Tres hombres y una mujer
ثلاثة رجال وامرأة
Géneros
قال: ليس لهذا قيمة، فتناسيه كله، وليتني أستطيع أن أنحي ماضي أنا بمثل هذه السهولة، أو أراه أهون من أن أعيره فكرة، ولست أدري الآن ماذا يجمل بي أن أصنع، فإني أحبك حبا لا عهد لي به، ولا كان ظني أن قلبا واحدا يتسع له ويحتمله، ولست أطيق أن أدعك معلقة، وإنه لصعب أن نتحاب هكذا على غير أمل.
2
وعادت محاسن إلى حجرتها في النزل، وراحت تتمشى من النافذة إلى الباب، وقلبها مترع حبا وحزنا، لقد وجدت ضالتها، أخيرا، ووجدت عنده ما كانت تحسب أنه بعيد بل لا سبيل إليه، الفهم والإدراك والصفح أو التجاوز، ولكن يا له من موقف! وأي حال مقلوب! متزوج، ولكن امرأته هي التي تسرحه أو تمسكه، وإن كان يسعه أن يتزوج غيرها، وإنه لمن حسن حظها - أي محاسن - أن حمدي يعد ما كان منه زلة قبيحة وضعفا يزري بالرجولة، ولعل هذا هو الذي وسع صدره لها فغفر زلتها، ولكن انتظارها سيطول ولا ريب، ولكن لماذا؟ وما خير أن تمسكه امرأته هذه، وهي لا تعاشره معاشرة المرأة لبعلها؟ ولم تستطع - على فرط ما أجهدت رأسها - أن تهتدي إلى تعليل هذا، فنفضت يدها منه يائسة وراحت تتساءل عما عسى أن تقول لنسيم، نسيم الذي سخا بماله، وتعهدها وبرها وسرها؟ ولا شك أنه يتطلع إلى اليوم الذي يأنس فيه ميلا منها إليه فيخاطبها، تالله ما أكرمه! فهل يسعها أن تعاجله بهذا الخبر الجديد؟ أو ترى يحسن أن تتريث؟ وما الداعي إلى العجلة؟ أليست ستنتظر الفرج المأمول؟ العمل الذي يطلبه حمدي، فلتنتظر إذن، وإذا احتاجت إلى البث والقول بشجوها، فإن هناك الأستاذ حليما، وابتسمت وقد طاف برأسها أنه سيسره أنها صارحت حمدي ولقيت منه عطفا وفهما وتسامحا، فما كان ينهاها عن مصارحة نسيم إلا إشفاقا عليها، ولكن الكتمان عن نسيم قد يعقد الأمور، ويخلق لها معضلات جديدة بها عنها غنى، فالأوفق والأصوب والأكرم أيضا أن تخبره بما كان، وعلى الله الاتكال.
وآن أن تعود إلى القاهرة، فقد تلقت رسالة من نسيم يقول فيها بأسلوبه المعهود إنه أعد «مشروعا»؛ أمر بأن يفرش رصيف المحطة بالسجاد العجمي النفيس، والطريق رملا أصفر ضاربا إلى الحمرة، وأن تصطف فرق الموسيقى في الميادين لتحيتها والترحيب بها، فكان لا بد أن تكتب إليه تنبئه بموعد إيابها، فترددت واشتهت أن تقضي أياما أخرى مع حمدي تنعم في خلالها بحبه، فهل تطاوع نفسها وتبقى، أو تعجل بالرحيل؟
وأرجأت الرد إلى المساء، حتى تشاور نفسها، وكانت على موعد مع حمدي في سيدي بشر، فقد كرهت أن يمر بها كل يوم في النزل فيلاحظ النزلاء ذلك، ويلغط ذوو الألسنة الطويلة منهم، ولم تكن تجعل بالها إلى هذا أو تخشى القال والقيل، أو تتقي أن يخوضوا فيهما قبل أن يتصارحا، ولكنها بعد ذلك صارت تحس أن كل عين عليها، وكل أصبع ممدود يومئ إليها، وكل همس يجري بقول فيها لا حسن ولا قاصد.
