إن غاية الدرس أن نكشف عن الدقائق المستورة في الآثار الأدبية، وقد يهدينا الدرس مثلا إلى وصف بعض أشعار ابن الفارض الكذب، ونعت بعض أبيات أبي نواس بالصدق، وليس من المستحيل أن يضل مثل ابن الفارض أو أن يهتدي مثل أبي نواس، ولكن جرت العادة أن تؤول هفوات الصالحين، وأن تنسى حسنات المذنبين، فلنجرؤ مرة على التصريح بأن الخضوع لسلطان العرف لا يخلو من جبن أو ضلال، وأن آفة الباحثين أن ينحرفوا عن جهل أو رياء، عصمنا الله من غفلة الجهلة وتزوير المرائين!
فالفكرة الدينية التي يقوم على أساسها التصوف هي ذاتها أساس هذا الكتاب، والتغاضي عن حرفية التصوف لن يخرج الكتاب عن روح التصوف، فالعناية بالأشكال كانت مما أنكره كبار الصوفية، وأباه العظماء من رجال الأخلاق.
الشخصية الأدبية والشخصية الخلقية
بقي أن ننظر في الغرض من هذه الفصول الطوال.
ولنسارع فنقرر أن الصلة بين شطري هذه الفصول وثيقة، فالشطر الأول في الأدب، والثاني في الأخلاق، والأدب في الأصل من صفات النفس، ثم أطلق على جمال التعبير عما تضمر النفوس، ولا عبرة بما اندرج في فن الأدب من التعابير عن المعاني التي تمثل النزق والطيش، فذلك ضرب من الاصطلاح، والمهم أن ننص على أن الأدب الذي يهمنا درسه في هذه الفصول هو تعبير عن خوالج نفسية صادقة يتقبلها الخلق الجميل بأحسن القبول، والشخصية الأدبية هنا هي شخصية خلقية، والرجل الصالح يعظ بالقدوة ويعظ بالقول، فهو شعلة هادية حين يعمل وحين يقول، وليس من المبالغة أن نحكم بأن هذا الكتاب في جملته وتفصيله ليس إلا صورة واحدة من الصور لعلم الأخلاق، والأدب فيه هو أدب النفس، أو هو خليق بأن يكون له في تاريخ الأدب قسم خاص، وكيف لا يكون التعبير عن الخلق من صور الخلق؟ أم كيف يكون من الفضول أن نضيف ما أنشأته الأخلاق إلى علم الأخلاق؟ إن الأدب الصوفي صورة من التصوف؛ لأنه نشأ عن التصوف، كما أن الأدب الماجن من المجون؛ لأنه نشأ عن المجون.
فإن أردتم تفسير ذلك بشاهد من التقاليد الأدبية فإنا نذكر أن القدماء من رجال القرن الثالث، وهم من أقدم من عرفنا من المؤلفين، كانوا يضعون روائع الأدب الصوفي في باب الزهد، وكأنهم كانوا يفهمون أن أدب النساك من الزهد، أو من وسائل الزهد، وما نحسبهم كانوا مخطئين، والذي نفعله اليوم هو رجعة إلى تقاليد ذلك العهد، فنحن نريد أن نضع ملامح جديدة للشخصية الخلقية، وهي عندنا روح يشعر ولسان يبين.
لهذا نرجو ألا يتهمنا أحد بالتحزب للشخصية الخلقية، فما نريد بذلك أن نتحيف من سلطان الشخصية الأدبية، وإنما نريد أن نضع الحق في نصابه وأن نسترد ما انتزعه الأدب من الأخلاق.
فإن سألتم: وهل عند رجال التصوف أخيلة أدبية؟
فإنا نجيب بأن الأدب كل الأدب هو ما أثر عن الصوفية، وإن تجاهله أهل العلم في مصر وغير مصر، بحيث لا نجد له أثرا في البرامج التعليمية، ولا نجد منه شاهدا فيما يتخيره أساتذة المدارس في مختلف الأقطار العربية للحفظ والتسميع.
ارجعوا إلى محصول وزارة المعارف في التأليف، ودلوني على فصل واحد أريد به التذكير بما في كلام الصوفية من أخيلة أدبية، فإن لم تجدوا فتذكروا أن هذه النزعة من وجوه الابتكار في هذا الكتاب، فنحن لن نخلق ما لم يخلق، ولكنا سنكشف عن عالم جديد كان الناس عرفوه ثم جهلوه، وليس من القليل أن نكشف عن موجود مجهول.
Página desconocida