كلمة المؤلف
شعار المؤلف
ترجمة حياة المؤلف عبد الله حسين
التصوف
النظريات الصوفية
الطرق الباطنية
مراحل التصوف الإسلامي
التصوف والمحبة
المتصوفون وآراؤهم وطبقاتهم
نشأة وحدة الوجود
تفصيلات عن أعيان المتصوفة
الزهد والتصوف
التصوف واللاأدرية
الروحية من وراء المادية
هل أنت روحاني؟
فلسفة «يوج»
القضاء والقدر
كلمة المؤلف
شعار المؤلف
ترجمة حياة المؤلف عبد الله حسين
التصوف
النظريات الصوفية
الطرق الباطنية
مراحل التصوف الإسلامي
التصوف والمحبة
المتصوفون وآراؤهم وطبقاتهم
نشأة وحدة الوجود
تفصيلات عن أعيان المتصوفة
الزهد والتصوف
التصوف واللاأدرية
الروحية من وراء المادية
هل أنت روحاني؟
فلسفة «يوج»
القضاء والقدر
التصوف والمتصوفة
التصوف والمتصوفة
تأليف
عبد الله حسين
كلمة المؤلف
«كتاب اليوم هو «التصوف والمتصوفة» من «سلسلة الدراسات النفسية والروحية»؛ تحدثنا فيه عن التصوف، والنظريات الصوفية، والطرق الباطنية، ومراحل التصوف الإسلامي، والتصوف والمحبة، والمتصوفين وآرائهم وطبقاتهم، ونشأة وحدة الوجود، وكبار المتصوفة أمثال سفيان الثوري، وشيبة الراعي الدمشقي، وذي النون المصري، والمحاسبي، والحلاج، والبسطامي، والقواريري، والسهرورديين الثلاثة: أبي نجيب، وعمر، ويحيى، وابن الفارض، ومحيي الدين بن عربي، ثم تحدثنا عن الزهد والتصوف وزهد أبي العتاهية؛ والتصوف واللاأدرية، وعقدنا فصلا عن إمام التصوف: الغزالي، وآخر عن الروحية من وراء المادية، وثالثا عن فلسفة يوج واتصالها بالتصوف والروحانية، وقد جعلنا - في هذا الكتاب - نصب أعيننا أن نبسط مسائل التصوف، وأن نشارك من سبقونا ومن سيلحقون بنا في دراسة هذا الموضوع الذي شغل الأذهان في الماضي ولا تزال آثاره قائمة، ولنظرياته أنصارها، ونحن على ثقة من أن هذا التراث الإسلامي وجذوره في الأمم الأخرى جدير بأن يتخصص له المتخصصون، ويقف النشاط عليه القادرون، لا من أجل بسط النظريات الصوفية وآثارها وحسب؛ بل من أجل اتخاذ التصوف - في هذا العصر الحديث: عصر العلم، والتجديد والاضطراب النفسي المعقد - أداة لتطهير النفس وصفائها؛ لأن هذا هو أدنى السبل لتعميم السلام العالمي، وتفاهم الطبقات، والقضاء على المذاهب الهدامة، والمبادئ المقوضة، ومن أجل هذا نؤثر أن نعود فنفصل ما أجملنا في كتاب آخر؛ نعد له العدة منذ الآن».
عبد الله حسين
شعار المؤلف
كل كتاب جديد لا يضيف جديدا إلى المعرفة هو بين اثنتين: إما أن يكون مرددا لصدى غيره، وإما أن يكون لغوا غير جدير بالقراءة.
غالى بنفسي عرفاني بقيمتها
فصنتها عن رخيص القدر مبتذل
صورة المؤلف
عبد الله حسين.
ترجمة حياة المؤلف عبد الله حسين
ولد المؤلف في مدينة القاهرة بدار المؤيد، وهو خريج مدرسة فكتور الإنجليزية، ومدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية، ومدرسة الشيخ صالح أبي حديد، والمدرسة الإعدادية، وكان أول طلبة البكالوريا بها، وكذلك خريج مدرسة الحقوق الملكية - التي أصبحت الآن كلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول بالجيزة - وخريج قسم الدكتوراه الفرنسية «شعبة العلوم السياسية والاقتصادية»، وقسم العلوم الجنائية بالجامعة المصرية القديمة، وحامل دبلوم الدراسة الإيطالية، ودبلوم المعهد الألماني، ومن الصحف التي نشرت رسائله وأحاديثه جرائد: التيمس والمانشستر جارديان والديلي هيرالد والإيجيبشان جازيت والجازيت دي لوزان والبوب لو دي روما والجرنالي دإيطاليا ولومانيتيه.
وكان أحد شبان ثلاثة قابلوا الزعيم سعد زغلول وأصحابه قبيل فكرة تأليف الوفد المصري، وقد توثقت صلات المؤلف بالزعيم سعد، وتبودلت بينهما رسائل وأحاديث، هذا وقد أتيح للمؤلف مقابلة أعاظم الرجال كملوك العرب وإمبراطور الحبشة وفي أوروبا كالبابا ولبران وديمورج وهم من رؤساء الجمهورية الفرنسية، ولويد جورج ومكدونالد وتشمبرل وتشرشل من رؤساء الوزارات البريطانية، وإيدن وهربو وبريان وبلوم وموسوليني والمئات من رجالات أوروبا، كذلك درس العمل في صحفها التي نشرت رسائله وأحاديثه، وللمؤلف مقالات ودعايات لمصر في صحف أوروبا والبلاد العربية والإفريقية ومجتمعاتها، وقد عاصر المؤلف في صباه الحركة الوطنية والفكرية الأولى التي كان من أعلامها محمد عبده وعلي يوسف وقاسم أمين ومصطفى كامل ومحمد فريد وعبد العزيز جاويش، وعاصر في مطلع شبابه الحركة الوطنية الثانية بزعامة سعد زغلول، وهو عنصر اللجنة الاستشارية العليا للتعاون التي وضعت قانون الجمعيات التعاونية في 1927، وأحد مؤسسي جمعية نهضة القرى، ومؤسس جمعية الشبيبة المصرية، وجمعية الدراسات السودانية، وجمعية الدراسات الإفريقية، ولجنة الدراسات العربية والإسلامية، ولجنة الدراسات النفسية والاجتماعية، واتحاد ضاحية الأهرام، وعضو البعثة المصرية للسودان، وعضو جمعية لجنة جوبا، وعضو الاتحاد العربي، والأستاذ السابق بقسم الصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وفي أثناء دراسته الابتدائية أنشأ مجلة المفيد، وفي 1930 أصدر الجريدة القضائية، وفي 1931 أنشأ مجلة الإدارة والبوليس القضائي، وهو محام ومحرر بالأهرام.
أما في باب التأليف فقد أخرج عشرات المؤلفات؛ من ذلك كتبه عن السودان، والمسألة الحبشية، والمسألة الهندية، والمسألة اليهودية، وتاريخ ما قبل التاريخ، وعصور ما قبل التاريخ، وميلاد الحضارة ونشأة الحياة والحضارات الكبرى، وهذا حدث لي، وفاتحة الدراسات العربية والإسلامية، وفاتحة الدراسات النفسية والروحية، وكيف تكون سعيدا ومحبوبا وزعيما، والدولة الإسلامية، وأسرار الحياة الدولية، والتعليم الجامعي والعربي، وعلى هامش القضاء، وأشهر المحاكمات، والملك عبد العزيز آل سعود والمملكة العربية السعودية، وظواهر نفسية وجنسية، والتصوف والمتصوفة، ومجموعات الجريدة القضائية، ومجموعات الإدارة والبوليس القضائي، وشرح القانون التجاري، والتعاون الزراعي، والمرأة الحديثة وكيف تسوسها، والشذوذ العبقري والإجرامي والجنسي، والدراسات الجنائية والقانونية، إلخ.
التصوف
منذ ظهر الإنسان في هذا العالم، مضى بعض بنيه يقيمون في حالة اعتكاف وزهد، أو انطواء مع نظر إلى السماء واحتقار للمادة والشهوة الحيوانية، كان هذا المعنى ساذجا وبدائيا، ثم أصبح فلسفيا، أعني ثمرة المران والدربة والرياضة، ومن آثاره الدعوة إلى القناعة والزهد والرغبة عن الماديات، وإكبار القوى الطبيعية والإلهية، وكان هذا يبدو في صور شتى، تابعة لأحوال البيئة وأشكال الحكم.
ولقد اختلف المفسرون في تفسير كلمة «التصوف» فمنهم من أرجعها إلى لبس الصوف الذي كان يؤثره المتصوفة على سواه مبالغة في الزهد والتقشف، ومنهم من قال إنها من «الصفاء» لما يقصد به من صفاء الروح، ومنهم من قال غير ذلك مما أفاضت في شرحه كتب اللغة ومؤلفات التصوف، وقد وجد التصوف في الأديان كلها تقريبا عدا الوثنية؛ ففي البراهمية مثلا نجد أن أعلى درجات الكهنوت هي درجة «النسك» التي لا بد أن يهيم فيها المتعبد على وجهه في الغابات شريدا طريدا، يقتات بالعشب وما إليه، حتى إذا ما جاز هذه المرحلة بنجاح سمي «فقيرا»، وخرج من إنسانيته وصفت روحه، وجاءت البوذية فأيدت ذلك بذكر أن الاندماج في «النفس الأولى» - أي الذات العلية - يجب له إنكار الذات والتأمل والزهد في الدنيا.
وظهرت في المسيحية مذاهب في التصوف كثيرة، على أيدي رهبان الأديرة المختلفة، فمنهم من جعلها انقطاعا للعبادة، ومنهم من أشرك فيها بعض الأعمال الدنيوية على أن تتصوف إلى الخير، والخير وحده، ولما ظهر الإسلام ظهرت فيه طرائق في التصوف مختلفة ما يزال بعضها قائما بين ظهرانينا، وأشهر متصوفة الإسلام «شفيق البلخي» و«رابعة العدوية» و«الإمام الغزالي»، وعلى هذا كان التصوف يتلون بلون العقيدة الدينية للمتصوف؛ لأن لكل صوفي طريقته الخاصة في العبادة على أساس تلك العقيدة، وإن كانت جميعا تتفق في الغاية، وهي «الوصول»، ومعناه في لغة المتصوفة الاتصال الروحي بالذات العلية.
ونحن نؤثر أن نزيد الأمر جلاء وبيانا فنقول:
إن طريقة الكلام التي تصدت إلى شرح العقائد الدينية وإيضاحها مبرهنة على صحتها من طريق النظر؛ لم تصل - برغم تطور الحياة العقلية العربية - إلى المرتبة التي تطمئن إليها قلوب جميع المسلمين، ومن أجل هذا نزعت نفوس كثيرة إلى التعرف بالخالق والاتصال به، لا من طريق النظر العقلي فقط، بل بواسطة المشاهدة أيضا، فعمدت إلى المجاهدة في سبيل الوصول إلى تلك الغاية العظمى بمحو كل ما يحول دون ذلك من العوائق المادية، وهتك الحجب القائمة بين عالمي الملك والملكوت، وإن المسلم الورع لشديد الحاجة إلى التقرب من خالقه؛ ليتمكن من القيام بخدمته على قرب منه، وليحظى بمشاهدته ويسعد بمعرفته في حالة مباشرة لا تحتاج إلى وساطة شرع وإعمال عقل في تكوين برهان على وجوده وبيان في حقيقته.
ما قام هذا الإحساس، وما ظهرت تلك الحاجة في بعض النفوس بعد أن تكون علم الكلام «التوحيد» ووصل إلى الحد الذي انتهى عنده النظر العقلي، بل ظهرت علامات ذلك منذ بدأ الإسلام، يظهر جليا، ونمت نموا متواصلا بما عرفه المسلمون من الورع المسيحي والزهد الهندي وما دعت إليه تطورات المدنية المتأثرة بمدنيات الأمم القديمة في العموم، فنشأ عن ذلك كله نظريات دينية وآراء فلسفية عرفت باسم «التصوف» وعرف أصحابها باسم الصوفيين، قال ابن خلدون في مقدمته: «هذا علم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، ولما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة.»
ولقد اختلفت آراء الباحثين في أصل هذه التسمية، فمنهم من أرجعها إلى الصفاء، ومنهم من أعادها إلى «الصفة»، لكن خطأ هذا واضح لعدم صحة الاشتقاق بناء على مخالفة القياس اللغوي، ويرجح رجوعها إلى «الصوف»، ونص السهراوردي في عوارف المعارف على أن المتصوفة خالفوا الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف، وقد جرى أيضا على هذا الرأي ابن خلدون، وأخذ به «نولدكه» مخالفا في ذلك رأي «مركس» القائل بالرجوع في هذه التسمية إلى كلمة «صوفيا»، وقد جرى على رأي «نولدكه» جمهور من المستشرقين، وأخذ جرجي بك زيدان برأي مركس في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية.
وغرض المتصوفة الوصول إلى الحقيقة من طريق الاتصال بالذات الأقدس ومشاهدته، والحقيقة عندهم هي ذات الباري، وطريقهم إلى ذلك التفاني في محبة الذات الأقدس إلى درجة يسقط عندها التكليف بين المحب والمحبوب.
ولذلك رأوا أن وسيلتهم إلى ذلك لا تكون إلا بالنأي عن كل شيء سواه، فتورعوا وزهدوا في جميع مظاهر الحياة الدنيا، واجتنبوا الملاذ واعتزلوا الناس لترويض النفس بالجوع والذكر، وغير ذلك من أنواع المجاهدات.
وإن الصوفي لينقطع بهذه المجاهدة الروحية والرياضة النفسية عن عالم الحس شيئا فشيئا، ذلك العالم الذي يعده من العوائق الكلية عن الوصول إلى السعادة والغبطة في مقام الشهود، ولهذا يتمنى المتصوف لو أن حواسه الخمس تقل عدا، على خلاف ما كان عليه الإغريق من تمني الزيادة في عدد تلك الحواس؛ كي يتمكنوا من إدراك أكثر مما أدركوا من جمال الوجود وأسرار الكون العام.
هذا، ويتبع هذه المجاهدة والرياضة بالخلوة والذكر في الغالب شيء من الكشف عن الروح ليس لصاحب الحس إدراك شيء منه، ويتزايد هذا الكشف من وقت إلى آخر ومن درجة إلى درجة بملازمته طرق الرياضة حتى يصير كما يظنون شهودا، وهنا تصل نفس الصوفي إلى الدرجة القصوى والاستعداد إلى الإدراك الكلي، فيتلقى عندئذ المواهب الربانية والعلوم اللدنية وينكشف له كثير من حقائق الوجود التي لا تدرك بالحس والنظر.
ويعرف عن الصوفية أن الواصل منهم إلى هذا المقام يتجلى له أمر المستقبل، فيعرف كثيرا من الحوادث قبل وقوعها، وبذلك يمكنه أن يتصرف بهمته وقوى نفسه في الموجودات السفلية، والعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يخبرون بشيء عنه ولم يؤمروا بالتكلم فيه؛ لأنه قد يكون لهم من قبيل المحنة والابتلاء.
النظريات الصوفية
ذكر الفرغاني أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية، وهما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة ليس غير، ويسمي المتصوفة هذا الصدور «بالتجلي»، ويرى شهاب الدين السهراوردي أن العالم الروحاني صادر عن الملأ النوراني، عن الذات الأقدس، وهذا العالم النوراني مقابل لعالم الظلمة الذي هو عالم المادة، ويعرف هذا المبدأ «بحكمة الإشراق»، وليس هذا الرأي ناشئا عن نظر متصوفة الإسلام، بل وصل إليهم من الأفلاطونيات الحديثة التي تكونت نهائيا في مدارس أفلوطين وفروفريوس وجامبليكوس وأفروكلين، وذهب آخرون من المتصوفة إلى القول بالوحدة المطلقة؛ وذلك أنهم يزعمون أن الوجود له قوى في تفاصيله، وبهذه القوى كانت الموجودات وموادها وصورها، والقوة الجامعة لتلك القوى من غير تفصيل هذه القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية، وأحاطت بها من كل وجه، وهذه العقيدة هي المعروفة باسم «البانتشم» أو وحدة الوجود التي أخذت مبدأها في الأساطير القديمة والحكمة الهندية.
اتفق المتصوفة والمتكلمون على أن الخالق له التأثير في الموجودات، ولكن أغلب المتصوفة أضافوا إلى ذلك قولهم: «وإن جميع الموجودات هي عين الخالق»، وهذا هو عين نظرية وحدة الوجود التي جعلت ذاتية الإنسان عين ذاتية الباري.
وقد تكلم المتصوفة في النفسيات؛ وإجمال رأيهم أنهم أهملوا الظواهر الخارجية المحيطة بالإنسان المدركة بواسطة المشاعر الخمس، وجعلوا طريق الإدراك الحقيقي من القلب، فالقلب هو الذي يفيض بالمعرفة الحقة، وما تحمله الحواس ليس إلا مجرد غلط وخداع.
وأخذ المتأخرون من الصوفية بعقيدة وحدة الوجود، وذهبوا أيضا إلى القول بالحلول وأترعوا صحفهم بذلك، وفي كتاب المقالات للهواري كلام كثير، وتبعه في هذا الرأي ابن العربي وابن سيرين وابن العفيف وابن الفارض في قصائدهم المشهورة، وتطرق هذا الرأي إليهم من الإسماعيلية القائلين بالحلول وإلهية الأئمة، لذلك أخذ هؤلاء المتصوفة عنهم القول بالإمام وهو المعروف عندهم بالقطب، ومعناه رأس العارفين الذي لا يدانيه أحد في مقامه في المعرفة، وإذا مات ورث مقامه قطب آخر من رجال العرفان وغيرهم.
1
وقد عد الفقهاء وأهل الفتيا أكثر آراء المتصوفة بدعا في الدين يجب الرد عليها ودحضها، وقد انبرى لهذه المهمة كثير من الفقهاء والقضاة للرد على مقالات الصوفية، فحملوا عليها حملات شعواء بالنكير سائر ما وقع لهم في طريقتهم، وقد رد عليهم ابن خلدون في مقدمته؛ وفصل القول في ذلك في أربعة موضوعات وهي: الكلام على المجاهدات، والكلام في الكشف، والتصرفات في العالم والأكوان، والألفاظ المشكلة. فتناول ابن خلدون كلا من هذه الموضوعات وناقشها ورد على الفقهاء.
