Nuestra cultura frente a la era
ثقافتنا في مواجهة العصر
Géneros
كان العصر الواحد - فيما مضى - يكاد يتفق على هدف واحد، يضعه المفكرون أمامهم ليشخصوا إليه جميعا بأبصارهم، ثم يكون التباين بعد ذلك في الوسيلة التي يراها كل منهم محققة لذلك الهدف، بعبارة أخرى، ربما كانت أوضح: كان لكل عصر مسألته الرئيسية يطرحها أمام الناظرين، فيكون الاختلاف بعد ذلك في «الحلول» المقترحة لتلك «المسألة» المتفق عليها من الجميع.
انظر معي نظرة عجلى إلى مراحل التاريخ الفلسفي:
فعصر «ما قبل سقراط» اتفق على مسألة واحدة؛ هي جوهر الوجود الذي يكمن وراء المتغيرات، أليس البادي أمام حواسنا هو أن الموجودات يتحول بعضها إلى بعض، فما هو اليوم تراب، قد يتحول غدا ليصبح شجرة وثمرة، فما هو ذلك الجوهر الثابت الأصيل الذي يلبس اليوم لبوسا فإذا هو تراب، ويلبس غدا لبوسا آخر فإذا هو شجرة أو ثمرة؟! كان ذلك هو السؤال، اتفق عليه الجميع، ثم اختلفت إجاباتهم عنه.
وذهب ذلك العصر اليوناني الأول، وتلاه عصر، كان سقراط فاتحته، فاختفى سؤال وظهر سؤال، اتفق عليه العصر كله، ثم اختلفت عنه الإجابات، وكان السؤال هذه المرة هو هذا: ما حقيقة الإنسان؟ وعلى أي أساس ينبغي أن يقيم سلوكه فردا ومجتمعا؟ وهكذا دار البحث حول «الإنسان» في أخلاقه وسياسته، وخيره وشره، وسعادته وشقائه، وفنائه وخلوده، لكن الرأي اختلف عندما عرض رجال الفكر الفلسفي حلولهم للسؤال المطروح.
وذهب عصر قديم، وجاء عصر وسيط - في الغرب المسيحي، وفي الشرق الإسلامي على السواء - فاتفق الفلاسفة هنا وهناك على الهدف، واختلفوا على الوسيلة؛ إذ اتفقوا جميعا على أن يكون هدفهم تحليلا لمفهومات الدين بحيث يقام البرهان على أنه لا تناقض - عموما - بين دين جاء وحيا، وبين فلسفة أنتجها فلاسفة اليونان عقلا، غير أن وحدانية الهدف لم تمنع أن يكون لكل مفكر فكرته التي يعرضها للحل.
ثم دخلت أوروبا - وحدها هذه المرة - تاريخها الحديث بنهضة أخرجتها من عصورها الوسطى، فكان السؤال الرئيس المطروح طوال قرون ثلاثة، امتدت من عصر النهضة الأوروبية - في القرن السادس عشر - إلى عصرنا هذا الأخير، الذي بذرت بذرته في القرن الماضي، هو: كيف يعرف الإنسان ما يعرفه عن الطبيعة الخارجية، أو عن نفسه الباطنية، أو عن الله؟ ولذلك رأينا معظم الجهد منصرفا إلى تحليل «العقل» لنرى كيف يعمل، فنفهم بذلك كيف حصل ما حصله من معرفة، لكن الاتفاق على السؤال لم يكن معناه أن يتفق المجيبون على جواب.
