" خمس لا يعلمها إلا الله تعالى: لا يعلم أحد ما يكون فى غد إلا الله تعالى، ولا يعلم أحد ما يكون فى الأرحام إلا الله تعالى ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى الساعة إلا الله "
وقيل: خزائن الأرض،و علم نزول العذاب، وقيل: الثواب والعقاب. وقيل: انقضاء الآجال والسعادة والشقاوة وخواتم الأعمال، وقيل: الأقدار والأرزاق. وعن ابن عباس: مفاتح الغيب خمس وتلا:
إن الله عنده علم الساعة
[لقمان: 3 4] والجملة حال من المستتر فى عنده، وناصبها عند لنيابتها عن استقر المنتقل منه المضمر إلى عند، أو ناصبه استقر، أو حال من مفاتح على قول سيبويه بجواز الحال من المبتدأ، والجملة خبر ثان أو مستأنفة.
وذلك إخبار بتعلق علمه وحده بما غاب عن خلقه، وأخبر بتعلق علمه بما يشاهدونه فى الجملة بقوله { ويعلم ما فى البر والبحر } من الأجسام، وفىمفاتح الغيب أجسام وأعراضها، البر الأرض مطلقا، والبحر الماء المغرق، البحر المحيط وسائر البحار المالحة، وقيل: البحر الماء المغرق ولو حلوا. وقيل: البر الصحراء والبحر خلافه. وقيل: البر القفار والبحر كل قرية فيها ماء ولا يتبادر. والصحيح ما ذكرت أولا. وذكر خصوص الأعراض والأحوال بقوله { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } إلخ، فإن السقوط والرطوبة واليبس وتوفيهم بالليل وكسبهم بالنهار مثلا من الأعراض، وهو أحوال، وخص سقوط الورقة دون سائر الأحوال المناسبة لأحوال التوفى الآتية، ولأن التغير فى الورقة أظهر، ولأن العلم بالسقوط والسقوط مما يغفل عنه يستلزم العلم بما يعتنى به، وما تتغير ورقة من حال إلى حال إلا يعلمها، وجميع الأرض إما أرض خاصة أو أرض عليها ماء مغرق، وفى كلتيهما عجائب الصنع تدل على كمال قدرته وسعة علمه مثلا ، أو البر المفازة التى لا ماء فيها ولا نبات والبحر القرى والأمصار، والجمهور على الأول، وفى علمه بسقوط الورقة ونحوه وبما فى البر والبحر المقرونين بأل الاستغراقية، أى جميع البر والبحار، ومبالغة فى إحاطة علمه بالجزئيات، وتلويح بعلم العرش والكرسى وغير ذلك، والأرضين كلهن، وقد يدخل فى لفظ البر وبعلم أجزاء الأرضين والبحار، وجملة يعلم حال من ورقة ولو نكرة لتقدم النفى واستغراقها بمن نصا { ولا حبة فى ظلمات } نعت حبة، وظلمة الأرض داخلها الذى هو خلاف ظاهرها، وقيل: ما تحت الصخرة تحت الأرضين، وقيل: ما هو فى ظلمة من ظلمات الأرض مثل داخل البيت الذى لا ضوء فيه، وما تحت حجر أو ساتر غيره، وحالها ليلا، وقيل: بطن المرأة أو غيره من الجنين { الأرض ولا رطب ولا يابس } فى ظلمات الأرض، أو مطلقا معطوفات على ورقة، أى وما تسقط من حبة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس { إلا فى كتاب مبين } يتعلق بمحذوف حال من الثلاثة، كأنه قيل: ولا تسقط حبة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا يعلمهن، فإن ما فى اللوح المحفوظ المعبر عنه بالكتاب المبين معلوم لله جل وعلا، وكذا إن فسرنا الكتاب المبين بعلمه تعالى، وذلك أولى من دعوى أن قوله إلا فى كتاب بدل مطابق من قوله إلا يعلمها إن فسر بالعلم، وبدل اشتمال إن فسر باللوح إذ لا يتصور إبدال الظرف من الجملة الفعلية، ولا بدل اشتمال بلا رابط، ويجوز كون حبة مبتدأ مجرورا بمن زائدة محذوفة لدلالة ما قبل، وفى كتاب خبره فلا ينسحب عليهن السقوط، وقد ضعف بعض انسحابه عليهن حين أعربن بالعطف على ورقة.