وذكر الغزالي في كتاب الإحياء كثيرا من البراهين الشرعية على صحة طريق أهل التصوف في اكتساب معارفهم عن طريق الإلهام؛ إذ قال: «إن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسير بطريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفا بصحة الطريق، ومن لم يدرك ذلك بنفسه قط ينبغي أن يؤمن به؛ فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جدا، ويشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات.» ويسوق الغزالي هذه الشواهد الشرعية والتجريبية والقصصية بما تراه مفصلا في كتابه، من ذلك تعرف أن روح الدين الإسلامي لم يكن ضد المتصوفة في جهادهم وزهدهم ومحاسبتهم النفس، ولم يكن خصما لهم في مشاهداتهم وإدراكهم.
أما بروكلمن المستشرق الألماني فقد قسم المتصوفة في كتابه «أدب اللغة العربية» إلى عشرين طبقة مراعيا في ذلك التقسيم الزماني والمكاني، وذكر في كل طبقة جميع التابعين لها ناصا على عدد مؤلفات كل متصوف مع بيان المطبوع والمخطوط وأماكن وجودها.
وتبدأ الطبقة الأولى من منتصف القرن الثاني الهجري إلى ابتداء القرن الخامس، وقد ذكر في هذه الطبقة أحد عشر صوفيا، وتبدأ الطبقة العشرون وهي آخر الطبقات من أوائل القرن الثالث عشر إلى الوقت الحاضر وهم متصوفة مصر وعددهم ستة.
أول المتصوفة من الطبقة الأولى هو الحارث بن سعد المحاسبي البصري ويكنى أبا عبد الله، وهو أول شخص عرف من المتصوفين الذين نسجوا على منوال التصوف المسيحي.
كان شديد الزهد والورع، وعرف بالمحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه، اجتمع له علم الظاهر والباطن فكان خاضعا لربه ملازما على الدوام لمجاهدة النفس ورياضتها والزهد في ملاذ الحياة الدنيا، ومن زهده أنه ورث من أبيه ألف درهم فلم يأخذ منها شيئا؛ لأن أباه كان قدريا، فرأى من الورع ألا يأخذ ميراثه، وقد مات وهو محتاج إلى درهم.
وما يؤثر عنه أنه كان إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك على أصبعه عرق فيمتنع عنه.
أما مؤلفاته فمنها: (1) مقاصد الرعاية: وهو كتاب في المبادئ التي يجب على المتصوفة اتباعها. (2) رسالة في الفضائل العشر الموصلة إلى السعادة. (3) شرح المعارف وبذل النصيحة. (4) رسالة في الأخلاق.
ومن تمام المعرفة بالذات الإلهية - أي بالله - تمام إنكار الذات، وهي الحالة التي يعبر عنها بالفناء، وهو على ثلاثة درجات: (1) فناء أهل العلم المتحققين به. (2) فناء أهل السلوك والإرادة. (3) فناء أهل المعرفة المستغرقين في شهود الحق. فأول الأمر أن تفنى قوة علمه وشعوره بالمخلوقين في جنب علمه ومعرفته بالله وحقوقه، ثم يقوى ذلك حتى يغيب عنهم، بحيث يكلم ولا يسمع، ويمر به ولا يرى، وذلك أبلغ من حال السكر، ولكن هذه الحال لا تدوم هكذا. وفناء أهل المعرفة على ثلاث درجات: (1) فناء المعرفة في المعروف ، وهو الفناء علما. (2) فناء العيان في المعاين، وهو الفناء جسدا. (3) فناء الطلب في الوجود، وهو الفناء حقا. فالأول وهو غيبة العارف بمعروفه عن شعوره بمعرفته ومعانيها، فيفنى به سبحانه وتعالى عن وصفه هنا وما قام به؛ فإن المعرفة فعله ووصفه، فإذا استغرق في شهود المعروف فني عن صفة نفسه وفعلها. ولما كانت المعرفة فوق العلم وأخص به كان فناء المعرفة في المعروف مستلزما لفناء العلم في المعرفة، فيفنى أولا ثم تفنى المعرفة في المعروف. والثاني هو فناء العيان في المعاين، فالعيان فوق المعرفة، فإن المعرفة مرتبة فوق العلم ودون العيان، فإذا انتقل من المعرفة إلى العيان فني عيانه في معاينته كما فنيت معرفته في معروفه. والثالث وهو فناء الطلب في الوجود، فهو أن لا يبقى لصاحب هذا الفناء طلب؛ لأنه ظفر بالمطلوب المشاهد، وصار واجدا بعد أن كان طالبا، فكان إدراكه أولا علما، ثم قوي فصار معرفة، ثم قوي فصار عيانا، ثم تمكن فصار وجودا.
2
هذه أقوال الصوفية في نظرية المعرفة، ظهرت واضحة في الدور الثالث من أدوار التصوف الإسلامي ما بين سنة 200ه وسنة 300ه حين أصبح الزهد فيه لا غاية، بل وسيلة للوصول إلى المعرفة والإشراق، وإذا أردنا أن نذكر تلخيصا صغيرا لهذه النظرية لا نرى في الواقع أحسن من رأي الأستاذ نشلسن حين قال: لقد ميز الصوفية بين ثلاثة أشياء؛ أي بين القلب والروح والسر؛ فالقلب يستطيع أن يتعرف كل الأشياء وماهياتها، وإذا أضيء بالإيمان والمعرفة استطاع أن يعكس على صفحته كل ما يحويه العقل الإلهي، ويتنازع القلب قوتان: إحداهما المعرفة التي تفيض من الله على العبد، والأخرى هي أوهام الحس، والمرء لا يعرف الله بالحس؛ لأنه لا مادي، ولا بالعقل والمنطق؛ لأنهما لا يخرجان عن دائرة المتناهي، بل بالفيض والوحي والإلهام، فالقلب يضم بين جوانحه العالم كله، والله وحده هو الذي ينير القلوب، ويزيل ما يغشيها من شوائب الحس؛ وذلك بتآزر العبد مع الرب في ذلك، أعني بالمجاهدات والرياضات، والأفعال التي لا تصدر عن الله أفعال باطلة، وكل ما يعمله الصوفي لا يبتغي وراءه أجرا، بل إن مطلبه الوحيد هو رضاء الله عنه، ومعرفة الصوفي معرفة مباشرة؛ لأنها تستند على الوحي، أو على الرؤية المباشرة، فهي ليست نتيجة لأية عملية عقلية، وإنما تعتمد كلية على إرادة الله ومحبته وفيضه على من اصطفى من عباده، ومع اتفاق المسلم العادي والصوفي في أن الله واحد؛ فإن الأول يعني بذلك أنه واحد في ماهيته وصفاته، أما الثاني فيرى أن الله هو الواحد الحقيقي الذي لا يوجد غيره في الكون، فهو يتضمن كل الظواهر الأخرى، ولما كان الصوفي لا يعرف الله وكل أسرار الوجود إلا إذا وحدها في نفسه، فهو بذلك يعد عالما صغيرا، فمعرفة الصوفي إذن هي اتحاد.
الطرق الباطنية
الكشف الباطني يشغل جانبا ضخما من رسالة الغزالي؛ إذ هو في طليعة الفكر الإسلامي، بل العالمي الذين آمنوا بإلهامات الروح، بل جعلوا من تلك الإلهامات وسائل وغايات للإرشاد والهداية.
وقد اختلف المفكرون قديما وحديثا في طريق المعرفة، وهل تتأتى عن طريق الحواس الخمس وحسب؟ أم لها سبل وطرق باطنية إلهامية أخرى؟
فالماديون لا يرون للمعرفة بابا إلا الحواس الخمس المتصلة بالعالم الخارجي، ويقررون أن لا مصدر فوق هذا تهبط منه المعرفة، غير الخيال والتصور، وهم شديدو التهكم برجال الكشف الباطني ومن سلك مسلكهم من أرباب القلوب أو الرياضة العقلية، ذلك سبيل أصحاب المذاهب المادية من الفلاسفة.
أما الصوفية والروحانيون على اختلاف أديانهم وألوانهم ومذاهبهم فيقررون أن للعلم وسائل باطنية تصل بين النفس الإنسانية والعالم الروحاني، يلمسها كل من صفت نفسه من أدران المادة وتخلصت من شوائب الحياة، فيحصل من هذا الطريق على أسرار الوجود وخفايا الخلود وحكم تعلو على الحواس الخمس والمعارف التي تدركها هذه الحواس.
والعلم الحديث القائم على الاستقراء والمشاهدة يعترف في صراحة بأن للمعرفة وسائل أخرى غير الحواس الخمس، وأن هناك إلهامات روحية غامضة لا سبيل إلى معرفة أسرارها أو إنكارها أو التكهن عليها.
فمسألة العقل الباطني والتنويم المغناطيسي الذي عجز الماديون عن إنكاره أو تشكيك النفوس فيه ، ما هو إلا ضرب من ضروب الأرواح السابحة التي يمكن للأرواح البشرية أن تلتقي بها وتتحدث إليها وترشف من نبعها ومعارفها ما شاءت من أسرار وفنون، وقد دل العلم الحديث على أن المنوم تنويما مغناطيسيا بعد أن تتعطل حواسه يتقمص شخصية أرقى من شخصيته وتتلبسه روح عاقلة واسعة الإدراك سامية المعارف، تتحدث عن أدق المسائل وأغمض المسالك، ومن مشاهدات العقل الباطني ما يلمح في كثير ممن نفذ إليهم شعاعه في ناحية خاصة كالحسابين على البديهة؛ وهم طائفة تلقى عليهم أغمض المسائل الرياضية وأدقها التي تحتاج إلى زمن كبير في التفكير والعمل، فيجيبون عنها فورا وهم لا يدرون ولا يعرفون كيف ولا متى حصل هذا؟
وهناك أطفال يوقعون على الموسيقى قطعا وألحانا يعجز عنها أئمة هذا الفن؛ وهم لا يعرفون كيف صنع هذا اللحن أو رتب ذاك النغم! وقد كتب الشاعر «موسيه» عن نفسه فقال: «أنا لا أعمل، ولكني أسمع فأفعل فكأن إنسانا مجهولا يناجيني في أذني.» وكان «لامارتين» يقول: «لست أنا الذي يفكر، ولكن هي أفكاري التي تفكر لي.» وروى الشاعر «رينيه» أنه قد ينام غالبا وهو يصنع قطعة من الشعر لم تتم فيستيقظ فيجدها تامة في اليوم التالي عندما يفكر فيها. أما سقراط فقد كان يسمع بأذنيه ما تلقيه إليه الروح.
بل إن هناك مذاهب فلسفية قديمة قامت بأسرها على المناجاة الروحية والاتصال بالله، فأفلوطين في مدرسة الإسكندرية يرى أن الجذب والفيض هما السعادة التي ليست وراءها سعادة، أما لبرتش في القرن السابع عشر فيقول باتصال مستمر بين العبد وربه. فمعرفتنا ليست إلا فيضا من الله، وما يبدو منا من عمل خارجي ليس إلا ظروفا ومناسبات لتحقيق إرادة الله، وبهذا يتلاشى المخلوق في الخالق، ويندمج الأثر في المؤثر.
أما أرسطو الذي كان واقعيا في بحثه وطرقه، ورجل مشاهدة وتجربة في ملاحظاته واستنباطاته فقد انتهى به الأمر إلى أن بنى دراساته النفسية على شيء من الفيض والإلهام.
ومن مذاهب العلم الحديث «مذهب المتأملين» الذين يؤمنون بالتأمل ويفضلونه على القراءات والدراسات ، فأصحاب المذاهب الفكرية وقادة الرأي لديهم كانوا من المتأملين، ولم يكونوا من الذين أفنوا حياتهم في البحث والدرس.
والصوفية في الإسلام تحمل لواء الكشف الباطني، وقد ازدحمت مكاتب الفكر الإسلامي بتراث ضخم للصوفية التي حوت معارفها ينابيع من العلوم والفنون ما أثار جدلا وحوارا، ولا تزال تثير جدلا وحوارا.
ولا ريب في أن الصوفية قد وجدت في الغزالي قائدا بارعا ومحاميا لبقا وشارحا ساحرا يأسر القارئ إلى صفوفه ويكسب المعارك بفنونه، فاستطاع أن يجعل منها علما واضحا مهذبا، أو كما قال العلامة ماكدولاند: «إن الصوفية بلغت بفضله ونفوذه وتأثيره مكانا ثابتا وطيدا في الإسلام.»
وتفوق الغزالي في تاريخ التصوف مرجعه إلى تفوقه العلمي؛ فقد درس العلوم الفلسفية والتقليدية والجدلية والمذهبية دراسة لم تتيسر لكاتب صوفي سواء تقدم به تاريخ الزمن أم تأخر.
ومن أجل هذا أصبح الغزالي كاتب الصوفية الأول، وبفضله وضحت أسرارها ومعانيها، وتحددت أهدافها ومراميها، وكما حطم نفوذ الفلسفة في المشرق بعد سيادة وهيمنة، أطلق علم التصوف في السماء يسبح خفاقا في قداسة ونور وإجلال.
والغزالي يؤمن بأن معارف الباطن هي طريق الهداية، لأنها اتصال مباشر بالحقائق الخالدة والأسرار النورانية، وصلة مستمرة بين العبد والخالق، أساسها المحبة المتبادلة والإلهامات المشرقة.
وقد أطلق الصوفيون على المعرفة الروحية لقبا يجعلها أصلا من الأصول، لا فرعا من الفروع، فأسموها علوم الباطن، وقاموا ثقافتهم وعبادتهم على أساسها.
وعلم الباطن عند الغزالي هو غاية العلوم، وقد عرفه بقوله:
إنه عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة، كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معان مجملة غير متضحة، فتصح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بإدراك حقائق علم الدنيا وعلم الآخرة، وهذا ممكن في جوهر الإنسان، لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا ولا سبيل لهذا العلم إلا بالرياضة والتعليم، وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب أو لا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء إلا مع أهله ، وهذا هو العلم الخفي الذي أراده
صلى الله عليه وسلم
بقوله: «إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله، فإذا أنطقوا به لم يجهله أهل الاغترار بالله.»
واعلم أن انقسام هذه العلوم إلى خفية وجلية لا ينكرها ذو بصيرة، وإنما ينكرها القاصرون، وقد قال
صلى الله عليه وسلم : «إن للقرآن ظاهرا وباطنا وحدا ومطلقا.» وقال علي وأشار إلى صدره: إن ها هنا علوما جمة لو وجدت لها حملة. وقال أيضا: لو أردت أن أفسر الفاتحة بما أعلم لاحتجت إلى ثمانين بعيرا. وقال ابن عباس في قوله تعالى:
الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن : لو ذكرت تفسيره لرجمتموني، وقال أبو هريرة: «حفظت من رسول الله وعاءين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر لو بثثته لقطع هذا الحلقوم.» وقال الرسول: «ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بسر وقر في صدره.» وقال سهل التستري: للعالم ثلاثة علوم: علم ظاهر يبذله، وعلم باطن لا يسعه إظهاره إلا لأهله، وعلم هو بينه وبين الله لا يظهره لأحد، فإن قيل إذن الظاهر خلاف الباطن - وفي هذا إبطال للشرع - كان الجواب أن الشرع عبارة عن الظاهر، والحقيقة عبارة عن الباطن، وإن كان لا يناقضه ولا يخالفه، ولا يكون للشرع سر لا يفشى، بل يكون الخفي والجلي واحدا، وإنما هو اختلاف العقول والأفهام والظرف والمكان، وإن هناك من يدرك الشيء جملة ثم يدركه تفصيلا بالتحقيق والفروق، وذلك كما يتمثل للإنسان في عينه شخص في الظلمة أو على البعد، فيحصل له نوع علم، فإذا رآه بالقرب أو بعد زوال الظلام أدركه إدراكا أوفى.
مراحل التصوف الإسلامي
قبيل الوحي المحمدي كان الرسول يتبتل ويتعبد في غار حراء مطلقا روحه للتأمل والتفكر في بدائع الله وآياته الكونية صارفا قلبه عن متاع الحياة وشواغل الوجود، ليتفرغ بقلبه وعواطفه للمناجاة والعبادة وتلمس المعرفة حتى كانت العرب تقول: «إن محمدا عشق ربه.»
وبداية الأنبياء هي نهاية ما اصطلح على تسميتهم بالصوفية الذين يقولون إن المجاهدة والمحبة، والفناء في معاني المحبة والعبادة تعد الروح للتذوق والتلقي وتوصل إلى العلوم والمعارف، فالمعارف - في اعتقادهم - كامنة في الروح البشري أصيلة في مادتها لا دخيلة عليها، والتغلب على الجسد بإعلاء مكانة الروح يمزق تلك الحجب ويرفع الظلمة التي تحول بين الروح والنور.
ويعبر الغزالي عن المعرفة بقوله: «إنها نور يقذف في القلب.»
وقد كان الإمام مالك يقول: «ليست المعرفة بكثرة الرواية، ولكنها نور يضعه الله تعالى في القلب.»
وقد أثار التصوف جدلا وحوارا في الفكر الإسلامي، وأكبر الظن أن هذا الجدل أو هذا الحوار سيبقى خالدا ما بقي الفكر، كما أوضحنا قبلا.
والذين نقدوا التصوف الإسلامي وجهوا نقدهم الأكبر إلى أهداف ثلاثة:
فالفلاسفة وأصحاب المذاهب العقلية عابوا طريقته إلى المعرفة، وأنكروا أن يكون التفرغ والتجرد من متع الحياة والزهد في شهواتها ونعيمها سبيلا إلى المعرفة، بل سبيل المعرفة عندهم هو تغليب أرقى أجزاء النفس على الحواس وهو يقصدون بذلك قوى العقل وإرادته، كما وصفوا الانتصار العقلي على الحواس بأنه أرفع مراتب السعادة، كما يقول ابن رشد.
