El Efecto Loto
تأثير اللوتس: رواية عن جزيئات النانو في أبحاث الطب الحيوي
Géneros
الفصل الخامس
المذكرات
استقبلتها مدينة ماربورج بأمطار تنهمر بغزارة. نظرت فاندا من النافذة في توتر حين وصل القطار إلى المحطة، لكنها لم تر شيئا على الإطلاق. أليست المحطة سوى بوابة إلى مكان؟ يمكن لها أن تبني أوهاما أو تهدمها. استطاعت أن تخمن بهاء مدينة كبرى يتراءى من خلف صالات المحطة الضخمة. إن كانت الصالات تذكر بالمطارات فلا بد أن العالم الذي تفتح عليه عالم ثري وقوي، أما إن تشابهت الصالات مع محطات الأتوبيس، فهي كائنة بالقطع في مكان ليس فيه سوى فندق واحد، إن كان به أصلا أي فندق على الإطلاق. وصولها ماربورج جعلها تتشكك لوهلة في قرارها. كان سير الحقائب الموازي لسلالم النفق ميتا مثل جلد مخطط لأفعى، وكذلك سير الأمتعة الموازي للطريق الصاعد إلى بهو المحطة ثبت أنه مجرد محاولة لجذب النظر، ربما كان أجدى غرس الزهور عليه. تبعت هذه المرة طوفان البشر المتجه لبابي المحطة المنفتحين على المدينة، الشبيهين بسم الخياط. ماذا لها أن تتوقع وراءهما؟ جاءت على بالها صور طرق موحلة، وحوائط منازل تتقشر عنها طلاءاتها المصفرة من دخان النيكوتين. أشار السهم الممثل لاتجاه المخرج أيضا إلى لوحة ضخمة مكتوب عليها بيرة ماربورج. وفي الخارج رأت الماء ينهمر سيولا من السماء. إن كانت متأكدة من شيء، فهي متأكدة من أمر واحد: في ماربورج لن تموت عطشا.
خرجت فاندا من المحطة إلى المطر. قطع مجال رؤيتها بعض التشويش البصري. هدرت عربات نقل أمامها فتناثرت قطرات الماء من على الأسفلت المبتل. الآن فقط اتضح لها الفارق مؤلما بين معالجة الصور عصبيا ورقميا؛ فباستخدام برنامج فوتوشوب كان يمكن لها أن تمسح ببساطة ذاك الجسر الأسمنتي الممتد أمام المدخل. ترى ماذا وراءه؟ اليوم يبدو الجسر وكأنه يحمل السماء المثقلة بالغيوم. سارعت فاندا خلال المطر ووجدت تخمينها في محله، فلمسافات طويلة كان الجسر هو الموضع الوحيد الجاف، مما حمل فاندا على التفكير أن تعود أدراجها وتركب سيارة أجرة. •••
تحسن الطقس تدريجيا، لكن فاندا ظلت طوال الأسابيع الأولى منهمكة في البحث عن مسكن والمهام المتعلقة بوظيفتها الجديدة حتى أنها لم تلحظ ذلك مطلقا. حتى لو كانت السماء قد انطبقت على الأرض لمكثت هي في المعهد تواصل عملها به. طبعا شتورم بالغ كثيرا. الآن، وبعد أن صارت هناك، قيل لها فجأة: «رأس المال ذو الغرض الإنساني شديد التكلفة.» فكان عليها أن تتدبر تمويل مشروعاتها؛ ولهذا كانت تكتب طلبات التمويل بنفسها، وعليه وجدت نفسها مضطرة أن تتشاحن في قاعة الكمبيوتر العمومية مع سائر طلبة الدكتوراه وما بعد الدكتوراه على الأماكن المرغوبة بحرقة. صحيح أن الباحثين المساعدين يحصلون على أجهزة كمبيوتر خاصة بهم، لكن في عملها لم يكن جهازها قد وصل بعد، علاوة على ذلك عانت من نقص العاملين؛ ولهذا صارت تعمل في المعمل بنفسها. وأخيرا فإن أي مزرعة خلوية لن تعرف أبدا معنى إجازة نهاية الأسبوع. صحيح أنها معتادة على العمل الكثير والاستغناء عن وقت الفراغ، لكنها قد عملت حسابها على مساعدة تعينها على البداية أكبر مما حصلت. كذا كان عليها أن تصارع البيروقراطية، فبعض الطلبيات كانت - ولأسباب مختلقة - لا تصل أبدا. ظلت في انتظار الكمبيوتر شهرين كاملين، لكن الإجراءات ببساطة لم تتحرك. بدا الطلب الذي تقدمت به كجثة هامدة لم تفح رائحتها إلا بعد عدة محاولات للسؤال عن مصيره. ادعوا أنها هي التي تسببت في هذا حين أخطأت في صياغة الطلب الذي لم يخطر به قسم المشتريات. لحسن الحظ غادر أحد الزملاء العمل فحصلت على جهازه، وأخيرا تمكنت من الكتابة في هدوء، والقراءة والبحث وتقييم البيانات وكتابة البروتوكولات. كان في رأسها طنين يجعلها تخلد مساء للنوم وكأنها مخدرة. أي أنها ببساطة توقفت عن التفكير. وظيفيا كانت على ما يرام، لكن هل كانت سعيدة؟ طرحت عليها زابينة زميلتها في العمل هذا السؤال مرة. فأجابتها أنه إذا كانت السعادة تعني أن ننسى الوقت، فنعم، أنا سعيدة جدا. •••
ولأن فاندا لم تدرك فصل الصيف، ظل وجهها على شحوبه. وعلى حين غرة أصبحت شقتها باردة حين تعود إليها مساء متأخرة، وأحيانا كانت تسمع كيف تصفر الريح في أركان البيت، وكيف تهتز الشبابيك. في ذاك الصباح من شهر نوفمبر رأت ذلك الحلم ثانية: رأت نفسها هناك في البيت الذي قضت فيه طفولتها، تركض من غرفة لأخرى تسدل الستائر المعدنية، تحكم إغلاق النوافذ والأبواب. تعرف أن ثمة غريبا في الخارج، لصا، تحس بحركاته، كيف أنه يدور سرا حول المنزل، يبحث عن ثغرة ينسل منها، باب غير مغلق أو شباك مفتوح قليلا تكون قد نسيته. يجلس والداها وروبرت أخوها في غرفة المعيشة مثل تماثيل الشمع، شلت حركتهم من فرط الرعب، لكنها لا تحتمل الصمت طويلا. تمسك سماعة الهاتف لتتصل بالشرطة، لكنها تنسى الرقم، فتحدق في الغرفة بضوئها الخافت. إنها لا تزال بالداخل لكنها في الوقت نفسه تدور معه حول المنزل، وكأنها تستطيع أن تشعر بخطواته المتسللة على جسدها، أين هو الآن؟ اللعنة، باب القبو، لقد نسيت باب القبو.
