وفي سنة 1912 وأنا طالب في الأزهر اشتدت رغبتي في صحبة الصوفية، وألح الشوق، فأخذت أتنقل من ناد إلى ناد حتى تعرفت إلى رجل فاضل من أساتذة الأزهر الشريف كان يومئذ من كبار الصوفية فأخذت عنه العهد، وبدأت أقوم بالأوراد على طريقة الشاذلية، وكان في صوتي من المرونة ما يساعد على إلقاء الأناشيد، فكنت من المقدمين في الإنشاد.
وفي سنة 1915 رآني ذلك الشيخ صالحا للأستاذية في الطريق فأضاف اسمي إلى قائمة الخلفاء، وكان لي في سنتريس وغير سنتريس مريدون وأتباع، وأذكر أني كنت أحسبني يومئذ من الموفقين.
وفي سنة 1918 قام بيني وبين الشيخ الطماوي نزاع، فقد كان يراني قليل الرعاية للتقاليد الصوفية، وتأملت فرأيت السبب تافها كل التفاهة، فقد غاظه أن أتكلم في حضرته وقد - وضعت رجلا على رجل - وهي جلسة تدل فيما يقال على تعاظم وكبرياء، وحاسبت نفسي فرأيت أني لم أفعل ذلك عن عمد، ثم خطر بالبال أن الصوفية إنما يدعون علم القلوب، فلو كان ذلك الرجل من الملهمين لما آخذني على هفوة شكلية لم يكن لي في وقوعها قصد، ولم تسبقها نية سوء.
وانتهى ذلك الحادث بالقطيعة، ومرت أيام عانيت فيها من الضجر والغيظ ما عانيت، وحاولت أن أصلح ما بيني وبين الشيخ، ولكني لم أفلح في جذب نفسي إليه، فقد اقتنعت بأن الصوفية أرباب ظواهر، وإن ادعوا أنهم أرباب قلوب!
وفي ظلال تلك الأزمة ألفت كتاب «الأخلاق عند الغزالي» الذي نلت به إجازة الدكتوراه من الجامعة المصرية في سنة 1924 وهو كتاب تجنيت فيه على التصوف، ورميت أشياعه بالغفلة والجهل، وجعلت سلوكهم سببا في انحطاط الأمم الإسلامية.
وما كاد ينشر هذا الكتاب حتى ضعفت حماستي لما أقمته عليه من أساس العقل؛ لأن الدنيا كانت بدأت تريني أني تحاملت على الغزالي وتعجلت الحكم على آرائه في سياسة النفس؛ فقد كان يدعو إلى النفرة من الناس، وكنت أرى ذلك من الجبن في الحياة الاجتماعية، ثم تكشفت بعض الحقائق فرأيت المروءة تقضي في أحيان كثيرة بالهرب من الناس. ومن ذا الذي سلم أديمه من عدوان الخلق فلم يتمن الاعتصام من شرهم بالعزلة في شواهق الجبال؟!
وكذلك عدت أستروح بذكرى التصوف وأضمر له الشوق والحنين!
وفي سنة 1927 لقيت الأستاذ ماسينيون في باريس، وقرأت معه فقرات من كتاب الزهرة، وعرفت ميله إلى درس العلاقة بين الحب العذري وبين التصوف، فتسرب إلى صدري بصيص من ضوء الفكرة التي يقوم على أساسها هذا الكتاب. وفي خريف سنة 1930 وشتاء سنة 1931 حضرت دروس الأستاذ ماسينيون بالكولليج دي فرانس في العلاقة بين التصوف والحب الرقيق فازدادت الفكرة وضوحا، وصحت عزيمتي على درس أثر التصوف في الأدب والأخلاق.
المراد من التصوف
ولكن هل التصوف الذي أعرفه اليوم هو التصوف الذي عرفته من قبل؟ هيهات!
Página desconocida