وهم بذلك يؤيدون الصوفية أكثر مما ينقدونها أو ينقصونها؛ لأن في سعيهم إلى تغليب العقل نزوعا إلى الصوفية وإن اختلف الوضع فنادوا بالعقل ونادى المتصوفون بالروح.
وعلماء الاجتماع ورجال الأخلاق تهكموا بالصوفية وأساليبها، وأسرفوا في التهكم والتجريح، لأنها في نظرهم لا تصلح للحياة العملية، ولا يقوم نظام المجتمع ولا يمكن أن تتأسس على نظمها الزاهدة الأمم.
وتلك شهادة للتصوف لا عليه؛ فهي تدل ضمنا على أنهم لا ينشدون مظهرا في الحياة ولا غلبة في مضمارها، ولا يبغون مأربا ولا يتلمسون مغنما من مغانمها، وإنما ينشدون طهرا وقربا من الله وفوزا برضوانه وعبادة للعبادة، بل إن التصوف الإسلامي جعل العبادة أصلا والمعرفة فرعا.
والصوفيون لا يقولون إن طريقهم للناس جميعا؛ لأن المثالية لم تكن يوما من الأيام شرعة مباحة لكل من يخطر بقدمين على الكوكب الأرضي.
وليس في استطاعة الناس جميعا أن يكونوا ملوكا، ولا أن يكونوا فلاسفة أو أطباء مثلا أو غيرهم من الطوائف والمذاهب العقلية والعلمية.
وأما الفقهاء وعلماء الكلام فقد هاجموا المتصوفة هجوما عنيفا، بل غالوا في هجومهم حتى رموهم بالمروق والضلال ومفارقة الشريعة وظاهر السنة.
وهنا يبدو موقف دقيق؛ ففريق من المتصوفة قد غالوا وأفرطوا كجماعة الحلوليين الذين قالوا بوحدة الوجود، وفريق آخر عبث بظاهر الشرع وأفرط في السبحات والوثبات والاستغراقات حتى تحلل من الفرائض والآداب.
ولكن التصوف الصادق لا يعترف بهؤلاء ولا هؤلاء، بل يبرأ منهم ويهاجمهم بأشد من هجوم الفقهاء أنفسهم.
ودستور الصوفية وصفاتهم يرسمه الغزالي ويوضحه بقوله في كتاب «ميزان العمل» عند ذكره لعلامات السائرين إلى الله فيقول:
اعلم أن سالك سبيل الله تعالى قليل والمدعي فيه كثير، ونحن نعرفك علامتين له، العلامة الأولى: أن تكون جميع أفعاله الاختيارية موزونة بميزان الشرع موقوفة على حد توقيفاته إيرادا وإصدارا وإقداما وإحجاما، إذ لا يمكن سلوك هذا السبيل إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة كلها، ولا يصل فيه إلا من واظب على جملة من النوافل، فكيف إليه من أهمل الفرائض، والسالك لسبيل الله يعرض عن الدنيا إعراضا لو ساواه الناس بكلهم لخرب العالم.
فإن قلت: فهل تنتهي رتبة السالك إلى حد ينحط عنه بعض وظائف العبادات ولا يضره بعض المحظورات، كما نقل عن بعض المشايخ من التساهل في هذه الأمور؟ فاعلم أن هذا عين الغرور، وأن المحققين قالوا لو رأيت إنسانا يمشي على الماء وهو يتعاطى أمرا يخالف الشرع فاعلم أنه شيطان وهو الحق.
وإذن فالغزالي يقرر بأن المتصوفين فئة خاصة، ولا يمكن أن يكون العالم على مثالهم وإلا لخربت الدنيا وتغيرت معالمها وفسد نظامها.
كما أنه يربط التصوف بالشريعة رباطا لا ينفصم، فيجعل التمسك بقواعد الشريعة غاية السالك، فإذا خالف الشريعة ولو سار على الماء وطار في الهواء فهو شيطان.
تلك هي الصوفية الكاملة التي يصفها الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال بقوله:
إني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير وطريقتهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.
وماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها وأول شروطها تطهير القلب عما سوى الله تعالى ومفتاحها استغراق القلب بالكلية في ذكر الله وآخرها الفناء بالكلية في الله، وأول هذه الطريقة المكاشفات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
ينقسم التصوف الإسلامي إلى قسمين: قسم يتعلق بالتربية وتهذيب الروح ونبل الخلق والتحلي بالفضائل والمحاسن الأدبية، وهو ما اصطلح على تسميته بعلم المعاملة، وقسم يتعلق بالرياضة الروحية والعبادة وما فيها من نور وطهر وكشف وفيض.
والقسم الأول هو عماد فلسفة الغزالي الأخلاقية، بل هو عماد كتابه الأكبر «الإحياء»، الذي خلد في تاريخ الفكر الإسلامي وخلد به الغزالي «كحجة للإسلام» توضيح فضائله وأنواره.
وهو مادة دسمة لرواد الأخلاق، ومادة دسمة لمن يبغي إنسانية نبيلة مهذبة لا تعرف التخاصم والتنابز بالألقاب ولا تعرف الفسوق والجدال وسوء الخلق، وفيه تتجلى وتبرز معاني الحديث الشريف: «وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.»
وأما القسم الثاني وهو قسم العبادة والفيض، فأول شروطه كما يقرر الغزالي: معرفة الكتاب والسنة معرفة عليا خلافا لمن قال: إن الفيض يأتي بالطهارة فقط ولو لم تكن هناك معرفة بالكتاب والسنة والفقه، ويسمى هذا القسم في اصطلاحاتهم «بالطريق»، وقد قسموه إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى:
مرحلة العمل الظاهر؛ أي مرحلة العبادة والإعراض عن الدنيا وزخرفها وزينتها والزهد في شهواتها والانفراد والعكوف على الذكر والاستغفار.
والمرحلة الثانية:
مرحلة العمل الباطني بتزكية الأخلاق وتطهير القلب وتصفية الروح ومحاسبة النفس ومراقبتها والتجمل بالأخلاق النبيلة والصفات الزكية.
والمرحلة الثالثة:
مرحلة الرياضة والمجاهدة التي يقول فيها الرسول: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر .» وبتلك المجاهدة يقوى سلطان الروح وتتحرر النفس من الأدران الأرضية فتسمو وتصفو حتى تنطبع فيها حقائق العالم وأسراره، وينسكب في القلب نور ينكشف به جمال العالم وجلاله ودقائقه وأسراره، فيرق الحس ويتنبه الشعور ويستيقظ الإحساس فتكون حركة حياة في المشاعر عامة، وتشعر تلك المشاعر بلذة عليا وعلوم نورانية تقوى في النفس حتى تصير لازمة، ويتوالى الكشف للنفس وتزاح عنها الحجب شيئا فشيئا حتى تصل إلى الأنوار العليا في عرفهم.
أما المرحلة الرابعة:
فهي مرحلة الفناء الكامل بوصول النفس إلى مرتبة شهود الحق بالحق، وانكشاف العوالم الخفية والأسرار الربانية وتوالي الأنوار واللذة الروحانية.
وتلك المرحلة هي مرحلة الخطر، ومن أجلها نشبت المعارك، وأن يتذوق التصوف ثم يدرس أخلاقيات الغزالي فيتذوق نبل رسالته الأخلاقية وجلال شأنها.
وإن كان رجال التربية وأساتذة الفكر المثاليين يفكرون اليوم في إيجاد طبقة من الإنسانية ممتازة كاملة الرجولة قوية الحيوية سامية الخلق والفكر متلائمة التناسق ممن أطلقوا عليها اسم «سوبر مان»، أي الرجل الكامل أو الخلق الكامل، فقد وضع الغزالي منذ قرون الصورة الحقيقية التامة لهذا النوع الممتاز من البشرية السعيدة الطاهرة.
فإن المبادئ الأخلاقية النبيلة التي وضعها الغزالي وشرطها للمؤمن لجديرة بإيجاد مجتمع إنساني ملائكي فاضل سليم من الضغن والتنازع، بعيد عن الفحش والرذيلة.
وإن النظم التي سنها الغزالي ووضعها للمجتمعات وطرق اتصالها وتعاملها وعوامل اتحادها ومحبتها، لخليقة بإنشاء دولة أو عصبة من الأمم عالمية متحابة متعاونة متفانية في فضيلة واحدة، تهدف نحو وجهة عليا يرفرف عليها علم المحبة ويوحدها قانون الأخوة ويسعدها السلام الدائم للروح والقلب والأحاسيس.
ورسالة الغزالي الأخلاقية هي تطهير الجوارح تطهيرا كاملا عما يلوثها بين الفقهاء والصوفية، ومنها نشأ التيه لكثير من الصوفية؛ لأن من تزل قدمه هنا ضاع إلى الأبد.
وتلك المرحلة لا تكتب ولا توصف، لأنها خارجة عن نطاق التصور العقلي، والغزالي وهو علم الصوفية وكاتبها الأكبر لم يتعرض لها ولم يشغل قلمه بها، وإن كان لم ينكرها، بل تركها لأصحابها وأربابها.
ولكنه جال وأفصح في المراحل الثلاث السابقة ونثرها في كتبه نثرا أشبه بالنور والعطر، واستمد منها روعة أسلوبه وروعة تهذيباته وروعة مبادئه التي جعلت من الحياة محرابا أعظم لعبادة الله ودعوة عباده إلى الهدى والرشاد.
وقد تخصص الغزالي لآداب التصوف تخصصا جعله نسيج وحده بين رجال الفكر الإسلامي؛ فقد مزج الشريعة بالتصوف، كما مزج العبادات بروح من التصوف أطلق فيها النور والروح إطلاقا يبعث في القلب نشوة الإيمان ورعشة الخوف وفرحة الحس المطمئن إلى واجبه المقدس.
ودارس الأخلاق عند الغزالي، لا بد أن يدرس التصوف.
التصوف والمحبة
كانت هجرة الرسول محمد
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى المدينة وتعبده في غار حراء أولى مراحل التصوف الإسلامي، وهنا ينبغي أن نبين أن هناك هجرة إلى الله وهجرة إلى الرسول، فقد قال تعالى في كتابه العزيز:
ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ، وفي هذا المعنى ألف الإمام ابن قيم الجوزية المتوفى عام 751ه كتابا جعل عنوانه «طريق الهجرتين وباب السعادتين»، بين فيه أن للعبد في كل وقت هجرتين: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه والافتقار في كل نفس إليه، وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافقة لشرعه.
ولابن القيم كتب أخرى كثيرة، غير أن هذا أفضلها، لأنه يصور رأيه فيما يجب أن يكون عليه سلوك الإنسان في هذه الدنيا، وفي صلة المخلوق بالخالق من الفقر إليه والغنى به وفي الخير والشر، وكيف يكون الخير من الله والشر من أنفسنا، وفي القضاء والقدر وفي نفاة التعليل والحكمة والأسباب، وفي الإرادة الإنسانية والمحبة، وهذه كلها مسائل دقيقة خطيرة شغلت بال المسلمين منذ فجر الإسلام، وهي شاغلة لأفكار المؤمنين بوجود الله من أصحاب الأديان، بل هي شاغلة لأذهان الكفار والمشركين ما دام المجتمع الإنساني فيه الخير والشر والعدل والظلم.
ولقد حاول الفلاسفة والمتكلمون والصوفية حل هذه المشكلات، كل فرقة حسب منهجها ومذهبها فاختلفوا في ذلك اختلافا كبيرا، وخيل إلى أصحاب هذه المذاهب أنهم ملكوا عنان البيان واختصوا بالمنطق والبرهان، فسموا أنفسهم الخاصة وسائر أفراد المسلمين دهماء وعوام، وأطلقوا على الجمهور أهل السنة، والإسلام الصحيح لا يعرف خاصة وعامة أو أرستقراطية فكرية واجتماعية.
1
وقد تصدى من أهل السنة في كل عصر رجال يجادلون الفلاسفة والمتكلمين والصوفية، ولكن أبرزهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، ومثلهما في تاريخ الإسلام مثل سقراط وتلميذه أفلاطون في تاريخ الفلسفة كلاهما لا ينفصل عن صاحبه.
أما أول مسألة يحسن تقريرها في هذا الصدد فهي علة احتياج العالم إلى الله، وقد بادر ابن القيم بعد خطبة الكتاب بنفي مقالة الفلاسفة والمتكلمين وإثبات دليل آخر غير دليليهما، فقال: ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث، والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار، وفقر العالم إلى الله تعالى أمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته.
ثم مضى بعد ذلك فلم يتعرض للفلاسفة والمتكلمين الذين عني بالرد عليهم في بعض كتبه الأخرى، ولكنه اهتم بالصوفية، إذ إن مذهبهم يرمي إلى الوصول بل الاتصال بالله، وهو أليق المذاهب بالهجرة إليه، واصطلاحاتهم في ذلك تنم عليهم؛ فهم يصفون المتصوف بالسالك والمسافر والسائر، إلى آخر هذه النعوت المميزة لأرباب السلوك وأصحاب الطريق.
هذا، والصوفية أصناف؛ منهم المعتدلون ومنهم المتطرفون. ولهم رموز واصطلاحات لا يفهمها إلا المريدون، ولقد رثى ابن القيم للصوفي الذي يحمله التصوف على ولوج باب الحلول فيقول: سبحاني أو ما في الجبة إلى الله، ونحو هذا من الشطحات التي نهايتها أن يغفر له ويعذر لسكره وعدم تمييزه في تلك الحال. والحلاج هو المقصود من هذا القول: ما في الجبة إلا الله.
يطعن ابن القيم التصوف والمتصوفة في الصميم، ويبطل غاياتهم كالقول بالحلول والاتحاد والفناء، ويسفه طريقهم، ويناقش أئمتهم البارزين. أورد رأيهم في الفقر، وهو باب السعادة وبداية الطريق. قال أبو المظفر الفريسي : الفقير هو الذي لا يكون له إلى الله حاجة، وعقب القشيري على هذا القول بأن صاحبه يشير إلى سقوط المطالبات وانتفاء الاختيارات والرضا بما يحويه الحق سبحانه. واعترض ابن القيم عليهما فقال: «إنه كلام مستدرك خطأ، فإن حاجات العبد إلى الله بعدد الأنفاس، وأما أن يقال لا حاجة لله إلى الله فشطح قبيح.»
الواقع أن مرد الخلاف بين أهل السنة والصوفية في طريقة التفكير هو أن المتصوفة يحكمون الذوق ويدركون الأشياء بعين القلب لا بنور العقل، أما أهل السنة فيجعلون الشرع قبلتهم ويتبعون الكتاب والسنة وينفذون إلى الحقائق «بالعقل الصريح والفطرة الكاملة»، ولابن تيمية كتاب اسمه: «موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح» رد فيه على مزاعم الطاعنين في أهل السنة. وقال ابن القيم: أما تحكيم الصوفية مجرد الذوق وجعل حكم ذلك الذوق كليا عاما فهذا ونحوه من مثارات الغلط.
ونحن نوافق أهل السنة في هذا الرأي الذي يجمع بين النقل والعقل ويوفق بينهما، ويجعل المعول على العقل في تفسير النصوص والنظر إلى الأمور، والرجوع إلى العقل الصريح هو أول لبنة في بناء مذهب ديكارت من الفلاسفة المحدثين، وهو القائل: «العقل الصريح هو أكثر الأشياء قسمة بين الناس بالتساوي.»
أما الذوق وهو طريق الصوفية فهو منهج لا يتفق مع طبيعة الحياة، ولا يفسر كل شيء ولا يتفق عليه جميع الناس ولا تقبله جميع العقول.
ولقد حكى أبو حامد الغزالي عن نفسه أنه طاف بجميع المذاهب فلم يجد بغيته أو شفت غلته، فانتهى إلى التصوف الذي عده أفضل المذاهب وأليقها بالاتباع، واستطارت شهرة الغزالي ولقب بحجة الإسلام واتبعه كثير من الناس.
فأما ابن القيم فإنه يعترض على الصوفية بأن ليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك، وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز الذي يضرب بزهده المثل؛ فقد نادوا بالتوكل ورفضوا الأسباب، فأجابهم ابن القيم، فهذا كما أنه ممتنع عقلا وحسا فهو محرم شرعا ودينا، فإن رفض الأسباب بالكلية انسلاخ من العقل والدين ، وإن أريد به رفض الوقوف معها والوثوق بها، فهذا حق، ولكن النقص لا يكون في السبب ولا في القيام به، وإنما يكون في الإعراض عن المسبب تعالى، فمنع الأسباب أن تكون أسبابا قدح في العقل والشرع، وإثباتها والوقوف معها وقطع النظر عن مسببها قدح في التوحيد والتوكل، والقيام بها وتنزيلها منازلها والنظر إلى مسببها وتعلق القيام به جمع بين الأمر والتوحيد، وبين الشرع والقدر، وهو الكمال.
إذا كان الله هو الخالق المبدع، وهو العليم القدير، وهو الفعال لما يريد، فلماذا يعاقب الناس على أفعالهم؟ وإن قلنا: الإنسان حر، فأين إرادة الله؟
هذه هي المشكلة الكبرى: القضاء والقدر، وحرية الإرادة، وكيف يمكن التوفيق بين القضاء والقدر، وبين الأمر والوعد والوعيد؟
تحيزت بعض الفرق للقدر وحاربت الشرع، وتحيز بعضها الآخر إلى الشرع وكذب القدر، والطائفتان في نظر ابن القيم ضالتان.
وآمنت فرقة ثالثة بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي، ولكنهم جعلوا مشيئة الله وقضاءه دليلا على رضاه به ومحبته له، إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينهم وبينه، وقال بعضهم: إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها!
وهذه كلها أقوال مشهورة؛ فالمعتزلة ينسبون الحرية للإنسان، وبهذا يصح عندهم الوعد والوعيد، والجبرية يثبتون القضاء والقدر ويعطلون حرية الفرد، وجاء الأشاعرة فقالوا بنظرية الكسب الأشعري التي أصبح يضرب بها المثل في الدقة والخفاء، حتى ليقال: أخفى من كسب الأشعري، وخلاصتها أن أفعال العباد مخلوقة لله مكسوبة لهم، فجمعوا بين الإرادتين.