استيقظت وقلبها يخفق بشدة، هذه المرة توغل الحلم أبعد. لقد كان الغريب في بيتها ، شعرت بثقل ممض على جبينها، ابتهلت سرا ألا ينتابها صداع؛ فقد ارتفع استهلاكها لأدوية الصداع بصورة ملحوظة في الآونة الأخيرة. كانت الغرفة لا تزال مظلمة، فأوقدت الأباجورة الصغيرة المجاورة للسرير. كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة صباحا، لا يزال الوقت مبكرا على الاستيقاظ، لكنها لم تستعد هدوءها. خطت حافية القدمين إلى الحمام وأشعلت السخان. ارتدت البلوفر طويل الرقبة على بيجامتها، ثم جوارب صوفية في قدميها وأزلقتهما في حذائها الفرو القديم. انسلت إلى المطبخ وهي لا تزال ناعسة. أصبح من عاداتها أن تشعل الفرن لأنه مصدر التدفئة الوحيد في هذه الغرفة. كانت دائما ما تحتفظ في دواليب المطبخ بمخزون من الدقيق والسكر والبيض وتكمل الناقص منه مسبقا. وفي أثناء بحثها عن وصفة وقعت يدها على دفتر من دفاتر مذكراتها، كان عالقا بين كتب الوصفات في مؤخرة الرف الثاني. أطفأت فاندا الفرن، وتدثرت ببطانية، وجلست على المكتب المصنوع من لوح هائل من خشب الصنوبر مستند إلى قائمين خشبيين مطليين بتقنية الرش. فتحت دفتر مذكراتها. في الواقع كان مجرد كراس ضمت صفحاته بسلك معدني حلزوني؛ ففاندا لم تكن تحب دفاتر المذكرات التي لا تسمح باقتطاع صفحات منها بشكل نظيف. بدأت كتابة مذكراتها عدة مرات، لكنها لم تواظب قط على الأمر. ومن المؤكد أنها استخدمت هذا الدفتر حين احتاجت مفكرة تدون فيها وصفاتها، فها هي تجد وصفة كيك الجوز التي خبزتها في عيد ميلاد زابينة. التصقت بذرة طماطم مجففة فوق العنوان المغري «سحر الحب الفرنسي»، ففركتها بظفر إبهامها. كانت فاندا قد جربت هذه السلطة الجديدة لتقدمها لتوماس إن سنحت الفرصة. قلبت صفحات كثيرة بيضاء، ثم ظهرت جمل مضغوطة وحروف متلاصقة. كل الكتابة كانت مقلوبة، فقلبت الكراسة وقرأت تدوينتها الأخيرة:
ماربورج، 20 يوليو 2005
يصعب علي كثيرا التذكر. ما هي الذكريات حقيقة؟ تركيبات جزيئية تهجع في جهازنا العصبي؟ هل هي طاقة محكومة تربطنا بالزمن؟ لقد عاد الحلم ثانية. كنت قد نسيته تماما. بدا لي وكأني كنت أبحث بلا انقطاع عن معلومة مهمة، كأن فجوة ما في مخزن بياناتي. معلومات لا أصدق أنها محيت.
لو قمت بعمل مسح ضوئي على دماغي لأظهر بالتأكيد مزيدا من المعلومات. تقنية عكسية. لا أستطيع أن أتخيل بعد كيف سيجري ذلك. كمبيوتر خارق يستطيع أن يفكر في أفكاري؟ على أية حال، فإن توماس يهذي بذلك طوال الوقت، فقد حسم أمره بأن «يصب دماغه صبا في مادة السيليكون، أو أن يعبئه في مكعب صغير مصنوع من أسطوانات النانو متناهية الصغر، إن أصبح ذلك متاحا في يوم ما.» وهو يقصد أنه بهذه الطريقة ستتولى أجهزة الكمبيوتر في المستقبل مهمة التفكير. أتخيل كيف سيذهب الناس كل أسبوع في وقت محدد، لنقل مثلا يوم الاثنين أثناء استراحة الغداء، بدلا من أن يتشمسوا، يذهبون فيجلسون مدة قصيرة في أسطوانة الأشعة المقطعية على الدماغ لتأمين تخزين بيانات الأسبوع المنصرم. يا للسخافة! أنا حتى لا أفعل ذلك مع جهاز الكمبيوتر الخاص بي.
Página desconocida