24

El Efecto Loto

تأثير اللوتس: رواية عن جزيئات النانو في أبحاث الطب الحيوي

Géneros

كان باحث الدكتوراه يدرس الطب، ولهذا لم يكن يأتي يوميا إلى المعمل، لكنه كان يستغل الفترة المسائية وعطلات نهاية الأسبوع، مما مكنه أن يصل إلى بعض النتائج في الأربعة أشهر التي عمل فيها تحت إشرافها. كان يدرس سمية النقاط الكمومية «الكوانتوم»، أو بلورات أشباه الموصلات، التي كانت تضوي حسب أحجامها في ألوان متعددة، ولهذا يزداد باستمرار الطلب عليها من أجل التعرف على الخلايا الحية. فكثير من عمليات الأيض أصبح من الممكن ملاحظته في مزارع الخلايا بفضل التطور المهول في الميكروسكوب الحيوي. ولهذا لا بد من وجود متتبعات الأثر، ما يسمى بالمواد العلامات، والتي تسبح مثل دودات متوهجة عبر تيه أغشية الخلايا، معطية إشارات ضوئية في غاية الوضوح عن المكان الذي وصلت إليه توا.

بدأ جورج محاضرته قائلا: «إن النقاط الكمومية تنتج طيفا كبيرا من المؤثرات الضوئية، بمجرد أن تحصل على محفز ضوئي من الأشعة فوق البنفسجية، ويمكن تحديد الضوء الذي تشعه عن طريق تحديد حجمها؛ ولهذا من الممكن إجراء عدة علامات لونية في نفس الوقت باستخدام النقاط الكمومية متفاوتة الحجم. وخلافا لأنواع التظهير الأخرى التقليدية، فإن مقاومة هذه الإشارات الضوئية عالية بصورة مدهشة.» لم يكن من الصعب التغافل عن شغف جورج باستخدام الحركة في عرضه التقديمي «الباوربوينت»؛ إذ كانت سطور نصه تطير مرة من أعلى، ومرة من اليمين، ومرة من اليسار لتغطي الصورة، إلا أن هذه المؤثرات لم تتمكن من منع بعض الزملاء من النظر في مخطوطاتهم التي يحضرونها دائما معهم للجوء إليها إذا ما أصبح العرض مملا. وفي الخلف تقارب رأسا شخصين وأخذا يتهامسان. غضبت فاندا من ذلك. بالتأكيد جورج ليس مضطرا أن يتعب نفسه طويلا مع مجموعة مثل هذه. لكن من ناحية أخرى، فإن هذا المنتدى يشكل واحدة من الفرص النادرة لطلبة الدكتوراه ليتدربوا فيها على إلقاء المحاضرات. قررت فاندا أننا كلنا ارتكبنا أخطاء حين كنا مبتدئين، وتركته لشأنه.

أكمل قائلا: «تتكون النقاط الكمومية من عدد كبير من الذرات قد يصل إلى أكثر من 100 ألف ذرة. هي إذن جسيمات ثابتة متناهية الصغر، لكنها تتحرك وكأنها ذرة واحدة متخذة أوضاعا متحفظة للطاقة بسبب ظاهرة السطوح.» إن الأمر الذي تعثر جورج في محاولة شرحه هنا، يعد ظاهرة عادية في عالم النانو؛ كلما صغر حجم الجزيء، كبر نصيبه من الذرات التي تستلقي على سطحه. ورغم أن فاندا نفسها لم تكن تفهم كثيرا من الجوانب الخاصة بتقنية النانو، لكنها تدرك جيدا أمرا واحدا، هو أن هذه الكلمة الصغيرة «النانو» تمهد سبيلا جديدا. إنه اكتشاف السطح. وهذا معناه تغيير في مسار الفكر، أيضا في علم السموم.