أما أهل السنة فيختلفون عن هؤلاء جميعا، وهم غير الأشاعرة، فإن قلت إن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من الحنابلة، فلا تنافي بين الحنابلة وأهل السنة؛ أليس الإمام أحمد بن حنبل هو الذي ضرب حتى خلعت كتفه في محنة خلق القرآن، ورفض الجواب وقال: القرآن كلام الله، لا أقول مخلوقا أو غير مخلوق.
ورأي ابن القيم في القضاء والقدر يتلخص في شيئين: أنه هناك حكمة إلهية في كل ما خلقه الله وأمر به، وأن الخير من الله والشر من العباد.
الحكمة من صفات الله والحكيم من أسمائه الحسنى، ومن حكمته أنه خلق هذا العالم مركبا من أضداد؛ كالليل والنهار، والبرد والحر، والداء والدواء، وخلق الإنسان الطيب ومنه الخبيث.
فإن قيل: لم خلق الله الأضداد، وهلا جعلها كلها سببا واحدا؟ قال ابن القيم: وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إلا بخلق المتضادات والمختلفات وترتيب آثارها عليها، وإيصال ما يليق بكل منها.
وسأل ابن القيم أستاذه ابن تيمية: فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجردة من المفاسد مشتملة على المصلحة الخالصة؟ قال ابن تيمية: خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، ولو خلقت على غير هذا الوجه لكانت غير هذه، ولكان عالما آخر غير هذا. أما حقيقة نفس الإنسان فإنها جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة، فما حصل لها من كمال وخير فمن الله، وما حصل لها من عجز وفقر وجهل يوجب الظلم والشر فهو منها ومن حقيقتها، فإن قيل: لم لا تكون النفس خيرة، كان هذا بمنزلة أن يقال: هلا تجرد الغيث عما يحصل به من تغريق وتخريب وأذى، وهلا تجردت الشمس عما يحصل منها من حر وسموم.
فكمال القدرة بخلق الأضداد، وكمال الحكمة تنزيلها منازلها، والعالم هو الذي يربط القدرة بالحكمة، ويعلم شمولها لجميع ما خلقه الله ويخلقه.
أما الجديد في مذهب ابن القيم فهو مذهب المحبة بها يفسر جميع المشكلات السابقة، فقد خلق الله العالم وأحب من خلقه عبادته، فقال:
وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون ، قال ابن القيم: فأخبر سبحانه أن الغاية المطلوبة من خلقه هي عبادته التي أصلها كمال محبته، وهو سبحانه، كما أنه يحب أن يعبد ويحب أن يحمد ويثنى عليه ويذكر بأوصافه العلى وأسمائه الحسنى.
فالله سبحانه يحب نفسه أعظم محبة ويحب من يحبه، وخلق خلقه لذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك.
ويذهب ابن القيم إلى أبعد من هذا؛ فهناك عقد إلهي بين الله وعباده ثمنه الجنة، وفي ذلك يقول: فالله سبحانه خلق عباده له، ولهذا اشترى منهم أنفسهم، وهذا عقد لم يعقده مع خلق غيرهم، وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة له، مصطفاة عنده، مرضية لديه، فالسلعة أنت، والله المشتري، والثمن الجنة.
ومحبة الله من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعصيته؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها.
وإذا ما اقترنت المحبة بالإجلال والتعظيم أدت إلى الانقياد.
والمحبة أنواع: طبيعية مشتركة، كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء، ومحبة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، ومحبة أنس وإلف، وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة. وهذه الأنواع كلها لا تستلزم التعظيم، ولا يتعارض وجودها في الإنسان مع محبة الله، ولهذا كان رسول الله يحب الحلواء والعسل، وكان يحب نساءه، وكانت عائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق.
أما المحبة التي لا تصلح إلا لله فهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، قال الله تعالى:
والذين آمنوا أشد حبا لله .
والمحبة تقتضي إيثار المحبوب على غيره، والإيثار نوعان: إيثار معاوضة ومتاجرة، وإيثار حب وإرادة، والمحبة الصادقة في الإيثار الصادر عن الإرادة في إيثار المعاوضة وطلب الحظوظ.
ولا محبة بغير إرادة، فهي أساس العبودية الذي لا تقوم إلا عليه، فلا عبودية لمن لا إرادة له.
أما التجرد عن الإرادة إطاعة لهوى المحبوب، فهو عند ابن القيم باطل كما قيل:
أريد وصاله ويريد هجري
فأترك ما أريد لما يريد
والتحقيق عنده أن المحبة هي موافقة المحبوب في إرادته، بأن يبقى مراده مراد محبوبه، وهذا عند الصوفية نقص في العبودية وهو عند ابن القيم من كمال الإسلام.
وعلى هذا النحو يحل ابن القيم مشكلة التوفيق بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية لا بطريق الفلاسفة أو المعتزلة أو الأشاعرة أو الصوفية، بل بطريق المحبة.
المتصوفون وآراؤهم وطبقاتهم
كان للصوفية لغة خاصة بهم، وتعبيرات استقلوا بها في الإفصاح عن مذهب وحدة الوجود الذي كانوا يدينون به، ولكن هذه التعبيرات شاكت المسلمين وروعت الفقهاء وجعلتهم يحتاطون منهم، ويعتزلون مجالسهم، فلما رأى المتصوفون ذلك أعلنوا أن لهم حالتين مختلفتين؛ حالة الصحو،
1
وحالة الغيبوبة، فأما الأولى فهم ينطقون فيها بالشريعة، وأما الثانية فهم يعبرون فيها عن الحقيقة، وقد سمى الفقهاء تعبيراتهم في الحالة الأخيرة بالشطحات، وغفروها لهم، لأنها تصدر عنهم في حالة الغيبوبة التي تشبه النوم أو السكر المباح، ولكنهم لم يقبلوا هذه التعبيرات منهم في حالة الصحو مطلقا، بل عدوها جريمة تستوجب القصاص، ولهذا أفتوا بقتل «الحلاج»؛ لأنهم أثبتوا عليه أنه نطق بهذه التعبيرات في حالة الصحو، ومن هذه التعبيرات قولهم مثلا: «أنا الحق، أنا الأول، أنا من الكل والكل أنا، أنا العرش، أنا اللوح، أنا القلم، أنا منذ الأزل وإلى الأبد»، أو مثل قول الحلاج: «ما في الجبة غير الله.» إلى غير ذلك من الألفاظ التي توهم بظاهرها الكفر وتعبر في حقيقتها عن فكرة وحدة الوجود، وقد روى ابن خلكان عن الغزالي أنه لما اطلع على كلام الحلاج وافق عليه وحبذه وقال: إنه من فرط الحب للذات العلية والتفاني فيها، فهو من قبيل قول القائل:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
ومن هذا يبين أن الغزالي لم يكن ملاحظا مذهب الصوفية المنطوي على حقيقته، ولا متنبها إلى أنه متأثر بوحدة الوجود، بل كان معتقدا أن هذا المزج الذي كان الصوفية يحاولونه بين ذواتهم وذات الباري ناشئ من شدة الحب لا من فكرة وحدة الوجود، اللهم إلا أن يكون أبو حامد قد قصد أن يصرف الفقهاء عن اتهامهم المتصوفين بالقول بوحدة الوجود، وإن كان يعلم أنهم يقولون بها، وهذا ما نستبعده عليه.
أوصل بعض المستشرقين طبقات الصوفية إلى عشرين طبقة، وذكر أسماء أفراد كل طبقة ومؤلفاتهم، ولما كان ما يعنينا في هذا الفصل هو الطبقة الأولى التي عاشت في العصر الأول وهو يبتدئ بنشأة التصوف عند العرب، وينتهي بانتهاء القرن الرابع الهجري، وعدد أفراد هذه الطبقة هم أحد عشر صوفيا، وأشهرهم حسب الترتيب الزمني الأشخاص الآتية أسماؤهم: (1)
أبو هاشم، ولا يعرف التاريخ عنه أكثر من أنه كان أول من سمي باسم المتصوف، وأنه بنى في سوريا ملجأ للصوفية، ولكنه ليس له في حركة التصوف العلمية شأن كبير، وأنه توفي حوالي سنة 150 للهجرة. (2)
سفيان الثوري، وهو من الفقهاء والمحدثين، بل إنه قد حاول أن ينشئ مذهبا في الفقه، وكان معاصرا لأبي هاشم، وكان يباشر التصوف العملي بين جماعة من رفاقه، منهم السيدة رابعة العدوية التي توفيت بالبصرة سنة 135ه، وقد توفي سفيان في سنة 161ه. (3)
شيبة الراعي الدمشقي، الذي هجر العالم وتنسك في جبل لبنان، وقد نسب إليه معاصروه بعض الكرامات، كأن زعموا أن المطر كان يهطل إذا أراد أن يتوضأ، وأن أسدا جاءه يوما وركع أمامه فقبض على أذنه ثم أرسله بعد أن ألقى عليه خطبة في الوعظ، وقد توفي هذا الصوفي في سنة 151ه. (4)
ذو النون المصري، ولد في أخميم، وقد اتهم في حياته بالزندقة، وبلغ أمره إلى الخليفة المتوكل فاستحضره إلى بغداد وأدخله السجن، ولكنه لم يلبث أن تبين حقيقته وأعجبه صبره على المكاره وخلبه بفصاحته، فعفا عنه ومنحه حريته ورده معززا إلى مصر، فعاد إلى حياته الصوفية الأولى، وكان له على مواطنيه أثر كبير، وأخيرا توفي في الجيزة سنة 245ه، وله مؤلفات كثيرة، منها: (أ) «المجربات»، ويحتوي على إرشادات طبية وتجارب كيميائية وتمائم سحرية وطلاسم وعزائم، ويوجد في مكتبة باريس. (ب) أشعار في حجر الحكماء، ويوجد في مكتبة باريس. (ج) مناظرة بينه وبين تلميذه يعقوب في حجر الحكماء، ويوجد في مكتبة برلين. (5)
المحاسبي، كان الحارس بن أحمد المحاسبي أحد كبار المتصوفين في عصره، ولكن تصوفه لم يمنعه من الاستزادة في العلوم الظاهرية والارتواء منها، وقد ألف في علم الكلام، وله فيه مجادلات مشهودة أسخطت عليه فقهاء عصره كما سخطوا على جميع علماء الكلام، أما زهده فقد بلغ حد النهاية في عصره حتى لقد قيل: إنه كان إذا اشتهى لونا من ألوان الطعام ومد إليه يده تحرك في أصبعه عرق إنذارا له فيمتنع عنه، وقد أطلق عليه لفظ المحاسبي لكثرة محاسبته نفسه على ما يأتيه من أعمال، وقد توفي سنة 343ه. ومن مؤلفاته ما يأتي: (أ) «مقاصد الرعاية» وهو كتاب في المبادئ التي يجب على المتصوفة اتباعها، ويوجد في مصر. (ب) رسالة في المبادئ العشرة الموصلة إلى السعادة، ويوجد في برلين. (ج) «شرح المعادن وبذل النصيحة»، ويوجد في برلين. (د) «البعث والنشر»، ويوجد في باريس. (ه) رسالة في الأخلاق، وتوجد في مكتبة محمد علي باشا الإسلامبولي. (6)
أبو يزيد البسطامي، وقد تنسك في سوريا زمنا ثم شغف برؤية العلماء والمطلعين حتى قيل إنه عرف جميع أكابر علماء عصره وقد بلغوا مائة وثلاثة عشر عالما، ولما عاد إلى بسطام لم يستطع مواطنوه فهم مبادئه فطردوه من بلده خمس مرات، وهو من كبار المتصوفين، لولا ما أخذ عليه من صفة الكبرياء، إذ إنه - فيما روى التاريخ - كان يتصور أنه أعلم أهل عصره بلا استثناء، وأنه أعلن أنه ظل أربعين سنة يطعم من طعام غير طبيعي، وأنه عرج به إلى السماء كمحمد، ولكن قد يكون كل ذلك مدسوسا عليه ليبرر به مواطنوه طردهم إياه، لا سيما وأنه قد روى عنه مصدر آخر ما يخالف ذلك وهو قوله ما معناه: إنني فتشت في قلبي بعد أربعين سنة فوجدت فيه أثر الوثنية، وهو الاتجاه إلى غير الله، وعكفت على إزالته. وأخيرا توفي سنة 361ه.
2 (7)
الجنيد بن محمد القواريري، وقد ولد ونشأ بالعراق وكان تلميذا للمحاسبي البصري، وكان شديد الورع ولم يمنعه تصوفه عن التمسك بأهداب الشريعة، لأنه كان يؤمن بالمبدأ القائل: المتصوف هو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله. وله تعبيرات صوفية شهيرة وشطحات معروفة. وقد توفي في سنة 297ه، ومن مؤلفاته كتاب «السر في أنفاس الصوفية»، ويوجد في مصر. (8)
الحلاج، هو الحسين بن منصور، ولد في فارس وكان جده مجوسيا ثم اعتنق الإسلام، وقد شب الحلاج في واسط ثم رحل إلى بغداد، وفيها التقى بكثير من المتصوفين من بينهم سفيان الثوري، ثم سافر إلى الهند فأقام بها زمنا، وبعد عودته أدى فريضة الحج ، ثم مكث زمنا بمكة راض فيه نفسه على الزهادة والتنسك، ثم رجع إلى بغداد، وكان ذلك في عهد الخليفة المقتدر.
كان الحلاج شغوفا بكثرة الاطلاع، وكان عقله سهل الانتقال من رأي إلى رأي، فإذا ثبت لديه صحة الرأي أسرع إلى اعتقاده وإعلانه، ولذلك قال له أحد أساتذته يوما ما معناه: يا أبا منصور، ليس بعيدا ذلك الوقت الذي يحمر فيه النطع من دمك!
اشتهر الحلاج وعلا صيته، ونسب إليه في خراسان وبغداد كلام يخالف ظاهر الشريعة، فأثار ذلك عليه حقد العلماء، فأبلغوا عنه الخليفة، واستشهدوا على كفره بمستند موقع عليه من عدد كبير من القضاة والفقهاء، فأمر الخليفة بالقبض عليه وألقى به في السجن ثمانية أعوام، وفي نهاية هذه المدة جدد العلماء الشكوى في حماسة أعظم من الأولى وطالبوا بقتله، فأجابهم الخليفة إلى سؤلهم وأمر بتسليمه إلى الجلاد.
وقد سرد فريد الدين الفارسي قصة تعذيبه، ولعلها من موضوعات المتصوفة الكلاميين ليشنعوا بها على علماء الدين الذين يحافظون على آداب التعبير في الأمور الاعتقادية، قال: «أصعد الجلاد الحلاج فوق منصة عالية تحوط به الجماهير الغفيرة من عامة الشعب ملقية عليه الأحجار والأوحال، وهو لا ينفك عن تكرير تلك الكلمة التي كانت السبب في قتله وهي: «أنا الحق والحق أنا.» ولما طلب إليه أن ينطق بالشهادة صاح مخاطبا الإله قائلا: «إن وجودا أنت فيه غير محتاج إلى مشعل ينيره.» ولعل معنى هذه الكلمة أن وجود الله واضح وليس محتاجا إلى أن يؤيده الحلاج بشهادته، ولما سئل: ما هي الصوفية؟ أجاب بقوله: «هي ما لا تستطيعون أن تفهموه.»
فأخذ الجلاد يضربه بالسوط وهو يبتسم، فلما فرغ من ضربه قطع يديه ورجليه فقابل ذلك بالابتسام، وجعل يلطخ وجهه بدم ذراعيه المتدفق، ولا يدري أحد ما حكمة ذلك عنده، ثم فقأ الجلاد عينيه، وفي اللحظة التي هم الجلاد فيها بقطع لسانه كان هذا اللسان ينطق بالاستغفار لذلك الجلاد ومن اشتركوا معه في تعذيبه، وبعد موته أحرقوا جثته وألقوها في نهر دجلة، وقيل إن رأسه أرسل إلى خراسان.» وقد صور الأستاذ الدكتور العناني الحلاج بصورة أنزل كثيرا من الصورة التي يرويها الأستاذ «كاردي فو».
أما مذهبه فكان وحدة الوجود بعد أن اختلطت بشيء من تعاليم الإسماعيلية، وكان الحلاج يصرح بهذا كثيرا، فيقول: «أنا الأول والآخر والظاهر والباطن، أنا الحق والكل، ووجودي غير محتاج إلى دليل؛ لأني في كل شيء مقيم.» إلى آخر ذلك.
ومن هؤلاء المتصوفة الذين عاشوا في العصر الأول غير من ذكرنا: محمد بن علي الحسين وأبو بكر دلف بن جحدر الشبلي ومحمد بن الجبار النفاري.
أما الطبقة الثانية من المتصوفة فقد عاشت فيما بين القرنين: الخامس والسابع.
نشأة وحدة الوجود
زعم متأخرو الصوفية أنهم تلقوا وحدة الوجود عن بعض آيات القرآن، وهي تعبيرات الزهاد الأولين، وعن قول الأشعرية بأن جميع الحوادث الكونية أفعال إلهية محضة، وعن عبارات البسطامي والحلاج وأمثالهما من الوحديين الذين لم ينقصهم في هذا المذهب إلا الاسم الفني، ولكنهم استمدوها في الحقيقة - فيما يرى الأستاذ ماسينيون - من مزج فكرة النور المحمدي، الذي هو عند الكثيرين مبدأ الخلق بفكرة العقل الفعال الهيلينية، ويقرر هذا الأستاذ أن ابن عربي هو أول من صرح تصريحا قاطعا بهذا المذهب وأعلن أن جميع الكائنات انبثقت عن العالم الإلهي الذي سبق وجودها فيه - وهو المعروف بالثبوت - وجودها الخارجي، وأن الأرواح بعد الموت تعود إلى الجوهر الإلهي، وأن الفرغاني والجيلي لم يدخلا على هذه النظرية إلا تعديلات طفيفة، وأنها لا تزال إلى اليوم عقيدة المتصوفين الإسلاميين، كما لا تزال موضع تغني الشعراء الفارسيين، بل إن الكوراني والنابلسي قد أهاجا في القرن السابع عشر سخط أهل السنة حين أعلنا أن وحدة الوجود هو المعنى الصحيح الدقيق الذي ينطبق على وحدانية الإسلام، وأكثر من ذلك أن الجيلي وابن عربي قد قررا أن «الشهادة» معناها حلول الإله في جميع مخلوقاته، وهذا ما يقتضي أن تكون مجموعة الكائنات في جميع أحوالها جديرة بالعبادة؛ ولهذا حكم الجيلي برد شرف إبليس، وحكم ابن عربي برد شرف فرعون.