وبارحت الترام في محطة قريبة من سيدي بشر، ومضت إلى حيث تقف السيارات التي تقل الركاب إلى الشاطئ، ووجدت مقعدا خاليا إلى جانب النافذة، وصعد السائق إلى مقعد القيادة وتهيأ للسير، وانطلقت الصفارة فمضت السيارة تخطف في طريقها، وإذا بمحاسن تبصر رجلا وامرأة على الرصيف؛ فأما الرجل فعرفته من ظهره، فما كان غير أبيها، وأما المرأة فما خالج محاسن شك في أنها صاحبته الأجنبية التي أنسته زوجته وابنته وأذهلته عن حقوقهما عليه، وأكلت أكثر ماله، ونازعتها نفسها أن تتوضح هذه المرأة وتحد النظر إليها، وأشفقت أن يراها أبوها، فآثرت التحرز، فحجبت جانب وجهها بكفها، وهي تدير رأسها، وغضت شيئا من بصرها مع إدامته والاستثبات فيه، وكانت النظرة سريعة قصيرة، كما كان لا بد أن تكون؛ ولكنها أرتها ما فيه الكفاية، فأما أبوها فكان على خلاف العهد به في البيت، مشرق الديباجة بشوشا حفيا بصاحبته، وأما المرأة فلم يسع محاسن إلا أن تعترف أنها خود رقراقة حسنة دوائر الوجه، واقتضاها الإنصاف أن تقر لها بالحسن ولأبيها بحسن الذوق، غير أن إقرارها بهذا جعل موجدتها أشد وحقدها أعظم تلهبا، وحدة غيظها أعنف، وحدثت نفسها أن هذا هو الرجل الذي لا ينفك يزعق ويصيح ويزعم أنه يؤدبنا ويقيمنا على طريق الهدى والفضيلة، ويحمينا أن نضل ونغوى، وتجيء امرأة - حسانة، نعم، ولكن من يدري أي امرأة هي؟ - فتظهر له الود، فتنتزعه من أهل بيته، وتذهب به أنى شاءت، فلا يبالي ما صنع أو ترك، وإذا ركبت أنا أمرا على غير هداية، بالغا ما بلغ من التفه، قامت القيامة، فأين العدل هنا؟! وأي قدوة هذه؟ وكانت تستولي عليها الحجة إذا واجهها بغلطة هينة، فالآن ماذا تراه يصنع إذا تركت السيارة وأقبلت عليه وقالت له: آه، بابا؟ ماذا جاء بك إلى الإسكندرية، وكان الظن أنك في مهمة كما تقول كلما غبت وعدت؟ ومن هذه السيدة الجميلة التي تتأبط ذراعها وتضحك إليها؟ ألا تعرفني بها عسى أن أستفيد منها خلقا حسنا فوق ما استفدت من حسن تأديبك باللسان والقدوة الصالحة؟ وماذا تراه يقول إذا ابتسمت له وقالت إن بي حاجة إلى شيء من المال أنفق منه كما ينفق؟ أيضن أم يسخو؟ أيكون هذا ابتزازا؟ أيسخط ويلعن في سره ويدعو الله أن يقبضني إليه وهو يمد يده بما أعطى مضطرا؟ أم تهش لابنته نفسه وترتاح إلى البذل كما ترتاح إذ يخرج عما معه لهذه المرأة التي لا تدع لنا إلا الرقعة من العيش؟ وهبه رآني مع حمدي على شاطئ البحر نتمشى ونتناجى بحبنا، كما يتمشيان ويتناجيان فماذا تراه يجرؤ أن يقول لي، وما أفعل إلا ما يفعل، ولا أحتذي إلا مثاله، بل هو يركب بكهولته - التي كان حقها أن تكون رزانا حافظة لمروءتها تاركة للقبيح والحرام - ما لا أركب أنا بشبابي على فرط ما يهم بأن يجمح بي؟ ولو انقدت لشبابي لكان لي عذر منه ومن غرارته، فما ذقت من نعيم الحياة شيئا إلا تخيلا، على حين امتلأ هو، وكان حريا ألا يشتهي فريدا أو يتصدى له، فإذا به لا يزال مسعورا حريصا على اللذة، يسيم سرح اللهو حيث يتاح، ولا ينفك كالمنهوم الذي ينتصب قاعدا كلما اكتظ، ليوسع مكانا في بطنه لقدر جديد.
وبلغت سيدي بشر، وهذه الخواطر الثقيلة تدور في نفسها، فألفت حمدي في مدخل تلك الرقعة من الشاطئ ينتظرها ويتلفت، فلما رآها أقبل عليها يعدو، ولم يفته تغير وجهها وإشفاؤها على البكاء، فسألها، مالها؟ ماذا جرى؟ قالت: لا شيء، ولكني لا أستطيع أن أبقى هنا، فامض بي إلى أبعد موضع تعرفه، أبعد موضع والسلام.
وكان حكيما فلم يقل شيئا، ولم يسألها عن شيء، ومرت سيارة فارغة فأشار إليها، وأمر سائقها أن يمضي بهما إلى محطة فكتوريا، وهناك انتظرا إحدى السيارات التي تغدو وتروح بين الإسكندرية وأبي قير، واستقلاها إلى تلك الضاحية القصية.
وكان كلاهما صامتا؛ هي تدير في نفسها ما أثارته رؤية أبيها مع صاحبته، وإن كان لا جديد عليها إلا الرؤية، فقد كانت تعرف سره ولا تجهله، ولكن العيان غير السماع، وهو يتساءل فيما بينه وبين نفسه عما اعتراها من الغم والزهق، ما علته؟ وعن رغبتها في الذهاب إلى أقصى مكان، ما داعيه؟ أهي تفر من شيء؟ ولكن هذا وجوم الحزين، لا امتقاع الخائف، ولم ير من اللائق أن يستفسر وهما في السيارة بين الناس، فهل ترى يليق أو يكون من الحكمة أن يسألها عما بها بعد خروجهما من السيارة وافتراقهما عن الناس؟ وكان رجلا طويل السكوت، وقد ألف أن يلم من الأخبار بطرف بعد طرف دون سؤال، وأن يحفظ السر ويتقي أن يبدو أنه ينقب، فكان من أجل هذا ربيئة القرية كلها ومجمع أسرارها، يحدثه كل امرئ بما عنده ولا يحدث هو بشيء، وينظر لغيره في أمره، ولا ينظر له أحد في أمر له.
وبلغا أبا قير فأخذا طريقهما إلى الشاطئ، وهو غير ممهد ومعظمه رملة يتعقد بعضها على بعض، وتنقاد في مواضع وتغيب فيها الأرجل في مواضع أخرى، فشغلت محاسن بالوعس وما كان يدخل في حذائها عن همها الذي تجنه، حتى بلغا البحر، فألفيا هناك كازينو دخلاه وجرا كرسيين إلى النافذة المطلة على الماء وقعدا ينظران إلى البحر، ويسمعان صوته ولا يقولان.
Página desconocida