{ لقد أخذنا بنى إسرائيل } في التوراة بالتوحيد والعمل بما فيها ومما فيها الإيمان بمحمد والقرآن والعمل { وأرسلنا إليهم } منهم { رسلا } كثيرة عظاما جارين على حكم التوراة { كلما جاءهم رسول } من تلك الرسل { بما لا تهوى أنفسهم } لصعوبته أو لغيرها. ونحو كلما كان كذا كان كذا كهذه الآية يعده المناطقة قضية شرطية لشبهه بالشرط والجواب في الارتباط والتعلق ونصبه على الظرفية لإضافته للمصدر النائب عن الزمان المؤول من ما المصدرية والفعل بعدها يتعلق بجوابه محذوفا أى شاقوه أو استكبروا، وفسره بقوله { فريقا } من الرسل { كذبوا } بلا قتل { وفريقا } منهم { يقتلون } كزكرياء ويحيى، وتعاطوا قتل عيسى فنجاه الله، وفى زعمهم الباطل أنهم قتلوه وكتب الله عليهم ذنب القتل وقدم المفعول للفاصلة والاهتمام والمضارع لحكاية الحال الماضية كأنه صلى الله عليه وسلم يشاهد قتلهم وهذا أقوى، ليدل على التكرير فإن قتل الأنبياء عادتهم فكأنه يشاهد تكريره أيضا، وليس كذبوا ويقتلون جوابا يتعلق بهما لأن الرسول الواحد لا ينقسم إلى فريق مكذب بفتح الذال وفريق مقتول، ولأنه إن علق بكذبوا بقى يقتلون أو بيقتلون بقى كذبوا أو بهما لم يصح إذا لا يعمل عاملان في معمول فيحتاج إلى تقدير كلما لأحدهما من مطلق الحذف مع ركة المعنى، وإن اعتبرنا الرسول عاما للرسل للفظ كلما اندفع به قولنا إن الرسول الواحد لا ينقسم إلخ وبقى قولنا أنه إن علق بكذبوا إلخ إشكالا عليه لا يندفع فأجرى على قولى الجواب محذوف تقديره شاقوه أو استكبروا.
[5.71]
{ وحسبوا } ظن بنو إسرائيل { ألا تكون } تحصل { فتنة } بلاء وعذاب بتكذيب الأنبياء وقتلهم، وذلك لأنهم اعتقدوا أن كل من جاءهم بشرع غير شرعهم الأول يجب قتله كذا قيل، وفيه أن أنبياءهم متواردون على التوراة بلا مخالفة، ولعل المراد أنهم يجيئون من الله بأشياء ليست في التوراة ولا تناقضها أو يقتلونهم تشهيا وخوفا من زوال الجاه وتفرق الأتباع كما عبدوا العجل ويزعمون أن أسلافهم يشفعون لهم { فعموا } فعموا عن إدراك الدين ودلائله بمجرد ما وجدوا فى التوراة بلا إسماع مسمع كمن لا يرى بعينه ما هو ظاهر لعماه كما عبدوا العجل { وصموا } عن سماع المسمع لهم سماع قبول كمن لا تسمع أذناه لصمم فيهما، ويجوز أن يكون العمى والصمم بمعنى واحد مجازى وهو المبالغة في الإعراض عن الحق كبعد من اجتمع فيه العمى والصمم عن الإدراك { ثم تاب الله عليهم } أى وفقهم للتوبة، والسعيد منهم في ولاية الله تعالى له ولو فى حال المعصية لما يختم له به لا لها، والشقى في براءة الله ولو في حال طاعته وتوبته لما يختم له به فليس في ذلك تقلب ولاية الله وبراءته بحسب التوبة ونقضها { ثم عموا وصموا كثير منهم } بدل من واو عموا فهو في نية التقديم عن صموا أو تجعل الواو في عموا علامة الجمع وكثير فاعله وهو فى نية التقديم وواو صموا فاعل أو كثير مبتدأ وعموا وصموا خبران بعطف لجواز تقديم الخبر الفعلى إذا لم يكن ليس كقولك قام أبوه زيد، وإنما يمتنع إذا كان تقديمه يوهم المبتدأ بالفاعل كقولك فى زيد قام، قام زيد، أو اللبس بالتأكيد نحو أنا قمت، ويقال فعموا وصموا إشارة إلى المرة الأولى من مرتى الفساد حين خالفوا التوراة وقتلوا شعياء أو حبسوا أرمياء وإنما تابوا في أسر بخت نصر وكانوا دهرا تحته في بابل في ذل عظيم وأهلك الله بخت نصر وبعث ملكا عظيما من فارس وعمر بيت المقدس ثلاثين سنة ورد بنى إسرائيل وتراجعوا كأحسن ما كانوا وكثروا كذلك، وقيل: لما ورث بهمان ابن اسنفنديار الملك من جده كاسف ألقى الله تعالى شفقة عليهم في قلبه فردهم إلى الشام وملك عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بخت نصر فقامت عليهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه، وذلك قوله تعالى