1
أما نحن فنرى أن من البواعث التي حملتهم على تشرب فكرة وحدة الوجود أنهم لما اعتقدوا أن أسلافهم قد اتصلوا بعالم الملكوت على إثر قطع علاقاتهم بالمادة أيقنوا أن المادة لم تكن إلا حجابا بين الفرع الذي هو النفس البشرية والأصل الذي هو الإله، وإذا كان ذلك هكذا، كان الكل صادرا عن الباري، وما عاد إلى مصدره استضاء، وما ابتعد أظلم، وما منشأ ظلمة المادة إلا ابتعادها عن مصدرها الذي هو الكل الأوحد. ولا ريب أن هذا هو مذهب الأفلاطونية الحديثة وقد أدخل عليه المتأخرون منهم بعض تغييرات أخذوها من فرقتي الإسماعيلية والرافضة، مثل القول بقطب الوقت المتصرف في شئون الكون وما شاكل ذلك، وفي هذا يقول ابن خلدون: «إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة وملئوا الصحف منه، مثل الهروري في كتاب «المقامات» له وغيره، وتبعهم ابن عربي وابن سبعين وتلاميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم، وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية والمتأخرين من الرافضة المنادين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة، وهو مذهب لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه رأس العارفين، يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان.»
2
تفصيلات عن أعيان المتصوفة
أوصل المؤرخون طبقات المتصوفين إلى عشرين طبقة، وذكر أسماء أفراد كل طبقة ومؤلفاتهم، ولما كان ما يعنينا هنا هم أشهر مشاهير للصوفية لا جميع أفراد طبقاتهم، فقد آثرنا أن نلم بأولئك الأفذاذ حسب ترتيبهم الزمني، مغضين عن الطبقات التي احتوتهم، وعن الأمكنة التي عاشوا فيها، وإليك هذه الإلمامات، بالإضافة إلى ما قدمنا عنهم قبلا. (1) سفيان الثوري
هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، وقد ولد فيما بين سنتي 95 و97ه/713 و715م، ولما نشأ تلقى الحديث على والده الذي كان أحد مشاهير علماء الكوفة، والذي توفي حوالي 126ه، ولما تم الأمر لبني العباس كان سفيان أحد الذين أرادوا أن يعلنوا كراهتهم للحكم الحاضر برفضهم مناصب الدولة التي عرضتها عليهم السلطات الجديدة، وفي سنة 150ه عرض أبو جعفر على سفيان منصب القضاء فرفض وفر إلى اليمن، ولكن حكومة بغداد جعلت تتعقبه، فأحس بذلك فارتحل إلى مكة، غير أن أمير مكة محمد بن إبراهيم تلقى أمرا من الخليفة بتعقبه، ويقول بعض المؤرخين: إنه كان أمر بقتله، ولعل هذه إشاعة منشؤها أن الشعب في ذلك العهد كان يتندر في الخفاء بأوامر العباسيين قائلا: إذا عثرت عليه فاصلبه! إلا أن النووي وابن حجر يؤكدان أنه كان أمرا جديا.
ومهما يكن من شيء فإن سفيان قد تنبه إلى ذلك قبل فوات الفرصة، ففر إلى البصرة، وفيها اختبأ في منزل أحمد بن سعيد، وهناك نصح له بعض أصدقائه أن يحسن علاقته بالقصر، وبالفعل بدئ في المفاوضات بينه وبين بغداد، ولكنه مرض قبل تمامها، وتوفي في شعبان سنة 161ه/سنة 778م.
هذا هو ما يحدثنا به التاريخ عن ذلك المتنسك، ولكن حياته قد أحيطت بسياج من الخرافات.
ومن غرائب الأمور أن بعض المؤرخين يضعونه في الصف الأول ويقدمونه على مالك بن أنس، وأن الذهبي يدعوه بالحجة والثبت على الرغم من أنه كان من كبار المدلسين في عصره، فكان مثلا يعزو بعض الروايات في الحديث إلى شخصيات عظيمة لم يتلقها عنهم، بل تلقاها عن وثائق غير موثوق بها، وقد ذكر لنا الفهرست عددا من مؤلفاته كالجامع الكبير والجامع الصغير والفرائض، ولكن لم يبق شيء من هذه الكتب، ويروي بعض المؤرخين أن الثوري أنبه ضميره قبل موته على هذا التدليس فكلف أحد أصدقائه بإحراق كتبه.
كان سفيان من كبار فقهاء عصره، بل إنه حاول إنشاء مذهب، ولكنه لم يوفق في ذلك، وكان من أهل السنة الذين يؤمنون بالصفات وبأن القرآن غير مخلوق، وبأن علائم الإيمان القول والعمل والنية، وأنه يمكن أن يقوى ويضعف، وأن أبا بكر وعمر مقدمان على «علي»، وله آراء أخرى مثل قوله بصلاة الجمعة والعيدين خلف أي إمام، وبالعناية باختيار الإمام في الصلوات الأخرى، وقوله بتفضيل الإسرار بالبسملة على الجهر بها وبجواز المسح على الخفين بدون ضرورة وبوجوب الخضوع للسلطان عادلا كان أو ظالما.
على أنه لم يرتب أحد في أنه كان يباشر التصوف العملي بين جماعة من رفاقه، منهم السيدة رابعة العدوية المتوفاة بالبصرة في سنة 135ه. (2) المحاسبي
هو أبو عبد الله الحارث بن أسد العنزي، وقد ولد بالبصرة، ولم يحدد التاريخ الذي بين أيدينا سنة مولده، ولما نشأ تلقى الفقه على علماء الشافعية فكان أحد أعلامهم، وتبحر في علم الكلام وكان فيه من أنصار العقل، ولكنه كان يستخدم مفردات المعتزلة ومنطقهم لمهاجمتهم، وأخيرا اعتزل الحياة العامة، وألقى بنفسه بين أحضان التنسك، بعد أن تأمل ردحا من الزمن فيما هو قادم عليه، كما وصف ذلك بإسهاب في وصاياه، وقد اشتهر بالزهد القاصي في عصره، حتى لقد قيل: إنه كان إذا اشتهى لونا من ألوان الطعام ومد إليه يده، تحرك في أصبعه عرق إنذارا له، فيمتنع عنه، وقد أطلق عليه لفظ المحاسبي لكثرة محاسبته نفسه على ما يأتيه من أعمال.
غير أن هذا الزهد لم يحل بينه وبين الاستزادة من العلوم الظاهرية والارتواء منها، بل إن مؤلفاته ومناظراته في علم الكلام قد احتوت من النظريات والمجادلات ما أحنق عليه فقهاء عصره كما حنقوا على جميع علماء الكلام، وقد ظهر هذا الحنق في حملة أحمد بن حنبل وأنصاره على أولئك العلماء، تلك الحملة التي كان من نتائجها أن اضطهد المحاسبي وانقطع عن المجالس العلمية العامة في سنة 232ه واعتزل الحياة كلها زهاء عشرة أعوام، وأخيرا توفي في عزلته في سنة 243ه/سنة 857م.
أما مؤلفاته فمن أهمها ما يلي: (أ) «الرعاية لحقوق الله» وهو كتاب في المبادئ التي يجب على المتصوفة اتباعها، وهو واحد وستون فصلا في صورة نصائح مملاة على أحد المريدين، ويعد منهجا كاملا للإرشاد النفساني، وقد عكف الغزالي - قبل أن يؤلف كتاب الإحياء - على العمل بما فيه زمنا طويلا، وظلت تعاليمه ذائعة في بيئات الصوفية ولا سيما الطريقة الشاذلية عدة من قرون، رغم ما وجه إليه من حملات الخصوم، وهذا الكتاب يوجد في مصر. (ب) «رسالة في المبادئ العشرة الموصلة إلى السعادة»، ويوجد في برلين. (ج) «شرح المعادن وبذل النصيحة»، ويوجد في برلين. (د) «البعث والنشر»، ويوجد في باريس. (ه) «رسالة في الأخلاق»، وتوجد في مكتبة محمد علي باشا الإسلامبولي. (و) كتاب «التوهم». (ز) «ماهية العقل ومعناه». (ح) «رسالة في العظمة». (ي) «رسالة في فهم الصلاة».
شيء من آرائه:
يعد المحاسبي أول صوفي سني دلت مؤلفاته على ثقافته الواسعة في علم الكلام، ومن آيات هذه الثقافة ذلك المنهج الذي وضعه للبحوث النفسانية، والذي أظهر أنه من الممكن تحقيق صلة بين أفعال الأعضاء الخارجية ونيات القلوب، فأبان أن سلسلة الأحوال يمكن أن تنتهي إلى نقاء كامل على شرط أن يخضع الشخص لقاعدة الحياة التنسكية والأخلاقية، وأن هذه هي الرهبانية الحقة، وقد خالف بهذا الرأي أبا الهزيل وأكثر المتكلمين في عصره، فحملوا عليه، وانضم إليهم الفقهاء وأهل الحديث بحجة أنه ضل حين فرق بين الإيمان والمعرفة، وبين العلم والعقل، وحين أقر خلق اللفظ، وقال بأن المختارين في الجنة سيدعون إلى الاستمتاع بالذات الإلهية.
1
غير أن هذا لم يمنع الأشعرية من أن يجلوه ويعدوه القبس الأول لمذهبهم الذي لم يجمد كما الذين لم يفرضوا للعقل وجودا، ولم يسرف كما أسرف الذين نبذوا كل ما عدا العقل. (3) القشيري
ومن أشهر المتصوفة عبد الكريم أبو القاسم القشيري المولود في سنة 376ه في خراسان من أسرة يرجع تاريخ استقرارها في تلك البلاد إلى عهد الفتح الإسلامي، ولما شب ذهب إلى نيسابور ليتلقى فيها العلم، فالتقى هناك بأبي علي الدقاق كبير أستاذة المتنسكين في تلك المدينة في ذلك العصر وأخذ يختلف إلى دروسه، فدفعه هذا الأستاذ في طريق الصوفية ثم زوجه ابنته، وفي سنة 437ه ألف رسالته القشيرية الشهيرة، وفي سنة 448ه ارتحل إلى بغداد، وهناك جعل يلقي دروسا في السنة والفقه على مذهب الإمام الشافعي، ثم عاد إلى نيسابور، وتوفي فيها في سنة 465ه.
أما أهم مؤلفات القشيري في التصوف فهما كتابان، وهما : الرسالة القشيرية، والترتيب في طريق الله؛ لأن الأولى سجلت عن الصوفية الذين سبقوا مؤلفها أوثق المعارف، وهي بهذا تعد في مقدمة المصادر المعتمدة عن التصوف والمتصوفين، وعنده أن الغزالي مدين لهذه الرسالة بالشيء الكثير، كتب القشيري هذه الرسالة إلى طوائف الصوفية في جميع بلاد الإسلام، فترجم فيها لاثنين وثمانين شيخا من شيوخهم بعد أن أعلن تشاؤمه بما آل إليه مصير هذه الطائفة في عصره فقال: «اعلموا رحمكم الله أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم، ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم، كما قيل:
أما الخيام فإنها كخيامهم
وأرى نساء الحي غير نسائها
حصلت الفترة في هذه الطريقة بل اندرست بالحقيقة.»
تنقسم هذه الرسالة إلى قسمين أساسيين؛ فالأول عني بالأحوال التنسكية التي منحها الصوفية من قبله اهتماما عظيما وحددوها تحديدا دقيقا. والقسم الثاني عني بأخلاق المتصوفين.
ومما ذكر في القسم الأول أحوال الاضطراب والانقباض والانبساط، والفراق والاجتماع، والذكر والسكر.
وهذه العبارات في ذاتها - كما يلاحظ الأستاذ كارادي فو - كانت واضحة بسيطة لا تخرج عن شرحها عواطف النفس في حالة قربها من الإله، ولكن المتصوفين قد عقدوها بما وضعوا لها من تعريفات متعملة.
اهتم القشيري في هذه الرسالة على الأخص بالأحوال دون المقامات إلا أنه رغم ذلك ذكر من هذه الأخيرة ثلاثة: الأول مقام التوحيد، والثاني مقام الوجد، والثالث مقام الوجود. وهذا الأخير هو الغاية العليا.
أما الأخلاق الصوفية فقد بدأها بمقدمة عن حياة الزهادة قال فيها: إن مبدأ هذه الحياة هو الندم، وهو ثلاث درجات؛ التوبة، والإنابة، والأوبة. وبعد ذلك وصف سلوك المتنسكين ومشاعرهم، فذكر الإجلال والمجاهدة والخلوة والعزلة والمراقبة والصبر والشكر والخوف والرجاء. وأخيرا ذكر الفضائل الضرورية للصوفي، وهي؛ الصمت والاستهانة بالنفس والخشوع والتوكل، وما إلى ذلك.
أما الكتاب الثاني فهو كمنهج للمبتدئين في التصوف، وقد كان لهذين الكتابين أثر عظيم في عصرهما وفي العصور التي تلته. (4) عبد القادر الجيلاني
ولد عبد القادر الجيلاني في جيلان في سنة 470ه من أسرة تنتسب إلى علي، وقد سجلت أخيلة الشعب حول طفولته وشبابه كثيرا من الخرافات، فنبأتنا إحداها بأنه كان إذا حل شهر رمضان انقطع عن الرضاع، وذكرت لنا خرافة أخرى أنه حين اتجه إلى بغداد في الثامنة عشرة من عمره، عرض له الخضر وحال بينه وبينها سبعة أعوام، وبعد أن زال خوفه عليه من فتن تلك المدينة الزاخرة بالشكوك والريب سمح له بالدخول.
أما التاريخ الحقيقي، فهو يحدثنا أنه حين شب توجه إلى بغداد ليدرس فيها الفقه على مذهب الحنابلة، وكان ذلك في سنة 488ه، ثم التقى هناك ببعض الصوفية فأخذ عنهم الطريق، وفي سنة 521ه بدأ يلقي دروسا على الجماهير في الوعظ والإرشاد، ثم اشتهر بالصلاح والتقوى، وعلى إثر ذلك نسبت إليه كرامات كثيرة وعبارات لم يقلها وآراء لم يعتقدها، فمن ذلك مثلا ما حدثتنا به إحدى الخرافات من أنه كان يقول: إن الأحوال الصوفية عندي كأثواب معلقة في حجرة ألبس منها ما أشاء، أو يقول: إذا سألتم الله شيئا فاسألوه باسمي؛ فإني رئيس الملائكة والأناسي والجن، أو يقول: أيها المريد، سافر ألف سنة، لتسمع كلمة من فمي. أو يحدثنا عن نفسه فيقول: «كنت وأنا ابن عشر سنين في بلدنا أخرج من دارنا وأذهب إلى المكتب سمعت الملائكة عليهم السلام تمشي حولي، فإذا وصلت إلى المكتب سمعت الملائكة يقولون: افسحوا لولي الله حتى يجلس، فمر بنا يوما رجل ما عرفته يومئذ، فسمع الملائكة يقولون ذلك، فقال لأحدهم: ما هذا الصبي؟ فقال له أحدهم: هذا من بيت الأشراف، قال: سيكون لهذا شأن عظيم؛ هذا يعطى فلا يمنع، ويمكن فلا يحجب، ويقرب فلا يمكر به، ثم عرفت ذلك الرجل بعد أربعين سنة فإذا هو من الأبدال في ذلك الوقت.»
2
أو كقوله: «كنت صغيرا في بلدنا فخرجت إلى السواد في يوم عرفة وتبعت بقرة حراثة، فالتفتت إلي بقرة وقالت: يا عبد القادر، ما لهذا خلقت ، فرجعت فزعا إلى دارنا وصعدت إلى سطح الدار فرأيت الناس واقفين بعرفات، فجئت إلى أمي وقلت لها: هبيني لله عز وجل، وأذني لي في المسير إلى بغداد أشتغل بالعلم وأزور الصالحين، فسألتني عن سبب ذلك فأخبرتها خبري.»
3
هذا نموذج مما نسب زيفا إلى الجيلاني وأثبت في بعض الكتب المنتحلة ككتاب «قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر» وهو كتاب ألفه محمد بن يحيى التادفي الحنبلي، وليس فيه ما يعتمد عليه، ولكن بهامشه رسالة حقيقية كتبها الجيلاني وعنوانها: «فتوح الغيب» وبمطالعتها يرى الباحث التناقض المدهش القائم بين العبارات المفعمة بالكبرياء والغرور المثبتة في الكتاب المزيف، والعبارات المتواضعة المفعمة بالتقوى المثبتة في هذه الرسالة؛ كقوله مثلا:
اتبعوا ولا تبتدعوا، وأطيعوا ولا تمرقوا، ووحدوا ولا تشركوا، ونزهوا الحق ولا تتهموا، وصدقوا ولا تشكوا، واصبروا ولا تجزعوا، واثبتوا ولا تنفروا، واسألوا ولا تسأموا، وانتظروا وترقبوا ولا تيأسوا، وتآخوا ولا تتعادوا، واجتمعوا على الطاعة ولا تتفرقوا، وتحابوا ولا تباغضوا، وتطهروا عن الذنوب وبها لا تتدنسوا ولا تتلطخوا، وبطاعة ربكم فتزينوا، وعن باب مولاكم فلا تبرحوا، وعن الإقبال عليه فلا تتولوا، وبالتوبة فلا تسرفوا، وعن الاعتذار إلى خالقكم في آناء الليل وأطراف النهار فلا تملوا، فلعلكم ترحمون وتسعدون، وعن النار تبعدون، وفي الجنة تحبرون، وإلى الله توصلون.
