Tres hombres y una mujer
ثلاثة رجال وامرأة
Géneros
قالت: التي فزت أنت بها.
وأصرت على أن تنقل سريرها ومهد ابنها إلى غرفة أخرى، كأنما كان هذا لا بد منه ولا غنى عنه، أو كأنما أرادت أن يكون مظهرا حاسما لعزيمة ماضية وإرادة حذاء.
من ذلك اليوم صار الأستاذ حليم كأنه مقيم في فندق لا يربطه بمن فيه غيره سوى الجوار، وفقد لفظ الأسرة معناه، والزواج مدلوله، وانطوى الرجل على نفسه، ولاذ بمكتبته، وانزوى فيها، ولم يقصر في مناشدة سميحة أن تفيء إلى القصد، وأن يفهمها أن اتقاء الحمل لا يقتضي هذا الذي هو فراق في حقيقته، ولا يمنع أن يعيشا زوجين وإن كان لا محيد عن الحذر واتخاذ ما يشير به الطبيب من الحيطة الوافية. غير أنها أبت كل الإباء أن تكون له أكثر من جارة، فقطع الأمل، وأضمر اليأس، وصار يتشمم ولا يذوق، ويشتهي ولا ينتهي له اشتهاء، ويجزع على الحرمان ويضنيه جهد التصبر والتجلد، ولا يجد السلوة وطيب النفس عن الزوجة العصية إلا بالخيال يلجأ إليه والكتاب بين يديه أو على ركبتيه، فيزوده ويغني خياله بصور مما يتلهف عليه من المتع التي فاتته بعد أن ذاقها واستطابها، واعتاض ذلك مما حرمه على إغراقه في الرغبة فيه والطلب له حتى صار ذلك له عادة وديدنا.
وكان ذلك في البداية أشبه بأحلام اليقظة؛ فكان يجلس في حجرة كتبه، ويتناول كتابا يفتحه بين يديه، كيفما اتفق، ثم يذهب يحاول أن يحضر إلى ذهنه صورا مما استحلاه في حياته الزوجية، ولم يكن يتمثلها على حقيقتها وكما كانت أو وقعت، بل كان يتلكأ عند بعض مناظر هذا الشريط الوهمي، ويتريث أو يستوقفه ليطلي متعته به، أو يؤكده ويبالغ في إبراز الصور، ويعمق ألوانها أو يخففها على هواه، ويحسنها على العموم ويطمس أو يحذف جملة ما لم يكن يرتاح إليه، غير أن هذه الصور المستمدة من حياته مع سميحة كانت لا تخلو من تنغيص؛ لأن سميحة لم تكن تثبت في علاقتها به على خلق واحد، ولا كانت تعنى بأن تبدي له اللطف والرقة والإقبال أو اللين والمراضاة، ولعلها لم تكن تستطيع ذلك لدخل في أنثويتها، وكانت معه في الأكثر والأغلب على حال المستسلم على كره ومضض، المزدري لما يضطر إليه، لا على حال الراغب المبتهج ببلوغ سؤل نفسه، فيبوخ مرة وتصيبه من بادي ضجرها وجفوتها قرة تتركه مع ذلك يتفصد عرقا.
من أجل هذا لم يلبث الأستاذ حليم أن زهد في هذه الصور التي يشوبها ويشوهها من كل ناحية ما ينفر منها، ولكن من أين له بصور أخرى ولا عهد له بسواها؟! وألفى نفسه عاجزا عن خلق شيء من لا شيء، أو الإبداع من غير توليد ، وأبت صحراء تجاربه إلا أن تظل سباسب؛ يسبر طولها ولا يلفي سوى رمضائها متقلبا له فيها؛ فاشترى مجهرا قوي العدسات، وكانت الحجرة التي اتخذها مكتبا على الطريق، فصار يوارب الشباك وينظر بالمجهر من الفرجة التي بين المصراعين، وكانت أمام البيت محطة للترام، وعلى كثب منها محطة للأتوبيس، وقلما يخلو الرصيفان من فتيات أو نسوة ينتظرن ليركبن ويتلفتن يمنة ويسرة، ويمشين خطوات من القلق أو الملل: فتبدو له صدورهن، وظهورهن، وجنوبهن، وسيقانهن كأوضح وأقرب ما تكون بفضل المجهر، فإذا جاء الليل وخلا بنفسه، حاول أن يتمثل الصور التي رآها في نهاره، واعتاد من جراء هذا حين يكون على الطريق أو في الترام أن ينظر إلى كل سيدة أو فتاة وهي مقبلة ثم وهي مدبرة، ولكن الفتيات الناهدات كن أحب إليه؛ لأنه وجد أنهن أقدر على ابتعاث نفسه وتحريك شعوره المكبوت، وعلى الرغم من إقباله على النظر وطول تحديقه في القدود، كان يجد عناء في إحضار صورهن إلى نفسه في خلواته، فقد كانت القدود المتخيلة تختلط وتتداخل ويتسرب بعضها في بعض، فيزوغ بصره، ولا يستطيع أن يتشبث أو يحتفظ - على فرط التوضيح - بصورة قوام واحد لا يموج أو يضطرب أو يتداخل في غيره، فيعود وكأنه ناظر إلى إحدى تلك المرايا التي تشوه الشخص فتجعله كله رأسا أو كرشا، وتفعل به غير ذلك من المسخ للتسلية.
