106

في الروح

طوال هذه الأعوام ...

طوال هذه الأعوام كان المختار يحاول أن يعلمني درسا واحدا لا غير، وهو: النقاء.

فالنقاء - كما يؤكد المختار - هو رسالة الإنسان إلى نفسه، وهو الطريق، كان يؤكد أيضا أن النقاء صعب المسلك، طريق كأكل الجمر، مستحيلة فهي ممكنة بشكل أو بآخر، ومهمتي أن أكتشف «الشكل الآخر»، فأستخدم اليوجا والصلاة والسفر والجوع والحرمان. أقلد الأشجار في حركتها مع الريح والفيضانات، وتراه يقف لساعات تاركا نفسه للتعبير التلقائي محاكيا الدومة أو العرديبة العملاقة، كان يقول: إن في الأشجار سرا، وربما الحقيقة ذاتها.

كان يمشي من المحراب إلى المدينة في أحيان كثيرة على رجليه القويتين في يومين كاملين، يطعم عروق وبذور الأشجار وثمارها، كان لا يقتل مخلوقا أبدا، وكان لا يمرض، فقط بعض الحمى، ولكنه اليوم يرقد منهكا منها لأول مرة في حياته. - عمري ستون عاما ولأول مرة أرقد على فراش المرض، ألا يعني هذا؟

تعالي وخذي قلما واكتبي، فالآن يمكنني الخلاص.

أشعلي الفوانيس ودعي الأطيار تستيقظ ... أرسليها ... أرسلي الهدهد إلى مايازوكوف فلادمير.

وأخذ يهذي كالمجنون، تكلم عن أشخاص لا نعرفهم ولم نسمع بهم في حياتنا، ولأول مرة أيضا قال شيئا عن أسرته، ولو أنها كانت هلوسة وهذيانا، قال إن أمه تنتظره في ماء النهر وهي تحمل إبريقا من الفضة بيد وباليد الأخرى سراجا في هيئة عصفور ود أبرق. قال إن أمه تنتظره عند البئر القديمة المهجورة قرب الخور، خلف مباني البيطري - الخور الكبير - وإنها تنتظره في طريق طويلة، وإنها محاطة بالملائكة وطير الوروار، ثم فجأة جلس على السرير، وكمن كان في كابوس مزعج تخلص منه للتو صاح: أين أنا، أين كنت؟ إنه مكان فظيع، خذيني بعيدا ... بعيدا عند الهواء ... كم الساعة الآن؟! أهي الرابعة صباحا؟

ساعدته في الخروج من المحراب وجلسنا في الهواء الطلق، تأتينا رائحة الطين وبقايا النباتات المتعفنة في مياه البرك ونقيق الضفادع، قال: لفي جسدي بثوب الدمور، وأريد كوبا من عصير العرديب أو الليمون. وعندما شرب نصف كوب الليمون تنفس الصعداء وهو يقول: لقد ذهبت إلى مكان ما كنت أظنني عائدا منه، قلت له مطمئنة: إنها الحمى. قال: قد تكون هي الحمى، وقد تكون إشارة لأحداث ستقع، فقد كنت غارقا في النوم عندما أحسست فجأة أنني انزلقت في طريق طويلة ملتهبة لا وصول لها، طريق ضيقة وحارقة، وكنت أمشي فيها حافي القدمين وعاريا تماما، وكانت الأجراس النحاسية الضخمة تدق، تدق بعنف وكأنها عمالقة من الجن أصيبت بالجنون.

طريقة قاسية، ولست أحلم، ذلك لم يكن حلما، كانت هناك تفاحة ندية تبدو في الأفق البعيد، تبدو كأبعد ما يكون البعد وكأقرب ما يكون القرب! وكنت أذهب نحوها وأهرب منها في آن واحد!

Página desconocida