4
أو قوله: ... مع حفظ لحدود الأوامر والنواهي، فإن انخرم فيك شيء من الحدود فاعلم أنك مفتون متلاعبة بك الشياطين، وارجع إلى حكم الشرع، ودع عنك رأي الهوى؛ لأن كل حقيقة لم تشهد لها الشريعة فهي زندقة.
5
وأخيرا توفي في سنة 561ه/1165م.
أما مؤلفاته فكثيرة، منها: «فتوح الغيب» و«الفتح الرباني» و«الغنيمة لطالبي طريق الحق» و«جلاء الخاطر» وغيرها. (5) أبو نجيب السهروردي
ولد أبو نجيب السهروردي في مدينة سهرورد حوالي سنة 491ه من أسرة تنتمي إلى أبي بكر الصديق، ومنذ طليعة شبابه ارتحل إلى بغداد وتخصص في دراسة الفقه، وبعد أن أتم دراسته ارتحل إلى «أصبهان» وكان قد بدأ يتصوف، فاحترف السقاية ليعيش من عرق جبينه، وفي هذه الآونة اشتهر بالتقوى، ووقف كل أوقات فراغه على الذكر وإرشاد المريدين، فنال احترام الجماهير، وبنى أهل المدينة له ولمريديه عدة من الملاجئ، وبعد ذلك عاد إلى بغداد واشتغل فيها بتدريس السنة لعدد كبير من التلاميذ.
وفي سنة 558ه ارتحل إلى دمشق، فخلع عليه نور الدين زنجي خلعا فاخرة، وأخيرا عاد إلى بغداد فاستقر فيها حتى توفي بها في سنة 564ه.
أما مؤلفاته فلم يأتنا من أنبائها إلا نبأ كتابيه: «آداب المريدين» و«شرح أسماء الله الحسنى»، ولم يرد فيهما من الآراء ما يؤخذ على مؤلفهما، وبهذا يبين أنه كان من المتصوفين العمليين، أو من قسم السنيين الذين لم يتأثروا بالفلسفة في نظرياتهم التنسكية. (6) عمر السهروردي
ولد أبو حفص شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في سهرورد في سنة 539ه، وهو ابن شقيق أبي نجيب السهروردي السالف الذكر، ولما نشأ تتلمذ على عمه وعلى الشيخ عبد القادر الجيلي، وبعد أن أتم معارفه عين شيخ الشيوخ في بغداد، وأخيرا توفي في سنة 631ه بعد حياة طويلة حافلة بالعلم والعمل.
كان السهروردي من طراز أبي حامد الغزالي في حملته على الفلسفة الإغريقية ومناصرة الشريعة الإسلامية عليها؛ ولهذا كان من فصيلة عمه.
أما مؤلفاته، فمن أهمها: كتاب «كشف الفضائح اليونانية»، وليس في حاجة إلى التعليق؛ فعنوانه يوضح ما فيه، وكتاب «عوارف المعارف» وهو من المصادر الهامة لآراء مؤلفه وللأخلاق التنسكية الخاصة بطوائف الصوفية.
آراؤه: للقوى الإنسانية عند السهروردي ثلاث درجات؛ علياها الروح وهي متجهة إلى العالم اللامحس، ودنياها النفس وهي متجهة إلى العالم المحس، وبينهما القلب وهو صالح للاتجاهين الأعلى والأدنى، فقبل أن يتم نوره يكون اتجاهه موزعا بين القوتين: العليا والدنيا، ولكنه عندما تتم إنارته يتجه بكليته إلى الروح فيتصل بالعالم الروحاني، وفي هذه الحالة تنجذب النفس إلى القلب، وعلامة اتجاه النفس إلى القلب هي إحساسها بالهدوء.
وكما أبان السهروردي درجات القوى الإنسانية شرح كذلك الفرق بين الحال والمقام في التصوف فقال: إن الشيوخ لم يتفقوا في هذه المسألة على رأي قاطع؛ لأن ما هو حال عند البعض قد يكون مقاما عند البعض الآخر، ولكن أوضح الفروق بين الحال والمقام هو أن الحال متغيرة والمقام ثابت، وأن الحال إذا ارتقت صارت مقاما، وأن الحال موهوبة والمقام مكتسب بمجهود الفرد.
وقد ذكر السهروردي عددا من الأحوال والمقامات؛ فمن الأحوال: الحب والشوق، والأنس والإجلال، والانقباض والانبساط، والقرب والبعد، والاجتماع والانفصال، والبقاء والفناء.
ومن المقامات: الزهد والصبر، والخوف والرجاء، والتوكل والتواضع.
وأهم ما أثر عن هذا الصوفي بعد الذي أسلفناه هو آراؤه الأخلاقية التي تمثل الصوفي الحقيقي أصدق تمثيل، والتي هي إلى الديانتين: البوذية والمسيحية أقرب منها إلى الإسلام، فمن ذلك مثلا أنه كان يجل التواضع إلى حد المهانة التي حمل عليها الإسلام في عنف، وكان يغالي في الرحمة والصفح عن مهينيه إلى حد التمثل بقول التعاليم المسيحية: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر.» وكان يدعو كذلك إلى احتمال كل ما يجيء من الآخرين. ومما أثر عنه قوله: «لو أحب الناس بعضهم بعضا وقدروا ما في الإحسان من الخير لاستغنوا عن العدالة؛ إذ العدالة أدنى مرتبة من الرحمة، ولا تستعمل الأولى إلا عند غيبة الثانية، وإن من ينفذ أوامر الرحمة أسمى ممن ينفذ أوامر القانون؛ لأن إطاعة القانون خارجية، أما إطاعة الرحمة فهي داخلية.» (7) يحيى السهروردي
حياته: هو شهاب الدين يحيى السهروردي، ولا يعرف التاريخ الصحيح شيئا عن مولده وطفولته، وإنما هو يقدمه إلينا شابا مشردا بين بغداد وأصبهان وحلب، ثم ينبئنا هذا التاريخ بأنه بينما كان السهروردي يطوف هذه البلاد الإسلامية ناشرا مذهبه بلغ أمره صلاح الدين، ونقل إليه أنه ضال مضل يبدل في دين الله ما شاء له هواه، فبعث إليه ابنه أن يقتله ففعل، وكانت وفاته في سنة 587ه، وكان عمره إذ ذاك ثمانية وثلاثين عاما، وقد جعل ذلك المؤرخين يستنتجون أنه ولد حوالي سنة 549ه، ولا يزال قبره يزار إلى الآن، وتسميه الجماهير بالشيخ المقتول.
مؤلفاته: أما مؤلفاته فأهمها: كتاب «حكمة الإشراق» وكتاب «هياكل الأنوار» وكتاب «التلويحات». والكتابان الأول والثاني من هذه الكتب يعدان أهم مؤلفاته؛ لأن آراءه النظرية قد ظهرت فيهما واضحة وضوحا يجعلنا نلمس أنه متأثر في مذهبه بحلولية الأفلاطونية الحديثة التي ظهر أثرها من قبل في الحلاج ومن هم على شاكلته، وقد حلل الأستاذ «كارادي فو» هذين الكتابين فقال ما ملخصه:
إن الفكرة الأولى التي تلهمنا إياها مطالعة هذين الكتابين هي أن الفلسفة ولا سيما التنسكية منها قد انبثقت من إلهام هو موجود منذ بدء العالم، أي إن جميع حكماء العصور القديمة والحديثة مصريين كانوا أو هنودا أو إغريقيين أو فارسيين أو عبرانيين قد بشروا جميعا تحت صور مختلفة بمذهب هو واحد في أعماقه، وأنهم لم يعرفوا هذا المذهب عن طريق النظر العقلي معرفة أساسية، وإنما عرفوه عن طريق المشاهدة التنسكية والكشف الفوقي الطبيعي.
أما الفكرة الثانية التي تخطر لقارئ هذين الكتابين فهي أنه وجد أيضا في جميع العصور الإنسانية أفراد ذوو معارف بالأسرار ومواهب لاكتشافها، وأن رئيس أولئك الأفراد في كل عصر يدعى بالإمام أو بقطب الوقت، أما الآخرون فهم أعوانه وهم يحملون أسماء مختلفة، وهذا القطب يجب أن يكون أعظم الحكماء المتنسكين في عصره، وإذا تتبعنا تعاليم هؤلاء الأقطاب في جميع العصور كما ينبغي، ألفيناها كلها متفقة في نقطها الأساسية.
وعند السهروردي أن هذا القطب يجب أن يكون إمام الإنسانية ورئيس العالم كله.
مذهبه: على الرغم من الاختلاف في الأسلوب والتعبيرات، يلاحظ الباحث أن مذهب السهروردي لا يخرج عن كونه نسيجا محكما على منوال مدرسة ابن سينا الإشراقية المتأثرة بالأفلاطونية الحديثة.
ينقسم العالم عند السهروردي إلى قسمين: عالم النور، وعالم الظلام، فالأول هو العالم الروحاني الأعلى المنير، وعلى رأسه الإله الذي يدعوه بنور النور، ويلي هذا الإله في المكانة عقول الكواكب، وهو يسميها الأنوار القاهرة أو الحاكمة أو السائدة، وتليها العقول الأخرى ويسميها الأنوار فقط.
والثاني هو عالم المادة والوضاعة والرداءة، وأشخاص هذا العالم تدعى عنده بالأوثان أو بالبرازخ.
وكيفية صدور الموجودات عن الإله هي أنه قد انبثق إشراق واحد من نور النور، وهذا الإشراق الأول، أو النور الحاكم الصادر عن الإله هو عين ما كان ابن سينا يدعوه بالمعلول الأول، وهذا النور على إثر صدوره ينظر إلى بارئه وإلى ذاته فيجد نفسه مظلما بالنسبة إلى الإله، ومن هذا ينشأ البرزخ الأول، وهو ما كان ابن سينا يسميه بجسم الفلك الأول أو الفلك المحيط، وعلى هذا النظام تصدر الأنوار والبرازخ الأخرى، وهذه البرازخ تتحرك بتأثير الأنوار حركة تجعل الأنوار قاهرة والبرازخ مقهورة، وهكذا يظل النور ينتشر نازلا حتى يعم عالمنا على النهج الذي رأيناه في العالم الأعلى، أي إن كل عقل إنساني يمثل في برزخه العقول العليا في برازخها.
لم يسلك السهروردي الأنهاج الفلسفية فيما يتعلق بنشأة الكون فحسب، وإنما سلكها أيضا في مشكلة الصدور العام، وهي مشكلة «الرياليسم»، «النوميناليسم»، أي الحقيقية والاسمية،
6
فقرر أنه لا يؤيد فكرة المثالية المطلقة، ولا يرى أن للإنسانية أو للحيوانية نموذجا ذا وجود ذاتي، كما قرر أصحاب هذا المذهب؛ لأن الفكرة العامة لا يمكن أن توجد إلا في العقل، إذ لو فرض وجودها في الأفراد لفقدت عموميتها، ولكن ليس معنى هذا أنه لا يوجد غير هذه الأفكار العامة، كلا، بل إن هناك شيئا حقيقيا أسمى من الكائنات المادية وأثبت من الفكر المجردة، إذ كيف يعقل أن الكليات العامة التي هي أرفع من الأشخاص المحسة تنتزع منها؟ وكيف يصدر الأعلى عن الأدنى؟ وكيف يصدر النموذج المثالي من الوثن الوضيع الذي لم يصنع إلا على صورته؟ وإذا، فهناك مبدأ هو الذي يسود أشخاصها ويحددها، وهذا المبدأ هو نور، وهذا النور القاهر الذي يثوي في عالم النور النقي له استعدادات خاصة وصور معينة، وهذه الصور هي صور الحب والسرور والسيادة، وحين يقع ظل هذا النور على عالمنا تنتج منه أشخاص نوعه المرئية، أو أوثانه التي تصير على أثر ذلك أناسي أو حيوانات أو معادن أو طعوما أو روائح، وهذه الصيرورة تقع تبعا للاستعدادات الخفية التي تعد مواد هذه الكائنات لتقبل صور هذا النور، وعلى أثر ذلك توجد الأفكار العامة في العقول.
من هذا يبين أن السهروردي متأثر طورا بالأفلاطونية الحديثة وطورا آخر بالفلسفة الفارسية التي تقسم الكون كله إلى نور وظلام وتخضع الثاني للأول، وتجعله قاهرا له سائدا عليه. (8) ابن الفارض
ولد في القاهرة في سنة 576ه، وتوفي في الأزهر في سنة 632ه، وهي السنة التي توفي فيها عمر السهروردي، وكان في حياته التصوفية فريسة لأنواع كثيرة من الغيبوبة والاضطراب إلى حد أنه كان أحيانا يظل ممتدا على الأرض بضعة أيام دون أن يبدي حراكا، وأحيانا أخرى يتقلب ويتدحرج على سطح الأرض يمينا وشمالا دون أن يعرف أحد ما به، ومن الغريب أنه كان يصنع شعره على أثر هذه النوبات مباشرة.
منتجاته: أما أهم منتجاته فهو ديوانه المفعم بقصائد الحب والغرام والغزل والخمريات، إلى غير ذلك من القصائد التي يقولون إنها موجهة كلها إلى الإله معشوقه الأعلى، ويلاحظ الأستاذ «كارادي فو» أن هذه المعاني - إذا صح أنها متجهة إلى الباري - قد أديت بألفاظ خليعة شهوانية، ومن أشهر أشعاره تائيته التنسكية الطويلة التي يقول فيها.
وعن مذهبي في الحب ما لي مذهب
وإن ملت يوما عنه فارقت ملتي
ولو خطرت لي في سواك إرادة
على خاطري سهوا قضيت بردتي
لك الحكم في أمري، فما شئت فاصنعي
فلم تك إلا فيك، لا عنك رغبتي
وقد أثبت في هذه القصيدة أن الحب هو الوسيلة المثلى للسمو والاتصال بالذات الأوحد، وهو الذي يحقق لصاحبه التفوق على جميع الكائنات، وأن المحب هو سيد الأتقياء وأفضل المتنسكين الذين لا ينشغلون إلا بالزهادة والتقاليد الظاهرية وأرقى من الصنفين المتعارضين، الذي يتبع في حكمه الشرع والذي يتبع العقل.
ومن قصائده الممتازة أيضا قصيدته التي يقول فيها.
شربنا على ذكر الحبيب مدامة
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
وقد كتب بعض المتأخرين شروحا لهذه القصيدة، أقل ما يقال فيها أنها مزيج من مذاهب الشيعة التي لا ترضى بأقل من أن تقحم عليا في كل شيء حتى في مذهب الحلول ووحدة الوجود. (9) محيي الدين بن عربي
حياته: ولد محيي الدين أبو بكر محمد بن علي بن عربي الحاتمي الطائي في مدينة «المورثية» بالأندلس في سنة 560ه، وفي الثامنة من عمره بعثه أهله إلى إشبيلية فدرس فيها الحديث والفقه حتى تضلع فيهما، وفي سنة 599ه قام برحلات واسعة إلى الشرق فزار مصر .
كان ابن عربي يؤمن بوحدة الوجود وإن كان قد أنفق في سبيل حجبها عن الجماهير مجهودا عظيما دفعه إليه حرصه على الحياة بعد ما أفزعته ذكريات الحلاج ويحيى السهروردي.
غير أنه لم يصعب على الخاصة من القدماء ولا على الباحثين من المحدثين أن يستشفوا هذه الوحدية في كثير من عباراته العلمية وقصائده الأدبية، فمن ذلك مثلا قوله في كتاب «الفتوحات» ما يلي:
ومعلوم ثان هو الحقيقة الكلية التي هي للحق وللعالم لا تتصف بالوجود ولا بالعدم ولا بالحدوث ولا بالقدم، إذ هي في القديم إذا وصف بها قديمة وفي المحدث إذا وصف بها محدثة، فلا تعلم المعلومات قديمها وحديثها حتى تعلم هذه الحقيقة، ولا توجد هذه الحقيقة حتى توجد الأشياء الموصوفة بها، فإن وجد شيء من غير عدم متقدم كوجود الحق وصفاته قيل فيها: موجود قديم لاتصاف الحق بها، وإن وجد شيء عن عدم كوجود ما سوى الله تعالى وهو المحدث الموجود بغيره قيل فيها: محدثة وهي في كل موجود بحقيقتها، فإنها لا تقبل التجزؤ فما فيها كل ولا بعض، ولا يتوصل إلى معرفتها مجردة عن الصورة بدليل ولا برهان، ومن هذه الحقيقة وجد العالم بوساطة الحق تعالى، ولم تكن بموجودة فيكون الحق قد أوجدنا من موجود قديم يثبت لنا القدم، وكذلك لتعلم أيضا أن الحقيقة لا تتصف بالتقدم على العالم المعقول، فإن قلت إنها العالم صدقت، أو إنها ليست العالم صدقت، أو إنها الحق أو ليست الحق صدقت، تقبل هذا كله وتتعدد بتعدد أشخاص العالم وتتنزه بتنزيه الحق، وإن أردت مثالها حتى تقرب إلى فهمك فانظر في العودية في الخشبة والكرسي والمحبرة والمنبر والتابوت، وكذلك التربيع وأمثاله من الأشكال في كل مربع مثلا من تابوت وبيت وورقة، فالتربيع والعودية يحققانها في كل شخص من هذه الأشخاص، وكذلك الألوان كبياض الثوب والجوهر والكاغد والدهان والدقيق من غير أن تتصف البياضية المعقولة بالانقسام حتى يقال: إن بياض الثوب جزء منها، بل حقيقتها ظهرت في الثوب كما ظهرت في الكاغد، وكذلك العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وجميع الأسماء كلها.
أقام في مدينة قونية زمنا تزوج أثناءه بسيدة أيم، وهي والدة صدر الدين القوني المتنسك المعروف، ثم عاد إلى سوريا فأقام بها حتى توفي فيها في سنة 638ه، ودفن بالقرب من دمشق، وقد هدم بعض المتعصبين قبره، ولكن السلطان سليم حين فتح دمشق أعاد بناء هذا القبر وأسس بالقرب منه مسجدا جميلا.