سمعت صوت جورج ثانية يقول: «إذا ما أصاب محفز ضوئي النقطة الكمومية، تندفع الإلكترونات المفردة دوما بشكل أكبر لتقترب من الذرات التي على السطح. تنحشر وكأنها في حارة مسدودة لا تسمح بالتقدم أبعد، تمسكها وكأنها في الأسر مثلما تفعل فيها قشرة الذرة. لذلك تنبعث طاقتها في صورة ضوء نحو الخارج.» هل هذه هي اللحظة التي تستشعر فيها المادة تعاطفا مع العالم؟ سألت فاندا نفسها. في الصور الميكروسكوبية التي يعرضها جورج الآن تمكن هذه النقاط المضيئة من النظر داخل البنية الرقيقة للخلايا. كانت تومض وكأنها تطريز مخرم على نسيج مصنوع من حلم، من مجرات دقيقة الحجم متناهية الصغر. «سوف تتمكن النقاط الكمومية من المساعدة في تتبع خلايا الأورام السرطانية، ويجري التفكير في استخدامها للكشف المبكر عن الأمراض السرطانية، لكنها تتكون جزئيا من روابط سمية لا بد من اختبار أثرها أولا.» تنفست فاندا الصعداء، أخيرا دخل في الموضوع. البيانات التي يعرضها الآن جديدة، فأبحاثهما أثبتت أن جرعة صغيرة من النقاط الكمومية على مزرعة الخلايا لها تأثير سمي. كانا يحتاجان إلى تجارب قليلة إضافية لتأكيد النتائج. وهو اكتشاف مثير، وبالتأكيد يمكن نشره بسهولة، لكن جورج لم يكن يمتلك الخبرة الكافية. كان في حاجة إلى عونها، كما أن كتابة البحث للنشر ظلت معلقة بها كالعادة. وكان الوقت جد ضيق.

مع الوقت صارت تنجز الأعمال العلمية الهامة من المنزل على جهاز الكمبيوتر الخاص بها، تكتب أو تقرأ حتى ساعات متأخرة من الليل. أما في النهار فقد كان شتورم يقذف إليها تكليفاته الكثيرة، وكأنها حاوية يريد أن يلقي فيها بأوراق مكتبه. كانت هي المستجدة، وكان عليها أن تتخرج في نفس المدرسة التي دخلها الآخرون، طبعا ليس كلهم: فبالتأكيد قفزت أستريد بعض الصفوف. أحيانا تحسدها فاندا على تبلد إحساسها. أما هي ذاتها فما أسهل أن تتمسك بالتزاماتها، لكنها بدأت تقلق على وقتها من أن يضيع في تصويبات رسائل الدكتوراه، وكتابة تقارير مناقشة الرسائل، وتنظيم الندوات ومحاضرة الطلاب، رغم أن اسمها لم يظهر ولو مرة واحدة على جدول المحاضرات؛ فرسميا كانت كل هذه الأعمال محجوزة لحساب شتورم. «هذا خطأ إداري، لا تشغلي بالك بهذه التوافه.» هذا ما قاله شتورم ردا على شكواها، ونصحها أن تركز في العمل على بحثها؛ فلا بد لها بلا جدال أن تنشر مزيدا من الأبحاث إن كانت تريد حقا لاسمها أن يكون مطروحا للحصول على وظيفة أستاذ مساعد. ابتلعت فاندا غضبها، كانت مقتنعة أنها إن عملت بجد حقيقي فستصل حتما إلى ما تريد.

وعبر عدسة العارض الضوئي تأرجحت علامة استفهام كبيرة الحجم على حائط العرض، منتفخة مثل بالون ممتلئ، ثم انفجرت. ختام العرض منذر بتوابع. ترك جورج مؤشر الليزر من يده.

قال شتورم بعد أن التفت باسما إلى صفوف الجالسين وراءه: «نستطيع أن نذهب فور أن نلملم مخلفات الانفجار.» كانت الوضاعة في كلامه أظهر من أن يغفلها أحد، وانطلقت ضحكات مكتومة. وضع رجله اليمنى على اليسرى وظل يركل بقدمه في استعداد للهجوم. انسحب ميشائيل فالاخ من الغرفة بخفة سحلية، لكن صوت الباب وهو ينغلق وشى به. لم تتمكن أستريد من كتمان ابتسامة، وغضبت فاندا من نفسها. كان عليها أن تحذر الباحث الذي تشرف عليه أن شتورم يمكن أن يكون مزعجا، وفورا سيمسك الرئيس في نقاط الضعف لدى جورج المسكين. لقد آن أوان تدخلها إن كانت حقا تريد إنقاذ الموقف. نهضت وذهبت نحوه عند منصة الحديث، وبدت لها الطريقة التي فغر بها شتورم فاه ناظرا إليها بلهاء على نحو ما، لكنها لم تنخدع ببلاهته، شتورم لا يزال يشكل خطورة. «شكرا جورج، أعجبتني محاضرتك كثيرا. سنتحدث لاحقا عن بعض اللمسات الأسلوبية الدقيقة.» كان يوهانيس يضحك في الصف الأخير. «بالنظر للوقت المتاح أحب أن أفتتح المناقشة حول نتائج البحث. هل من أسئلة؟» تجنبت فاندا النظر نحو زابينة؛ فرؤية ملامحها التي تنم عن الشكوى كفيلة بتشتيت تركيزها. كانت عيناها تختلسان النظر إلى شتورم الذي استدار لينظر أمامه ثانية. أسند مرفقه إلى الطاولة وذقنه إلى يده اليمنى، ووقف إصبعه البنصر مثل ترباس على شفتيه الرفيعتين، بينما نظرت عيناه بعيدا. مرت فاندا ببصرها فوق رءوس الحضور، كانت تبحث عن توماس. رأت أستريد التي كانت تغطي وجهها بمنديل ورقي. يا للحظ السعيد! إنها اليوم لا تحمل أسلحة حادة، اللهم إلا هذا المخزن المليء بالفيروسات. يا ليتها تمرض كثيرا. كان توماس فايلاند جالسا في الصف الأخير ناظرا إليها بانتباه. شعرت بذبذبة رادارية تنطلق من نصفها السفلي وتحوم في دوامات رقيقة حول سرتها، فخفضت ناظريها بسرعة. لا ينبغي أن تحمر وجنتاها اليوم خاصة، ثم رفعت عينيها بالتدريج، ونظرت نحوه محاولة استدعاء رد فعل منه؛ فتوماس هو أذكى من بالقسم، كان في منتصف الثلاثينيات من العمر، درس علوم الكمبيوتر، وقضى فصلين في دراسة الفيزياء، وكان يصنع نماذج محاكاة بواسطة الكمبيوتر للأنظمة الحيوية. كان الرئيس دائما حريصا على القول: «إن استثماري للمستقبل يكمن في دكتور فايلاند، إنه استثمار ستجنون جميعا ثماره.» لو أن توماس افتتح المناقشة لسار كل شيء على ما يرام. كانت فاندا متأكدة من هذا. أرسلت نحوه نظرة طويلة، وأخيرا رفع يده طالبا الكلمة. •••

