النشاط الفكري، التي قد تجعل وسيلتها المقالة أو الكتاب أو الحديث أو الندوة، أو ما يجري مجراها من وسائل الاتصال بين صاحب الفكرة وقرائه أو المستمعين إليه، وربما جاز لنا أن نستثني العلماء المتخصصين في علومهم؛ لأن العلم الأكاديمي المتخصص - وإن يكن فكرا - إلا أنه لا يدخل في مفهوم «المثقفين» الذين نقصد إليهم بالدستور المقترح؛ إذ لا محل لإضافة الباحث في الجيولوجيا أو في الكيمياء أو في التشريح إلى جماعة «المثقفين» بالمعنى الذي نريده ليشمل رجال الأدب والفن والفكر، الذي ينصب على صور المجتمع وما يتصل بها من روابط وعلاقات، وما تقاس به من قيم، وما ترمي إليه من غايات وأهداف.
ألاحظ أن المبدأين (1) و(2) هما أقرب إلى «النداء» الموجه إلى أولي الأمر منهما إلى «المبادئ» يتعاهد عليها المثقفون في نشاطهم؛ فالمبدأ الأول يقرر أن الأدب والفن ضروريان للثورة؛ ولذلك لا ينبغي إهمالهما، والمبدأ الثاني يطالب بأن ينظر إلى «الثقافة» على أنها «خدمة» لا على أنها «سلعة» يطلب من ورائها الربح.
إلا أن أصحاب البيان - كأنما أرادوا أن يطمئنوا القائمين على خزانة الدولة على أموالهم - أضافوا إلى المبدأ الثاني إضافة يقررون بها شيئا هو أبعد شيء عن اتفاق المثقفين، وذلك أنهم قرروا أن الفن والأدب الجيدين الرفيعين من شأنهما حتما أن يجتذبا انتباه الجماهير وإقبالهم، ومن ثم يزداد الشراء، فتزداد الحصيلة النقدية، فلا تضيع على الدول أموالها «هذه النتيجة الأخيرة من عندي، وليست مذكورة بنصها في البيان»، فها هنا لا يكون اتفاق بيننا جميعا على الرأي، ما لم نحدد المعنى المقصود بكلمة «الجماهير»؛ ذلك لأنه مما لا جدال فيه أن «جمهور» القراء - وأتعمد ذكر الكلمة على هذه الصورة بدل كلمة «الجماهير» - أقول إن «جمهور» القراء على درجات متفاوتة من التحصيل ومن الاهتمامات الثقافية؛ فهنالك قاعدة واسعة عريضة من المواطنين بينها قدر مشترك من الثقافة الأولية، كما أن هنالك قمة ضيقة الدائرة، لها حظ موفور من الثقافة العليا، وحتم على من يخططون للثقافة في بلادنا ألا يغفلوا عن «الجمهور» بكل درجاته الثقافية، وبكل اهتماماته، ومن هذه الاهتمامات ما يشترك فيها عدد ضخم من المواطنين، ومنها ما ينحصر في قلة قليلة؛ وإذن فلا مناص من أن تتفاوت دخول المنتجات الثقافية؛ فمنها ما هو كفيل بسد نفقاته، ومنها ما لا بد فيه من التضحية المالية من قبل الدولة.
وإذا كان لي أن أقترح تعديلا على العبارة الواردة في المبدأ الثاني، وأعني العبارة القائلة: «وفن رفيع بلا جمهور ليس فنا على الإطلاق؛ لأنه في الغالب فن زائف يتعالى على الناس ...» فإنني أرى أن يزال التناقض اللفظي الكائن في المقابلة بين «على الإطلاق» و«في الغالب»؛ لأنه إذا كان الفن الذي لا جمهور له لا يعد فنا «على الإطلاق»، فهو كذلك «على الإطلاق» فن زائف، ولا يقتصر زيفه على «أغلب» الحالات دون «أقلها»؛ ولذلك أقترح أن تكون العبارة هكذا: «وفن بغير جمهور - قل ذلك الجمهور أو كثر - هو فن لا رجاء فيه»؛ فبهذه الصورة تتحقق لي معان كثيرة: (1) التخلص من تناقض القول «بأن فنا رفيعا ... ليس فنا»، (2) والتخلص من تناقض القول بين «على الإطلاق» و«في الغالب»، (3) والإشارة الضمنية بأن جمهور المستفيدين من النتاج الثقافي قد يكون كثيرا حينا وقليلا حينا آخر؛ بحسب الدرجة الثقافية أولا، وبحسب تنوع الاهتمامات ثانيا، (4) عدم التورط في تعريف بعينه من بين التعريفات الكثيرة للفن؛ فسواء كان الفن هو ما يجد جمهورا أو لم يكن، فإننا «لا نريد» إلا ذلك الفن الذي ينتفع به فريق من المواطنين، مهما يكن عددهم.
يشترط المبدأ الثالث أن تكون «حياة الناس في بلادنا» هي منابع الفن؛ ولهذا يلزم «الكتاب والفنانين الذين يبحثون عن جوهر بلادنا، وروح شعبنا الحقة أن يعيشوا بين الجماهير ...»
فأولا:
لست أدري لماذا نقصر منابع الفن على حياة الناس «في بلادنا»، وكان يكفي أن نقول «حياة الناس» على إطلاقها؛ لأن الكاتب أو الفنان كثيرا جدا ما يحتاج في عمله إلى مقارنة «بلادنا» بغيرها ليتضح «جوهر بلادنا» بهذه المقارنة نفسها، وفي ظني أنه كلما قصر الكاتب أو الفنان نفسه على حدود بلاده؛ ضاقت أمامه فرصة معرفة بلاده ضيقا شديدا، وهاكم رجال الأدب والفن عندنا منذ أول القرن العشرين، حتى الآن، منذ محمد عبده، إلى أي كاتب أو فنان ممن يعيشون معنا اليوم، فلن تجد بينهم واحدا كان له أثر دون أن يمتد أفقه ليشمل حياة الناس في بلاده وحياة الناس في بلاد أخرى؛ ليخرج من المقارنة بشيء يفيده ويفيدنا عن حقيقة بلادنا، وحسبي في هذا المقام أن أقول إنه لولا متابعتنا لتيارات القصة والمسرحية - مثلا - في غير بلادنا؛ لما ظفرنا بكل ما قد ظفرنا به من قصص ومسرحيات على أيدي أدبائنا من حيث النضج في الشكل والمضمون معا، ودع عنك ما نستضيء به في فهم بلادنا نفسها، من أفكار ومن فلسفات ومن مناهج بحث مما يستفيده الباحثون والدراسون لما يجري في غير بلادنا.
وثانيا:
Página desconocida