مؤلفاته: كتب ابن عربي من المؤلفات عددا أدهش الباحثين المستشرقين إلى حد أن حمل أحدهم وهو الأستاذ «كليمان هوار» على أن يقول: إنها لكثرتها لا يحصرها الخيال، وهي في رأيه تبلغ نحو ثلاثمائة مؤلف، وقد نقل الأستاذ «ماسينيون» عن قائمة ابن عربي المعنونة: «فهرس الكتب المصنفة» أن عدد هذه المؤلفات أربعمائة وتسعة وثلاثون كتابا، وقد عثر الأستاذ «بروكلمان» المستشرق الألماني منها على نحو مائة وخمسين كتابا في مكتبات الشرق والغرب، ومن أهم هذه الكتب ما يأتي: (أ) «الفتوحات المكية»، وهو عرض تام لجميع المعارف الصوفية، ودراسة كاملة لمناهجهم وتعاليمهم في خمسمائة وستين فصلا تقع في اثني عشر جزءا، ويحتوي الفصل التاسع والخمسون بعد الخمسمائة منه على مجمل كامل للكتاب كله، وقد كتب الشعراني المتوفى في سنة 973ه/1566م ملخصا هاما لهذا الكتاب، وحين طلب ابن عربي إلى ابن الفارض أن يكتب شرحا لتائيته أجابه بأنه لا يعرف شرحا خيرا من الفتوحات. (ب) «فصوص الحكم»، وقد عرض فيه للرسل الخمسة والعشرين وأهميتهم، وادعى أنه لم يكتب عن أي رسول منهم إلا بعد ظهوره له، وقد أتمه المؤلف في دمشق في سنة 627ه، وطبع مع شرح بالتركية في بولاق في سنة 1252ه، ثم أخذت منه صورة شمسية بالقاهرة مع شرح عبد الرازق القاشاني في سنة 1309 ثم في سنة 1321ه. (ج) «محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار»، وهو مجموعة من النكت والملح والنوادر في الأدب، طبع في القاهرة في سنة 1282 ثم في سنة 1305ه. (د) «مشاهد الأنوار القدسية». (ه) «الأنوار». (و) «إنشاء الدوائر»، وقد عرض فيه مؤلفه لبيان خلق الإنسان في العالم، (ز) «حلية الأبدال». (ح) «كيمياء السعادة». (ط) «الإفاضة» من الفتوى أنواع المعرفة الثلاثة الأساسية وهي معرفة الله، والعالم العقلي، والعالم الحسي. (ي) «ترجمان الأشواق»، وهو مجموعة قصائد صوفية يوهم ظاهرها أنها غزل ووصف لحب مادي، وقد كتب لها شرحا دفع به هذه التهمة التي قد وجهها السطحيون إلى كتابه. (ك) «كتاب الأمر المحكم»، طبع مع ترجمة تركية في الأستانة في سنة 1300ه. (م) «التجليات الإلهية». (ن) «تاج الرسائل ومنهاج الوسائل». (س) «تفسير سورة الضحى». (ع) كتاب الأجوبة على الرسائل «المنصورية». (ف) «أنا القرآن والسبع المثاني»، وهي قصيدة عصماء قد احتوت من الآراء التصوفية والوحدية ما لا يستهان به. (ص) «الرسائل الإلهية»، قد طبع في القاهرة في سنة 1325ه. (ق) «مواضع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم»، طبع في القاهرة في سنة 1325ه. (ر) «كتاب الأخلاق»، طبع في القاهرة بدون تاريخ. وله كذلك من الكتب الفلسفية والتاريخية والأخلاقية ما لو حاولنا الحديث عنه لطال بنا المدى، فآثرنا أن نقف عند هذا القدر، معلنين أن هؤلاء الرجال الأفذاذ كان لهم على الحركة العقلية الشرقية والنهضة الأوربية أثر غير ممكن الجحود. أما وحدة الوجود، فقد عرض ابن عربي في كتابه «فصوص الحكم» لكثير من النظريات الفلسفية، ولكنه لكي يكون في مأمن من مهاجمة المتعصبين قد مزج بتاريخ كل نبي من الأنبياء الذين تناول الكتابة عنهم في هذا السفر شيئا من هذه النظريات، ليضعها تحت حماية ذلك النبي على نحو ما يعبر أحد المستشرقين، فمن ذلك مثلا نظرية صدور العالم التي مزجها بتاريخ آدم فقرر أنه قد وقع فيضان: الأول هو الذي وجدت المادة المستعدة لتقبل الصور ثم أعدها لقبول الحياة الإلهية، والثاني هو الذي أنتج الوجودات الشخصية بإظهار الكائنات التي أريدت بهذا الإعداد، وعن الفيض الأول نتجت الجواهر المعينة أو الكليات واستعداداتها المحددة لها في العلم الإلهي، وعن الثاني نتج التحقق الخارجي لهذه الأشياء ونتائجها المرادة منها.
وعنده أن هذا الفيض هو الحدث الذي به ينتج الفضل الإلهي نور الوجود في كل جوهر يستقبل الكائن دون أن يحصل انفصال بين الصورة المدركة في علم الله والإله نفسه كما تستقبل المرآة صورة الإنسان دون أن ينفصل من هذا الإنسان وجهه المنعكس على المرآة، وإذا، فصدور الخلق عند ابن عربي هو شبيه بانعكاس المعلومات الإلهية على مرآة، وآدم هو عنده رمز لروح العالم أو هو لمعان هذه المرآة؛ إذ إن الله أوجد العالم قبل آدم، ولكنه كان وجودا غير حقيقي، أي إنه كان ظلا محضا أو وجودا عاديا لا روح فيه ولا حياة، كوجود الحمأ الذي صنع منه جسم آدم قبل نفخ الروح فيه، فلما وجد آدم ظهر الوجود الحقيقي للعالم، ومن ذلك يبين أن آدم هو المبدأ النوراني اللطيف الذي أتم الإله به الوجود ومنحه حقيقته، كذلك أيضا أن غاية الإله من إيجاد العالم هي أن يرى فيه جوهره الخاص، وآدم هو المبدأ الروحاني الذي به تحققت هذه الرؤية، فكان بالنسبة إلى الإله كالإنسان للعين.
7
الزهد والتصوف
ينبغي أن نذكر هنا أن في التصوف - وهو من أروع صور الزهد - في الإسلام، تتمثل تلك الصورة في حياة وآداب طائفة من الصوفية يعرفون بالملامتية أو بالملامية على حد قول بعضهم، ظهرت طائفة الملامتية في القرن الثالث الهجري في ابتداء العصر الذهبي من عصور التصوف الإسلامي بمدينة نيسابور بخراسان - وخراسان مهد الفرق والاختلافات الدينية والمذهبية الغريبة منذ دخول الإسلام إليها - وكان على رأسها الشيخ أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة المعروف بحمدون القصار المتوفى في سنة 271ه، ومن أجلة مشايخها أبو حفص عمر بن سالم الحداد المتوفى سنة 270ه، وأبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحبري المتوفى سنة 298ه.
ولم يكن لهؤلاء القوم طريقة منظمة محدودة المعالم كما كان للطرق الصوفية التي ظهرت في العصور الإسلامية المتأخرة، ولكنهم كانوا جماعة من الزهاد - أشبه بجماعة «إخوان الصفا» في نظامهم - ثاروا على بعض تقاليد الصوفية التي كانت تتنافى في نظرهم مع صفات الكاملين من الرجال، وعلى ما تفشى في عهدهم - على قرب من عهد الرسول عليه السلام - من شرور وآثام، وفساد في الطبع، وضعف وتراخ في المعاملة مع الله، وجعلوا الغاية من حياتهم - كما يشهد بذلك اسمهم - تأديب النفس بملامتها واتهامها في كل ما يصدر عنها من قول أو فكر أو عمل، قصدا إلى إصلاحها وتقويم معوجها، وتحريرها من قيود عبوديتها وهي قيود الشهوات والأطماع، وقد سموا ملامتية من أجل هذا، وتحقيقا في أنفسهم لذلك المعنى النبيل الذي يشير إليه القرآن في قسم الله بالنفس اللوامة المحاسبة العاتبة المراقبة لصاحبها في كل حركاته وسكناته، أو لأنهم - كما يقول بعض النقاد - راقبوا الله وحده في أعمالهم وخواطر قلوبهم، فأخلصوا له العمل
1
والنية فيه، ولم يعبئوا بظواهر الأعمال، ولا بما قد يجره خروجهم على بعض الأحكام - في الظاهر - من لوم الناس وتأنيبهم، بل ربما تعمدوا ذلك الخروج استجلابا لذلك اللوم والتأنيب وقهرا للنفس وتحقيرا لها. ولكن لندع الآن اسم هذه الطائفة واختلاف الكتاب في أمره، ولننظر قليلا في أخص صفات مذهبهم في الزهد، وتعاليمهم التي امتازوا بها من غيرهم، وكان لهم بفضلها أثر بالغ تجاوز موطنهم الأصلي «خراسان» إلى غيره من الأقطار الإسلامية، وظل يلعب دورا هاما في هذه الأقطار - لا سيما الشرقية منها - إلى عهد قريب.
للزهد ناحيتان: ناحية عملية يبدو أثرها في أعمال الزهد الظاهرة المتصلة - على حد قولهم - بأعمال الجوارح، أو المتصلة بأسلوب الحياة الروحية الخاصة التي يختارها الزاهد لنفسه أو التي يطالبه الشرع بها من مأكل ومشرب وملبس، أو صلاة وصوم وحج، أو تهجد وقيام بالليل ونحو ذلك، والناحية الثانية هي الناحية النفسية أو الباطنية المتصلة بأحكام القلوب وأعمالها من محاسبة للنفس ومراقبة لها ورعاية لله وحقوقه في كل ما يصدر عن النفس من قول أو عمل أو يخطر بالقلب من خاطر، وقد ظهرت هذه التفرقة في الزهد الإسلامي أول ما ظهر ، بل قد وضعت - منذ العصور الإسلامية الأولى - حدا فاصلا بين الفقهاء والمتصوفة من جهة، وبين مدرستين من مدارس التصوف الإسلامي: هما مدرستا العراق والشام، من جهة أخرى، وفي هذا المعنى يقول رويم البغدادي المتوفى سنة 303: «كل الخلق قعدوا مع الرسوم؛ أي أحكام الشرع الظاهرة، وقعدت هذه الطائفة «الصوفية» مع الحقائق، وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع، وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق.» وبهذا المعنى أيضا يفرق بعض رجال الصوفية بين أهل الشريعة وأهل الحقيقة: أهل الظاهر وأهل الباطن، والصوفية بالرغم من إجماعهم على التمسك بالشريعة الإسلامية واتباع أوامر الدين وجعلهم ذلك ركنا أساسيا من أركان التصوف، مختلفين فيما هو المقصود بالشريعة على وجه التحقيق، فبعضهم يفهم الشريعة بمعناها الظاهري من أنها جملة أوامر ونواه تتصل بالعبادات والمعاملات والاعتقادات، وهؤلاء يعدون اتباع الرسول والقيام بشعائر الدين على نحو ما قام بها الرسول شرطا أساسيا في طريقتهم، وبعضهم يقوم بشعائر الدين، ولكنه يعدها صورا ورمزا لمعان روحية أعمق في النفس وأبعد أثرا، وطائفة ثالثة وهم الملامتية لا يقيمون لظاهر الأعمال الشرعية وزنا، إذ الشريعة عندهم هي المعاملة الخالصة الصادقة مع الله، بل ربما عمد بعضهم إلى فعل ما يتنافى في الظاهر مع الشرع - ولا يتنافى في الحقيقة مع روحه - استجلابا للوم الناس وتعذيرهم وبخعا للنفس وتأديبا، وأكثر ما يدفعهم إلى ذلك الفرار من الشهرة والرغبة في الابتعاد بالنفس عن مواطن الرياء، حتى إن أحدهم ليمر بالأذى فما يمعنه من رفعه عن الطريق إلا مخافة الشهرة، وإن أحدهم لتأتيه الدمعة فيصرفها إلى الضحك مخافة الرياء، ومن أمثلة أعمالهم التي يستجلب ظاهرها اللوم والتعذير، ما روي من أن أبا عثمان الحيري طلب يوما مالا لينفقه في بعض الثغور، فتأخر عنه، فضاق صدره وبكى على رءوس الناس، فأتاه أبو عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي «وكان آخر من مات من الملامتية من أتباع أبي عثمان» بعد العتمة بكيس فيه ألفا درهم، ففرح أبو عثمان ودعا له، ولما جلس في مجلسه نوه بعمل أبي عمرو وقال : «أيها الناس، إنا أبا عمرو قد ناب عن الجماعة في ذلك الأمر بشدة وحمل كذا وكذا، فجزاه الله خيرا»، فقام أبو عمرو - وقد شعر أن صدقته قد ظهرت للناس - وقال: ردوا إلي المال، فقد أخذته خطأ من مال أمي، ولا بد من رده عليها، فأخرج إليه الكيس وتفرق الناس، فلما جاء الليل ذهب إلى أبي عثمان وأعطاه المال وقال: اجعله في ذلك الوجه من حيث لا يعلم الناس.
كانت حياة الزهد الحقة عند الملامتية هي حياة الروح لا الحياة المتمشية مع ظاهر الشرع، أو هي صدق المعاملة مع الله والإخلاص له وحده، لا المعاملة مع الناس، فلما حاولوا الوصول إلى هذه الغاية الشاقة العسيرة وجدوا النفس وأطماعها أكبر عائق اعترض سبيلهم، وأكثف حجاب وقف بينهم وبين ربهم فاعملوا معاولهم في هدم ذلك العائق وتمزيق ذلك الحجاب، وكانت معاولهم في ذلك أساليبهم في لوم النفس وعتابها وتأنيبها وتعريفها قدرها وإيقافها عند حدها، إذ طريق النفس في نظرهم طريق الأسر والعبودية والتعاسة والشقاوة في الدنيا والآخرة، والتخلص من النفس طريق الحرية والسعادة في الدارين، وفي هذا الجهاد الطويل العنيف ينحصر مذهب الملامتية، وفيه أيضا تنعكس تلك الصورة الخاصة من صور الزهد الإسلامي التي هي موضوع هذا الكتاب، ويتلخص مذهبهم في النفس فيما وصفها به بعضهم بأنها «كف من عجب في قالب ظلمة، وكف من جهل في قالب رعونة، وأن دواءها الإعراض عنها، وتأديبها مخالفتها، وصيانتها ملامتها.» وفي قول آخر: «حسن الظن بالله غاية المعرفة بالله، وسوء الظن بالنفس أصل المعرفة بها.» فأصل الآفات كلها هي النفس وهي مصدر الآثام والآلام والشرور، ولكن آفة آفات النفس عندهم والدليل على فقرها وقفرها هو «الرياء»، ومن أجل هذا كان لهم في الرياء كلام لا يدانيهم فيه غيرهم، وحوله تجتمع أصول مذهبهم، ولما كان الإخلاص في نظرهم هو الخلو من الرياء - إذ الإخلاص ليس صفة إيجابية وإنما هو حال تتحقق في النفس عند انعدام الرياء - كان أول واجب على الملامتي أن يمحو من صفحة النفس كل أثر من آثار الرياء، وهي كثيرة متنوعة، جلية أحيانا دقيقة خفية أحيانا أخرى، فمن الرياء الجلي الظهور بين الناس بملبس خاص، كلباس الصوفية من العباءة أو الخرقة أو ما شاكلهما، أو اعتزال الناس والانقطاع عن الكسب، أو الجلوس إلى الناس في مجالس الوعظ، أو التزين بشيء من العبادات، أو التباهي بالكرامات أو بأحوال الوجد والسكر والجذبة، وغير ذلك من الأعمال التي تورث الشهرة وتنم عن حب الظهور، ولذلك حرم الشيوخ الملامتية على مريديهم كل مظهر من هذه المظاهر، ومن الرياء الخفي أن ينظر ملامتي إلى عمله فيعجب به أو يرى فيه أثرا لنفسه لا يكون فضلا ومنة من الله، وكل عمل تقع عليه رؤية العبد باطل، بل إن وقوع الرؤية عليه دليل الغفلة ودليل عدم قبوله، فالواجب على الملامتي ألا يرى عمله، بل يرى العجز والتقصير في أدائه، ولقد يبالغ بعضهم فيرى أن النظر في العبادات والأعمال وتعظيمها ضرب من الشرك، لأنها تقلب العابد معبودا؛ إذ المعظم لعمله يشرك في حق الله بتعظيمه عملا غير عمل الله.
ومن خفي الرياء عندهم أن يجد العابد لذة العبادة والطاعة في نفسه؛ لأن من استحلى شيئا واستلذه عظم ذلك الشيء عنده، وتعظيم عمل النفس رياء، لذلك كان أخلص الأعمال والأحوال عندهم ما اعتقد صاحبه أنه مما أجراه الله على العبد من غير أن يكون له فيه إرادة، وليس على العبد إلا الاقتداء وترك الاختيار، ومن هنا كانت الطاعة في نظرهم من مرض النفس؛ لأن الطاعة تقتضي الاختيار، ودواء ذلك المرض الإنابة إلى الله والتسليم بمسبوق قضائه، بحيث لا يكون للعبد في عمله قليل أو كثير، وقد أدى بهم منطقهم لا إلى إسقاط الأعمال فحسب، بل إلى إسقاط الثواب على الأعمال أيضا، فأقل الناس معرفة بربه هو الذي يظن أن فعله أو طاعته تستجلب عطاء من الله أو ثوابا، بل المعرفة الحقة هي العلم بأن كل ما يرد من الله من نعم الدنيا وثواب الآخرة إنما هو فضل من الله من غير استحقاق من العبد، وقد كان الملامتية والمتقدمون من الصوفية يرون أن من صفات العبودية الحقة لله ألا يكون العبد في أعماله وأحواله التي بينه وبين الله كالأحرار؛ لأن من عادة الحر طلب الأجر وانتظار العوض على ما يعمل، وليس ذلك من شيمة العبيد، فإذا طمع العبد في شيء من ذلك فقد ترك سمة العبيد، وقد غلط بعض القوم فظن أن الحرية أعلى مقاما من العبودية، قياسا على أن الأحرار أعلى مرتبة في أحوال الدنيا من العبيد، فذهبوا إلى أن العبد ما دام بينه وبين الله تعبد فهو مسمى باسم العبودية، فإذا وصل إلى الله صار حرا وسقطت عنه العبودية وتكاليفها، والحقيقة أن العبد لا يكون عبدا حقا إلا إذا كان قلبه حرا من جميع ما سوى الله: فهذه هي الحرية الخالصة، ولكنها العبودية المحضة أيضا.