انتهت المناقشة في الحادية عشرة والنصف، ورغم أن رأسها كان يمور مضطربا، فإن فاندا كانت راضية؛ فقد أمسكت الخيوط بيدها جيدا، وظلت نبرتها موضوعية. وكان هنالك بعض التعليقات المفيدة، بل إن واحدا منها جاء من أستريد. وكالعادة كان الرئيس أول من خرج مسرعا من غرفة الاجتماعات، ثم تبعه الباقون، بعضهم على عجل، وآخرون على مهل في مجموعات صغيرة تتبادل الحديث. كانت زابينة لا تزال جالسة وتكتب، فجلست فاندا إلى جوارها. «مرحبا يا بينة! ماذا بك؟» نظرت زابينة نحوها نظرة سريعة، فرأت فاندا شحوبا مخيفا على وجهها الرقيق وكأنه لونها الطبيعي بسبب بشرتها الفاتحة. كانت عظام وجنتيها مرتفعة مثل المصريات، إلا أن أنفها الدقيق، وشفتيها الورديتين الرفيعتين اللتين تميلان للجفاف، وشعرها الأشقر الغامق المقصوص بطريقة غير متماثلة، علاوة على بنيتها التي تشبه بنية الذكور؛ كان كل ذلك يؤكد طلتها الغربية. رأت فاندا الرموش الطويلة التي تشابكت بالدموع على الجفون المحمرة، وتبعت نظرة زابينة التي اتجهت مرة أخرى نحو دفتر الكتابة. كانت الصفحة ملأى من أعلاها لأسفلها بنفس الجملة: «انتهى الأمر». كتبتها زابينة فوق بعضها عدة مرات، في كل مرة تنهي فيها الصفحة، تعود إلى رأسها ثانية وكأنها تكفر عن ذنب، وتسطر نفس الجملة على الجمل التي كتبتها سابقا، فتزيد من غورها وتحفر أثرها على الصفحات السفلية، لدرجة أن الحبر قد اخترق الورق فخرمه بسبب الضغط، لا بد أنها قضت الجلسة كلها في هذا الحفر.

ألحت عليها فاندا: «هيا أخبريني ما الذي حدث؟»

غمغمت زابينة بكلمات غير مفهومة. «لا أستطيع أن أفهمك يا بينة، فلتحدثيني بطريقة أكثر وضوحا.» «لم يتم تمديد عقدي.» «ماذا؟» «لن يجدد عقد وظيفتي، وأرجو أن تغلقي فمك حتى لا تبدين بلهاء.» كان للخبر على فاندا وقع الصفعة. كم شعرت بحرارة اللطمة على وجنتها، وكم كانت تفضل لو تصرخ، لكن منظر زابينة منعها من ذلك. «منذ متى تعرفين الخبر؟» «قالها لي سريعا قبل الجلسة. غدا آخر يوم عمل لي.» تجمدت نظرتها على دفتر الكتابة خاصتها. «وما المبرر؟» «لا يوجد تمويل كاف.»

Página desconocida