ولئن كانت الرغبة في نفع معاصريه والإنسانية جمعاء من أقوى الدواعي وأقلها حظا من الحمد في نشاط ديكارت الفلسفي، أليس من قوانين الأخلاق، بل أليس القانون الأعلى للأخلاق، أخلاق «التضحية» التي يعلمنا إياها ديكارت، ذلك القانون الذي «يلزمنا أن نوفر الخير للناس جميعا ما وسعنا ذلك»؟ ولئن صح أنه اعتبر كشف «المنهج» من قبيل الحظ، إن لم يكن نعمة إلهية، فمن الحق مع ذلك أن التواضع لم يكن قط أهم نقائص ديكارت، ذلك الرجل الذي لم يعتقد قط أنه تعلم شيئا، أو يمكن أن يتعلم شيئا من أحد كائنا من كان، ذلك الرجل الذي كان قد أخذ على نفسه أن ينظم العالم هو وحده في هيئة جديدة، وأن يحل محل أرسطو في مدارس العالم المسيحي.
أما الأسباب التي يتمحلها فهل تبدو كافية حقا؟ لقد سبق لي القول: إني لا أعتقد ذلك.
وقد أتهم بجريمة العيب في ذات ديكارت، وقد يقال لي: إن ديكارت كان يعلم أكثر من أي إنسان ماذا كان يصنع، ولم كان يصنعه، بل إنه كان الوحيد الذي يعلم ذلك حقا، لا شك، ولكن ديكارت رجل حذر متكتم، يفكر فيما يقول، ولا يقول ما يفكر، أو على الأقل لا يقول كل ما يفكر، ألم يكتب إلى مرسين - وهو أحد رجلين أو ثلاثة كان يثق بهم كل الثقة: «إني أتقدم مقنعا»؟ لا نؤاخذه على احتياطه؛ فإن حكاية جاليليو كانت ما تزال قريبة العهد، ولم يكن ديكارت يحس أي رغبة في أن تتجدد الحكاية على حسابه، وكان يعلم أن رسالته للعالم أخطر بكثير من رسالة الرياضي الفلورنتي، فالعلم - ذلك العلم الذي تظهرنا الرسائل العلمية على أمثلة منه - لا يكتفي بأن يطرد الإنسان والأرض من مركز العالم، ولكنه يحطم هذا العالم ويخربه ويفتح بدلا منه الفضاء اللامتناهي. أما «المنهج» فكان عبارة عن مراجعة جميع أفكارنا ونقدها نقدا منظما، كان عبارة عن دعوتها جميعا إلى أن تبرر أنفسها أمام محكمة العقل، ومهما يحرص ديكارت - بكل إخلاص من غير شك - على تضييق مجال هذا «المنهج»، ومهما يؤكد لنا من أنه لم يقصد قط إلا إلى إصلاح أفكاره هو، وهو حر في التصرف بها، فإنه لا يستطيع أن يجهل أنه قد أنجز أهول آلة حربية عرفها الإنسان في الحرب ضد السلطة، والسنة الموروثة، وأن أصحاب الأمزجة القلقة لن يحسبوا حسابا لتحفظاته، ولكنهم سيعملون تلك الآلة غير هيابين سلطة الكنيسة ولا سلطة الدولة، وهما قيمتان من قيم الماضي كان بوده لو يصونهما، وإذن فنحن لا نقيم وزنا ل «صراحة» ديكارت، وهو إلى ذلك يسرف في التظاهر بها، وحينئذ فالمسألة باقية بتمامها: لم يروي لنا حكاية حاله؟ إن المسألة لخطيرة، وهي تمس فكر ديكارت في صميمه.
إني أعتقد أنه يصدر عن أسباب عميقة جدا هي معارضة، تمام المعارضة، للأسباب الواهية التي يذكرها لنا، فإن هذه الأخيرة تتضمن أن المنهج الديكارتي - ذلك المنهج الذي يقول عنه ديكارت في العنوان الأصلي للكتاب: إنه كفيل ب «إبلاغ الطبيعة الإنسانية أعلى كمالها» - ليس إلا قيمة شخصية ذاتية، وأنه قد يفيد الواحد ولا يفيد الآخر، وما من شيء أبعد عن المذهب الديكارتي من كل هذا.