والحبة الجزء الدقيق من تراب أو غيره، والحبة النابتة قبل النبت، والرطب ما ينبت والحى وما فيه بلل، واليابس مالا ينبت والميت ومالا بلل فيه، وهما عبارتان عن كل مخلوق من الأجسام، فإن الأجسام كلها إما رطبة وإما يابسة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الرطب ما ينبت واليابس ما لا ينبت، وعنه: الرطب الماء واليابس التراب، وقيل: الرطب الحى واليابس الميت، وكل ما ذكر بعد تفصيل لقوله { وعنده مفاتح الغيب } وكيف لا يعلم ذلك وهو خالقه ومريد له ودخل فى علمه اختلاف محال الحبات المشغلة بالريح المنتقلة، أو بما شاء الله، وملاصقتها بجوانبها واختلاف التلاصق وألوانها.
[6.60]
{ وهو الذى يتوفاكم بالليل } ينيمكم فى الليل، شبه الإنامة بالإماتة فاستعار لها ما وضع للإماتة وهو التوفى، واشتق منه يتوفى، والجامع عدم الإحساس، ففى الجسد روح الحياة تخرج بالموت، وروح التمييز تخرج بالنوم، وترى المنامات، أو روح واحدة تتعلق بالظاهر والباطن حال اليقظة، وبالباطن حال النوم، إذ هى فيه. أو هى فى ظاهر النائم إذ جسده حى ولا يميز بها باطنه، فيتوفاكم يقطع تعلقها بالباطن وتزول عنهما فى الموت، وقد قيل: النوم يقطع الحس الظاهر والحس الباطن، وقيل: لا يقطع الباطن، وخص الليل مع أن النوم فى النهار أيضا لأنه فى الليل أرسخ وفيه أصل وأكثر { ويعلم ما جرحتم بالنهار } ما كسبتموه فى النهار، أو كسبكم فيه، وذلك شامل للإثم والخير، ففيه تنبيه وتهديد، ولا سيما أنه قيل أن المراد الإثم كما هو قول ابن عباس، ولذلك على القولين لم يقل ينيمكم، وقيل المراد كل شىء من طاعة ومعصية وغيرهما، فيراد أيضا التنبيه والتهديد، ومنه تسمية اليد مثلا جارحة، والطير والسباع جوارح، لكسبها بيدها، وخص الكسب بالنهار مع أنه يقع فى الليل لأنه فى النهار أرسخ وأكثر كما أن النوم فى الليل أرسخ، والنهار مخلوق للحركة والليل للسكون { ثم يبعثكم فيه } فى النهار برد أرواحكم فيها، والعطف على يتوفاكم، ووسط يعلم ما جرحتم بالنهار لبيان ما فى يبعثكم من عظم الإحسان إليهم بالتنبيه على ما يكسبونه من السيئات، والبعث تشريح لملاءمته المشبه به وهو الإماتة، فإنه فى عرف الشرع مختص بها ولو جاز أن يطلق حقيقة فى اللغة على الإيقاظ من النوم وعلى كل إنهاض، وهذا أولى من قول بعض الإيقاظ من النوم قيل يسمى بعثا حقيقة، وقيل مجازا، وحمل اللفظ على المعنى العرفى كالواجب، ,خص البعث بالنهار مع أنه يكون ليلا أيضا لأن المجعول للنوم الليل، فالبعث بعده، وكانوا لا صلاة فجر عندهم حتى أسلموا، وأيضا من أسلم يصلى ركعتين فى أول النهار وركعتين فى آخره، ثم ينام ليله كله، وأجاز بعضهم عود الهاء لليل، ويضعف ما قيل إن المراد بالنهار النهار السابق على الليل المذكور، فلا دلالة فيه على تأخير الإيقاظ عن هذا