ثم جاء عصرنا هذا، فلم يكن كسوابقه متفقا - بشكل واضح ظاهر - على المسألة المطروحة، مختلفا على حلولها، بل تعددت فيه المسائل الرئيسية نفسها، فانقسم المفكرون حينها، كل فريق منهم يؤثر لنفسه إحداها دون الباقيات، ولم يكن في ذلك من بأس؛ لأنه قد يعد علامة غنى لا علامة فقر، وجئنا نحن - أعني رجال الفكر الفلسفي في الأمة العربية - وأردنا أن ننقل عن الغرب في هذا الميدان ما استطعنا نقله، فلم نقصر أمر التفرق على اختلاف في زاوية النظر، بل جاوزنا ذلك، فتحول الميدان على أيدينا ميدانا للصراع الفكري، يتبادل فيه الأطراف ألوان السباب، فضاع الحق في غمرة النقع المثار، فإذا تذكرنا ما لا بد أن يبقى مذكورا دائما، وهو أنه لا المسائل المثارة مسائلنا نحن أثرناها منبعثة عن أزمات في ضمائرنا عانيناها، ولا الحلول المعروضة حلولنا نحن، كددنا الذهن حتى انتهينا إليها، وإنما المائدة بكل ما عليها، أعدها طهاة غيرنا، ولم يكن منا إلا أن استوينا على المائدة الممدودة لنأكل، كل من الطبق الذي يشتهيه. عرفنا كيف أن صراعنا الفكري كان أجدر به سوانا؛ لأن الأمر كله بالنسبة إلينا كالشعر المستعار ، وضعناه فوق رءوسنا وضعا، دون أن ينبت من جلودنا، ويتغذى بدمائنا، ها هنا يكون التفرق تمزقا هو إلى أن يكون علامة فقر أقرب منه إلى أن يكون علامة غنى.
ومع ذلك؛ فقد كان في وسع الفكر العربي أن يقف أمام اختلافات الفلسفة المعاصرة، ليلتمس لنفسه مدخلا فيها، يكون ذا صلة بحياتنا، وفي هذا المقال محاولة في هذا السبيل، لكننا نريد أولا أن نرسم للقارئ حقيقة الموقف الفلسفي في عصرنا بخطوط عريضة؛ لعله يشارك في قبول المحاولة أو رفضها.
إن من الأفكار القديمة ما قد فقد قيمته في الموضوع الذي قيل فيه أساسا، لكنه ربما صلح وسيلة للتوضيح في موضوعات أخرى؛ من ذلك فكرة مشهورة لأرسطو عن «العلل الأربع»، التي ظن أنها السبيل إلى تعليل أي شيء نريد تعليله، فافرض مثلا أننا نعلل لتمثال مقام في ميدان من مدينة؛ فأولا: نسأل عن الفنان الذي نحته «وهذا هو ما أسماه أرسطو بالعلة الفاعلة»، وثانيا: نسأل عن الغاية التي من أجلها صنع الفنان هذا التمثال، فإذا عرفناها، كانت هي ما أسماه أرسطو بالعلة «الغائية»، وثالثا: نسأل عن المادة التي صيغ منها التمثال، فتكون هي العلة «المادية»، ورابعا: نسأل عن أسلوب صياغته، فيشار لنا إلى مقومات هذا الأسلوب، فيكون ذلك هو «العلة الصورية». بهذه الأسئلة الأربعة، وإجاباتها الأربع، يتم لك تغطية المجال من جميع جوانبه، فيتم لك فهم ما أردت أن تفهمه.
هي فكرة أرسطية قديمة؛ إذ لبثت هذه «العلل الأربع» على مر الزمن تتآكل وتتساقط واحدة بعد أخرى، كلما وجد المشتغلون ب «العلم» أنهم لم يعودوا بحاجة إليها في تفسيراتهم العلمية للظواهر المختلفة، حتى زالت كلها الآن، ولم تعد فكرة «السببية» نفسها ذات شأن في ميدان العلم؛ إذ حلت محلها فكرة أخرى، هي فكرة «القانون العلمي»، الذي يصاغ في دالة رياضية لا تميز بين سبب ومسبب، بل تحدد المتغيرات الداخلة في موضوع البحث، وطرائق تجاوبها أو تفاعلها بعضها مع بعض ... فكرة أرسطية قديمة إذن هي فكرة «العلل الأربع»، لكنني سأستعين بها على توضيح الموقف الفلسفي في عصرنا، وإني لأراها تعين.
Página desconocida