وهي تتضمن كذلك أن لكل أحد أن يختار من هذا المنهج ما يعجبه، أن يأخذ شيئا ويدع شيئا ، وإنا نكرر القول أن ليس شيء أبعد من هذا عن المذهب الديكارتي، فإن المنهج، منهج الشك، والأفكار الواضحة، كتلة واحدة لا تتجزأ، هو «المنهج»؛ أي «الطريق»، الطريق الوحيد الكفيل بتحريرنا من الضلال والتأدي بنا إلى معرفة الحق.
أجل، إن منهج ديكارت لا يصلح لأن يطبق تطبيقا عاما، وإن الطريق الذي اتبعه لا يصلح لأن يسلكه كل إنسان، وديكارت لا يعرضه على أنه نموذج يجب على كل أن يحاكيه؛ ذلك لأنه طريق شاق جدا، طويل جدا، خطر جدا، لا يفيد إلا الذي أوتي القوة اللازمة لسلوكه إلى النهاية. أما الآخرون، أولئك الذين «يعتقدون في أنفسهم أكثر مما لهم من الحصافة، فلا يتمالكون أنفسهم من التسرع في أحكامهم، ولا يملكون من الصبر ما يلزم لقيادة جميع أفكارهم بنظام»، والذين «قد أوتوا من العقل، أو من التواضع ما يكفي لأن يحكموا بأنهم أقل مقدرة على تمييز الحق من الباطل من بعض آخرين يستطيعون أن يتتلمذوا لهم، فيقنعوا باتباع آرائهم دون أن يحاولوا كشف آراء خير منها بأنفسهم»، أما هؤلاء وأولئك فإن المثل الديكارتي لا يلائمهم بحال؛ إنه يضرهم لأنهم «إذا اعتزموا أن يشكوا في المبادئ التي تلقوها، وأن يحيدوا عن الطريق المألوف فلن يستطيعوا الاهتداء إلى الطريق الضيق الذي ينبغي سلوكه للسير سيرا قويما، فيظلون ضالين طول حياتهم، ويكاد يكون العالم مؤلفا من هذين الصنفين من العقول»؛ وإذا فليس يكتب ديكارت لهم، ليس يكتب للعامة، ولكنه يكتب للحاصلين على القوة اللازمة الذين يستطيعون اتباعه للنهاية، كذلك القديس أوغسطنيوس لم يكتب ترجمة حياته للعامة؛ أي قصة عودته إلى الله.
وإذا كان ديكارت يقص علينا في «المنهج» - وهو كتاب الاعترافات الديكارتية - ترجمة حياته الروحية، وحكاية عودته إلى الروح، فإنه لم يقصد من ذلك إلى أن يظهرنا على ما فيه من شخصي فردي، ولكنه على العكس يقص علينا ليجعلنا نرجع إلى أنفسنا، وليبين لنا في هذه القصة الشخصية موجز حال الإنسان في عصره، وليبعثنا على إتيان الأفعال التي يستطيع بها الإنسان أن يتغلب على داء زمانه .
هذا الداء وهذا الحال يمكن التعبير عنهما بلفظين: شك، وفوضى، وهما حالتان نفسيتان يستطاع تفسيرهما بسهولة؛ فقد كان القرن السادس عشر فترة هامة جدا في تاريخ الإنسانية، فترة ثراء فكري عظيم، وتحول عميق في موقف الإنسان من الوجهة الروحية، فترة تتملكها رغبة قوية في الاستكشاف؛ استكشاف في المكان، واستكشاف في الزمان، ورغبة في الجديد، ورغبة عن القديم.
استخرج العلماء جميع النصوص المدفونة في مكتبات الأديرة القديمة، قرءوا كل شيء، ودرسوا كل شيء، ونشروا كل شيء، بعثوا جميع ما كان لقدماء فلاسفة اليونان والشرق من المذاهب المنسية: مذهب أفلاطون، ومذهب أفلوطين، الرواقية، والأبيقورية، الشك، والفيثاغورية، والمذاهب السرية من وثنية ويهودية.
وحاول العلماء إقامة علم جديد، علم طبيعي جديد، وعلم جديد للفلك، وجاب الرحالون والمجازفون أنحاء القارات والبحار، فكونت روايات أسفارهم علما جديدا للجغرافيا ولخصائص الشعوب.
Página desconocida