التوفى، والواضح أنه النهار بعد هذا الليل فصل بجملته ليتصل قوله { ثم يبعثكم فيه } بقوله { ليقضى أجل مسمى } إلى قوله { ثم ينبئكم } إلى آخره، فالمراد بقوله " ويعلم ما جرحتم " بيان مجرد الكسب من غير دلالة على الإيقاظ واليقظة، واللام يتعلق ببعث أى يبعثكم لتتم أيامكم فى الحياة الدنيا، وهى الأجل المسمى، ويجوز أن يراد بقوله يبعثكم البعث من القبور فتعود الهاء إلى ما جرحتم أو إلى جرحكم أو إلى ذلك أو إلى التوفى، أى فى شأن ذلك كله فيجازيكم، ولو كان التوفى مسندا إلى الله لأن الإنامة نعمة يجب عليهم شكرها، وأن يتوصلوا بأبدانهم إلى عبادة الله عز وجل، وعليه فالأجل المسمى مدة اللبث فى القبور، والمراد ليقضوا أجلا مسمى، أو ليقضى الله أجلا مسمى، ويدل له قراءة ليقضى أجلا مسمى بالبناء للفاعل، ونصب أجل { ثم إليه } لا إلى غيره { مرجعكم } رجوعكم بالحساب أو بالموت، على أن قوله يبعثكم بعث من القبور، والخطاب فى ذلك كله للناس أو الكفرة، واللائق للنائم: أن ينام على نية التقوى على إطاعة الله وكسب الطاعات، والكافر ينام مهملا لنفسه، أو ينوى القوة على المعصية، ويكسب المعاصى، والتراخى بثم بين النوم واليقظة باعتبار أول النوم وبين البعث من القبور والرجوع إلى الموقف باعتبار الوصول { ثم ينبئكم } وهذا كناية عن الجزاء { بما كنتم تعملون } من طاعة ومعصية.
[6.61]
{ وهو القاهر } الفاعل ما يشاء ولو كره الفعل كاره { فوق عباده } حال من المستتر فى قاهر، فوقيه علو شأن وتنزه عن النقائص ومنها أن يرد عليه فعل أو قول حاشاه، يفعل ما يشاء من تصحيح وإعلال، وإغناء وإفقار وإعزاز وإذلال وإيجاد وإعدام وإحياء وإماتة وإثابة وتعذيب فهو غالب لا يغلب { ويرسل عليكم حفظة } ملائكة يحفظون أعمالكم من خير وشر، وقيل: ومباح وما لا ثواب فيه ولا عقاب. لكل أحد ملكان، ملك عن اليمين إذا عمل حسنة كتبها عشرة أو أكثر، وملك عن شماله إذا عمل سيئة زجره ملك اليمين عن أن يكتبها لعله يتوب حتى تمض خمس ساعات أو سبع، وإذا مشى فأحدهما أمامه وهو ملك الحسنات والآخر خلفه، وإذا نام فصاحب الحسنات عند رأسه وصاحب السيئات عند رجليه، وعن ابن عباس مع كل مؤمن خمسة: واحد عن يمينه يكتب حسناته والآخر عن شماله يكتب سيئاته، وواحد أمامه يلقنه الخير، وواحد خلفه يدفع عنه الآفات، وواحد على ناصيته يكتب صلاته على النبى صلى الله عليه وسلم، ويقال: مع كل مؤمن ستون ملكا، وفيه: مائة وستون يذبون عنه الشياطين، وذكر بعض أن أحد الملكين على كتف والآخر على كتف وهو المشهور. وقيل: هما على الذقن، وقيل فى الفم يمينه ويساره، ولا معرفة لهم على ما فى القلب، كما جاء فى الحديث أنهم يزكون عمل العبد فيقول الله عز وجل لهم: أنا الرقيب على ما فى قلبه لم يردنى به. فقوله صلى الله عليه وسلم:
Página desconocida