ثم رددنا لكم الكرة عليهم
[الإسراء: 6] والمرة الثانية من مرتى الفساد حين قتلوا زكرياء ويحيى وقصدوا قتل عيسى عليه السلام، ويقال المراد بالتوبة أنهم تابوا من عبادة العجل وفيه ضعف لأنه على عهد سيدنا موسى عليه السلام لا يناسب المقام، وكذا ما قيل فعموا وصموا بعبادة العجل ثم تابوا ثم عموا وصموا بطلب الرؤية والاعتداء في السبت إلا أن الاعتداء فيه في زمان داود بعد موسى عليهما السلام، ولو قيل المراد من فى زمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لجاز لرضاهم عن إسلامهم فيسند إليهم مالآبائهم، وقدم العمى لأنه أول ما يعرض لمن أنكر ما أتى به من الحق ثم لو أبصره لم يتبعه كأنه لم يسمعه وثم للتراخى رتبة وزمانا { والله بصير بما يعملون } فلن ينجوا من عقابه، ومقتضى الظاهر بما عملوا لكن المضارع للفاصلة وحكاية الحال والتكرير.
[5.72]
{ لقد كفر } أشرك { الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } نزلت فيه الألوهية من الله فيبقى الله غير إله أو ناقص الألوهية ولا يخفى خطؤهم فإن الصفات القديمة لا يتحملها حادث والصفات الذاتية لا يتصف بها غير من هى له، ولا سيما أن صفات الله هو بمعنى أنها ليست شيئا آخر زائدا عليه مقترنه ولا حالة به سبحان الله عما يقوله المبطلون، وفى ذكر مريم تشنيع عليهم بأن المولود لا يكون إلها وأن مريم ولدت إلها { وقال المسيح يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربى وربكم } فإنى عبد من عبيده أعبده ولست بإله. أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى الجلندى بعمان فقال له قبل تبليغ الرسالة إليه هل تعلم أن عيسى يصلى لله سبحانه فقال نعم فقال فإنى أدعوك إلى عبادة من يعبده عيسى { إنه من يشرك بالله } غيره في العبادة أو في الصفة أو فى الفعل أو فى نفى ما هو له منه وهذا تصريح بأن من قال عيسى إله فهو مشرك { فقد حرم الله عليه الجنة } قضى الله أن لا يدخلها، شبه قضاءه بعدم الدخول بمنع من لو خلى لدخل دارا منع من دخولها فإنه ليس في طاقة الإنسان أن يذهب إلى الجنة باختياره حتى يأتى بابها فيمنعه البواب، والتحريم لغوى ولك أن تقول شرعى بطريق المجاز المرسل أو الاستعارة، فإن تحريم الشيء سبب لعدم مقارنته وملزوم لعدمها والتحريم شبيه بالمنع الحسى { ومأواه النار } فإن الجنة مأوى من يوحد ويعمل الصالحات ويتقى المحارم { وما للظالمين من أنصار } أى مانعين العذاب عنهم من أول أو مزيلين له بعد وقوعه بمغالبة أو شفاعة، وهذا من كلام المسيح، وقيل من كلام الله وقيل قوله إنه من يشرك إلى قوله أنصار من كلام الله، والراجح أن ذلك من كلام عيسى وذلك من مقابلة الجمع بالجمع فرد لفرد كأنه قيل وما لظالم نصير. قل هذا ولا تقل صيغة الجمع للاشعار بأن نصرة الواحد أمر غير محتاج إلى التعرض لنفيه لشدة ظهوره وأنه إنما ينبغى التعرض لنفى نصرة الجمع. ومقتضى الظاهر وما لهم من ناصرين أى لمن يشرك بالله، وأظهر ليصفهم بالظلم فمن قال إن الله هو المسيح لا ينصره عيسى ولا غيره بل يعاديه عيسى وغيره من المسلمين والحيوانات والجمادات فما ينفعه التقرب بذلك إلى عيسى، وإذا لم تنصرهم الجماعة فأولى أن لا ينصرهم الفرد، وقيل الجمع رد لقولهم إن لهم أنصارا كثيرة.
[5.73-74]
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } قيل هم النسطورية والملكانية من النصارى، وقيل النسطورية والمرقوسية، والاخران عيسى وأمه، وكل من الثلاثة إله بزعمهم والألوهية مشتركة بينهم كما قال الله عز وجل
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله
Página desconocida