ولم يكن الأستاذ حليم همه التسلية، وإنما كان همه سد خلة حقيقية وإخماد ضرم يشتد منه حر جوفه من طول الفطام.
وكان لفرط حيائه، ولما نشأ عليه من الاحتشام والتعفف، ولبخله أيضا، لا يخطر له، ولا يقدر حتى لو خطر له، أن يتخذ له خليلة، أو أن يعرف إحدى هؤلاء الطوافات اللواتي ينقدن لمريدهن ويقررن لما يصنع بهن. أما الزواج بأخرى غير سميحة فمسألة ليس فيها مجال للنظر.
وعلى الأيام صارت أحلام يقظته، مقرونة بأحلام منامه، وكانت أحلامه في أول الأمر ممعنة في الغمض، فإذا استيقظ لم يجد ما يذكر منها، وكان معظمها يدور على ما تشتهي نفسه ولا يجد الوسيلة إليه؛ ثم برز من بينها حلم صار يتكرر من حين إلى حين، ويزداد مع التكرار وضوحا وجلاء حتى كأنه خاطر مخامر، وسر هو به، فراح يعيده على ناظره في يقظته؛ ذلك أنه كان يرى نفسه في منامه يلتقي بأنثى على صورته هو، وكانت تشبهه في كل شيء إلا في الدمامة وفيما يتميز به رجل من امرأة، فكأنها العنصر الأنثوي الذي لا يخلو منه كيان رجل، قد انتزع وتجسد بشرا، وكأن الأستاذ حليما قد آض بذلك إنسانين: واحدا مكتملا يجتمع فيه ويتسق عنصرا الذكورة والأنوثة على نسبة ما في اليقظة، وواحدا ينشطر في المنام شطرين منفصلين: ذكرا وأنثى، متحابين متواصلين متراضيين متوافقين على الاستغناء بنفسيهما عما عز مطلبه في حياة اليقظة وثقلت عليهما وطأة حرمانه؛ فلا حاجة به بعد ذلك إلى تألف النافرة منه، أو مراجعة الممسكة عنه.
وكان أطيب ما وجد من هذا الحلم الذي طال ترداده حتى صار عنصرا ثابتا في حياته الخاصة المحجوبة، أنه كان يفيد منه شعورا مزدوجا، أي شعور عنصريه المتبديين في المنام، فازدهاه ذلك، وخيل إليه أنه بذ الرجال الذين لا يرون ما يرى بوجدانه ما لا يجدون، بفضل هذا الازدواج في شخصيته، وإدراك ما لا يستطيعون أن يدركوه ولا تخيلا.
على أن هذا كان ربما أقلقه وأزعجه؛ فقد كان يخشى أحيانا أن يكون مظهر شذوذ منكر، أو آية ضعف، أو عرضا لمرض، وكان كثيرا ما يهم أن يعرض أمره على طبيب، فيصده الحياء إذا لم يصده البخل، ويعود فيقول لنفسه إنه ليس من فعله، وإنه يحدث له عفوا، وفي منامه حين يضعف سلطان الإرادة، أو يستقل العقل الباطن عن العقل الواعي، وإنه على كل حال لا حيلة له فيه ولا قدرة على منعه، ثم إنه لا يرى منه ضيرا؛ فما زال هو هو في حياته العامة، وعلى العهد به مع الناس، وما أنكر الناس منه شيئا، ولا بدا عليهم أنهم يفطنون إلى هذا التحول الباطني الذي اعتراه، بل ليس هناك ما ينبئ أنهم واقفون على حقيقة ما بينه وبين امرأته، فقد كانت هي بادية السعادة بما صارت إليه من الرهبانية، وبولدها الوحيد الذي لا تبغي من الولد غيره.
Página desconocida