على هذه المبادئ قام مذهب الملامتية، وبروحها استرشدوا فيما يقولون وما يعملون، بل فيما يخطر بقلوبهم ويختلج ضمائرهم من خواطر ونزعات، ولا شك أنهم ومن على شاكلتهم قد ضربوا لنا مثلا أعلى - وإن كان فيه شيء من المبالغة أحيانا - لما يجب أن يكون عليه إنكار الذات، كما ضربوا بالغرور والرياء والعجب والادعاء الإنساني عرض الحائط، ولكن من عجب الأمور وسخرية القضاء أن تكون الطبيعة الإنسانية التي تستسلم للدعاوى والغرور ورعونات النفس الأخرى، حتى تدعي الألوهية في شخص فرعون ونمرود، أو شبه الألوهية في شخص هتلر والحاكمين بأمرهم، هي هي الطبيعة الإنسانية التي تذهب إلى أقصى حدود التواضع، وتنادي بسحق الأنانية وتلاشيها في أشخاص رجال الملامتية ومن حذا حذوهم ما أحوجنا إلى قطرات من ذلك التواضع وإنكار الذات والإخلاص لله ولمثلنا العليا في القول والعمل والنية، تلقي في بحرنا الزاخر بالعجب والرياء والأنانية!
2 (1) زهد أبي العتاهية
فكرتان يفيض فيهما أبو العتاهية إفاضة ظاهرة: إحداهما زوال الدنيا وغرورها وباطلها، والثانية هول الموت ووحشة القبر وبشاعة الفناء، فأما الأولى فليس في تصوير أبي العتاهية إياها أمر غير مألوف لزهاد الإنسانية عامة، ولأتقياء صدر الإسلام خاصة، فالقرآن يقول:
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ، وقد تكرر هذا المعنى في خطب الرسول وخلفائه، ولا سيما صاحب نهج البلاغة، وقد حفظ الأدب عند زهاد القرن الأول كالحسن البصري وغيره أقوالا في ذم الدنيا كفيلة أن تلهم شاعرا متزهدا مثل أبي العتاهية ألوانا من المعاني وضروبا من التصوير.
فالدنيا عند شاعرنا ليست بدار بقاء، وإنما هي دار فناء، حلاوتها ممزوجة بمرارة، وراحتها ممزوجة بعناء، تداعيها سريع، وزوالها وشيك، من ولد فيها فللموت، ومن بنى فللخراب، ما طلعت فيها شمس ولا غربت إلا لآجال، ومن عجب أننا فيها نلهو وأيامنا تذهب، ونلعب والموت لا يلعب، ونتكالب على الدنيا وهي تجتاحنا، ونتطاحن عليها ورحاها تدور من فوق رءوسنا.
وأما الموت فموقف أبي العتاهية منه غريب حقا، فهو لا يحن إلى الموت كلما حن إليه الزهاد في مختلف العصور، وهو لا يدلف إلى منيته بنفس مطمئنة ظامئة إلى لقاء الله، ولكنه يبدو في صورة المغيظ المحنق، الفزع من أهوال الموت وسكراته، ومن وحشة البلى وضمة القبر وفعل الفناء في الأجسام، فهذا الموت لا والدا يبقي ولا ولدا، ولا صغيرا ولا شيخا ولا أحدا، وله في الناس سهام غير مخطئة، من فاته اليوم سهم لم يفته غدا، والمنايا تجوس البلاد، وتبيد العباد، وستنال منا كما نالت من قبل من ثمود وعاد، ومن نزار وإياد، ومن بني الأصفر أهل القباب والأطواد، ونحن نريد بقاءه والخطوب تكيد لنا، والموت يهوي فاغرا فاه نحونا، فيجردنا من أصدقائنا أو يختطفنا من بين أحبائنا، ويلقي بنا إلى حفر تنعفر فيها الوجوه النضرة، وتبلي الأجساد المنعمة، فلا يبقى منها بعد ذلك إلا جماجم عارية وعظام نخرة، وليت الأمر وقف عند هذا.
فلو كان هول الموت لا شيء بعده
لهان علينا الأمر واحتقر الأمر
ولكنه حشر ونشر وجنة
ونار وما قد يستطيل به الخبر
فأبو العتاهية في تصويره للموت إنما يقف منه موقف الساخط المتشائم الذي يكره الموت والبلى، ويعجبه ريح الحياة وطيبها، ولكن أين أين المفر؟! وإذا فليزهد الشاعر في الحياة ما دامت هذه نهايتها، وليقف فنه على تحذير الناس من الركون إليها، وليشرح لهم حماقة من يبني فيها القصور ويشيد الدور ويجمع الأموال، وينشد المنصب والجاه.
وظاهر أن هذا الموقف لا يطابق تمام المطابقة وجهة النظر الإسلامية العامة في الحياة والموت، والفناء والبقاء؛ فالإسلام في غالبية نصوصه ومواقف العارفين بأسراره قد جعل الدنيا مطية الآخرة، وحبب إلى الناس لقاء ربهم، فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، والموت حق، والجنة حق، والنار حق، والمؤمنون مطالبون أن يعملوا لدنياهم كأنهم يعيشون أبدا، ويعملوا لآخرتهم كأنهم يموتون غدا، وربما وردت في أقوال الصالحين من رجال الصدر الأول عبارات زهد في الدنيا؛ لأن نهايتها الفناء، ولكنها أقوال عابرة نادرة لا تؤلف عند أصحابها مثل هذا الموقف اليائس المتشائم الذي وقفه أبو العتاهية.
ولعل هذا كان مما دفع باحثا مثل «جولدتسيهر» إلى تلمس مصادر الزهد العتاهي في الأفكار، والمثل الهندية التي تسربت إلى المسلمين في القرن الثاني من الهجرة، يقول جولدتسيهر في كتابه «العقيدة والشريعة في الإسلام»: «نخلص من هذا إلى بيان هذه الحقيقة، وهي أن الفكرة الدينية المسماة بالزهد التي صادفت الإسلام السني، والتي لا تتفق مع السمات المألوفة التي نعرفها في التصوف الإسلامي، تكشف عن آثار قوية تدل على تسرب المثل الأعلى للحياة عند الهنود إلى الإسلام، ومن أعظم المعبرين عن فكرة الزهد هذا الشاعر أبو العتاهية الذي عرض نموذجا للرجل الفاضل الجليل بقوله:
يا من ترفع للدنيا وزينتها
ليس الترفع رفع الطين بالطين
إذا أردت شريف الناس كلهم
فانظر إلى ملك في زي مسكين
أو ليس هذا هو بوذا.»
ويناقش «نيكولسون» في كتابه: «التاريخ الأدبي للعرب» فكرة جولدتسيهر على أساس أن هذين البيتين يحتملان تأويلا آخر وأنه ليس من الضروري أن يكون زهد أبي العتاهية هنا متجها إلى بوذا والتعاليم البوذية، غير أن نيكولسون يعقب على ذلك بقوله: «نعم، إن كثيرا من ديوان أبي العتاهية ليس دينيا خالصا بالمعنى الإسلامي، وربما صح أن يسمى فلسفيا، وقد كان هذا كافيا للحكم عليه بالزندقة والإلحاد في أعين معاصريه من اللاهوتيين المتزمتين الذين كانوا ينظرون شزرا إلى كل تعاليم أخلاقية ليست مصوغة في قالب العقيدة، وربما كان السبب الظاهر الذي قيل في حبس الرشيد إياه من أنه امتنع عن قول الغزل ليس إلا صورة شعبية للحقيقة الواقعة من أنه دأب على نظم قصائد دينية تميل ميلا خطرا إلى ناحية التفكير الحر.»
ويذهب «أحمد أمين بك» في «ضحى الإسلام» إلى أن أبا العتاهية كان زعيم النزعة الفارسية في الزهد العربي وأنه «أتى في هذا الباب بما لم يسبق إليه، وزاد في معانيه زيادة بشار وأبي نواس في أدب اللهو والمجون، وأصح تعبير في ذلك أن نقول: إنه فلسف الزهد وملأ الأدب العربي في عصره بالموت والتخويف منه ومما بعده واحتقار اللذة، والجد في الهرب منها.»
3
ثم يقول المؤلف: «وعلى الجملة، فالشعر الديني الذي كان يحمل لواءه في ذلك العصر «صالح بن عبد القدوس» و«أبو العتاهية» فيه نزعة ثنوية كان ينزعها الفرس قديما، ولنا أن نقول الآن إنه إن كان في نزعة بشار الإباحية عنصر مزدكي، ففي نزعة أبي العتاهية الزاهد عنصر مانوي.»
فالباحثون الثلاثة كما ترى يلتقون في أن أبا العتاهية قد تأثر بمؤثرات أجنبية في نزعته الزهدية، وأن روح هذه النزعة لم تكن إسلامية صرفة، وهي فكرة لها ما يؤيدها في تحليل موقف أبي العتاهية من الموت، وفي إشارات في شعره جعلت بعض السابقين من المؤلفين من أمثال «الصولي» ينبهون إلى ما في نظام تفكير أبي العتاهية من عناصر فلسفية ومذهبية، وليس هناك من شك في أن أبا العتاهية تعرض لأمثال تلك المؤثرات بحكم بيئته وثقافة عصره وما كان في ذلك العصر من تسرب الثقافات الهندية والفارسية واليونانية إلى المجتمع الإسلامي من طرق مباشرة وغير مباشرة، ولكن ضآلة نتائج هذه المؤثرات في شعر أبي العتاهية تجعلنا أميل إلى التماس مصادر تفكيره الزهدي في جداول الحياة الإسلامية العربية المشتركة، ويقوي هذا الميل عندنا أن الرجل لم يكن معروفا بتوسع في ثقافة، ولا عمق في تأمل، ولا انصراف إلى تفلسف، ولم يعرف عنه أنه شارك مشاركة جدية في مناقشة مذهبية أو دعوة دينية، وهذه الناحية فيه لم تفت معاصريه ، فجاره يقول عنه فيما يرى صاحب الأغاني، أنه كان من أقل الناس معرفة وقال له مرة «بشر المريسي»: يا أبا إسحاق! لا تصل خلف فلان جارك وإمام مسجدكم فإنه مشبه. فقال أبو العتاهية: كلا! إنه قرأ بنا البارحة «قل هو الله أحد»، كأنما يظن شاعرنا أن المشبه لا يقرأ قل هو الله أحد، ويذكر الجاحظ أن أبا العتاهية أراد مرة أن يناقش «ثمامة» بين يدي المأمون، فقال له المأمون: عليك بشعرك! فألح على الخليفة أن يأذن له بمساءلة ثمامة فأذن، فألقمه ثمامة حجرا، فضحك المأمون وقال له: ألم أقل لك أن تشتغل بشعرك وتدع ما ليس من عملك! ويذكرون أنه كان مذبذبا في مذهبه يعتقد شيئا فإذا سمع طاعنا عليه ترك اعتقاده إياه وأخذ غيره، ولست أظن أن أهل عصره كانوا جادين في اتهامه بالزندقة، فقد كانت المسألة أحيانا لا تعدو شيئا من الخصومة الأدبية أو التناظر في ميدان مشترك كالذي كان بينه وبين منصور بن عمار، مما دفع منصورا إلى أن يشنع عليه بأنه لا يذكر في شعره الجنة والنار، وإنما يذكر الموت، وإذا ذكر الجنة فإنما يتهاون بها ويتبذل ذكرها شعره، وربما جاءته التهمة مما عرف عنه من جمع الأموال وكنزها ثم التزهد مراءاة ونفاقا كما يقول سلم الخاسر، لا سيما إذا انضم إلى هذا عدم اشتهاره بالمشي إلى المساجد، وقد أشار إلى هذه النواحي جماز ابن أخت سلم الخاسر في قوله يعرض بأبي العتاهية:
ما أقبح التزهيد من واعظ
يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقا
أضحى وأمسى بيته المسجد
يخاف أن تنفد أرزاقه
والرزق عند الله لا ينفد
والرزق مقسوم على من ترى
يناله الأبيض والأسود
كان أبو إسحاق - إذا - شاعرا واعظا من أوساط جمهرة المسلمين، نشأ نشأة فقيرة طابعها الحرمان، في عصر كان المجدودون من أهله ينتبهون اللذات انتهابا، فهو زاهد صوفي على نوع ما.
التصوف واللاأدرية
قلنا: إن التصوف هو المذهب القائل بالإلهام أو بالبصيرة، وإذا شئت فبالعلم الإلهي، أي بهذا النوع من المعرفة اليقينية الذي لا يعتوره شك ولا تعبث به سفسطة، ولئن كان هذا التعريف غير منطبق تمام الانطباق على حقيقة التصوف، فإنه ولا شك يرينا ما للمعرفة من أهمية، فتصفية الروح ليست غرضا عند رجال الصوفية، إلا لأنها تمهد للاتصال بالله، ولا ريب أن معرفة تأتي عن طريق الإلهام وتجيء عن طريق الألوهية، فإنها معرفة لا يتطرق إليها الهدم ولا تنهار أمام عواصف المنطق، بل هذه الأمور الصبيانية التي تجدها أحيانا في كلام الصوفية لا تقل في ثبوتها عن البديهيات، وأنت تحاول عبثا إذا أردت أن تبعث الشك عند الصوفي، أو تثنيه عن رأيه، إذ كيف يحيد عن فكرة يعتقد أنه تلقاها من الملأ الأعلى في فترة صفت فيها روحه وتطهرت.
من ذلك يكون اللاأدري شخص لا يعترف بحقيقة، أو لا يعترف بأن هناك طريقا يوصلنا إلى معرفتها على فرض وجودها، وعبثا تحاول أن تقنعه بعقيدة ما؛ إذ هو لا يقتنع إلا بالشك، ولا يرضى برأيه بديلا، وإن يدهش لشيء فإنما يدهش لعدم اقتناعك أنت بفكرته التي يعطيك على صحتها البرهان تلو البرهان والحجة تلو الحجة، حتى لتعترف آخر الأمر بأن لرأيه وجاهته وقيمته.
يقين مطلق إذا من جهة الصوفية وشك عميق من جهة اللاأدريين، اختلاف شاسع إلى تعارض وتضاد.
وبالرغم من أن محاولة التقريب وعقد الصلة بين هذين المذهبين تبدو لكثير من الناس مهزلة مضحكة، فإن الاختلاف بينهما أقل مما نتصور، ذلك أن الصوفية واللاأدرية يتفقان في المبدأ الذي بني عليه كل منهما، أي إن الفكرة التي حدت بالصوفي إلى التصوف هي الفكرة التي حدت باللاأدري إلى مذهبه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن اللاأدرية نفسها كثيرا ما تؤدي إلى التصوف، ونحن موضحون هذا فيما يلي:
كلنا يعلم أن هناك طريقين للمعرفة: هما الحواس والعقل، فمعرفتي بالشيء تنتج عن أني أراه أو أحسه إلخ، أو عن أني أستنتجه بدليل عقلي.
كثير من الناس، بل الأغلبية الساحقة منهم تأخذ المعرفة الناشئة عن هذين الطريقين كأنها قضية مسلمة لا تقبل جدلا ولا يحيط بها شك، ولكن في العالم أيضا ذاك الذي يرى أنه ما دامت الحواس تخطئ فهي ليست أهلا للثقة؛ إني أرى السراب فأحسبه ماء، وتسيطر على فكري صورة من الصور وتقوى هذه السيطرة فأرى الصورة ممثلة أمامي، والمريض يرى خيالات لا حقيقة لها، والخائف يرى أشباحا ويسمع أصواتا لا وجود لها، إن الأمثلة على ذلك لا تحصى، وكل يوم، بل كل فترة تعطيني دليلا على خطأ الحواس، فهل بعد هذا أثق فيها أو أثق بمعرفة تأتي عن طريقها؟ كلا!
1
بقي العقل إذا، ولكن ما قيمته؟ كل ينتسب إليه ومع ذلك فلا تجد اثنين يتفقان، هذه المذاهب الفلسفية التي لا تكاد تعد، كلها مبنية على العقل، كلها مؤسسة عليه وقائمة به، وكلها جذابة أخاذة تغري بقوة أدلتها، وتستولي عليك بصرامة منطقها، ومع ذلك كله فلا تكاد تتفق في شيء ما، ثم ماذا؟ ألم يبرهن أحدهم ببرهان عقلي منطقي على أن الأرنب لا يلحق السلحفاة، وآخر على أن السهم في سيره لا يتحرك إلخ، وأنت نفسك، أليست آراؤك في حالة التخمة غيرها في حالة أخرى، وفي حالة السرور غيرها في حالة الحزن، ثم البراهين التي ترى قوتها وتعتقد فيها وأنت في حالة السرور غيرها في حالة الحزن، ثم البراهين التي ترى قوتها وتعتقد فيها وأنت في حالة الحلم ليست أقل من أن يقال عنها إنها براهين عقلية، وهكذا إذا أخذت في تعداد الأمثلة على عدم مقدرة العقل فإنك لا تقف عند حد.
أخطأت الحواس فلا ثقة فيها، وأخطأ العقل فلا ثقة به، فهل معنى ذلك ألا سبيل إلى المعرفة الحقيقية؟ نعم يجيبنا اللاأدري، وسنمكث إلى الأبد محكوما علينا بالجهل أو إذا شئت بعدم المعرفة الصحيحة.
ولكن الصوفي بعد أن سار هذه الخطوات كلها، ووصل مع اللاأدري إلى الشك في قيمة الحواس والعقل، وفي قيمة المعرفة الناشئة عنهما، يعود فيثبت المعرفة عن طريق آخر: هو الإلهام، أو البصيرة، أو العلم اللدني كما يقولون.
قطع الصوفي واللاأدري إذا المرحلة الأولى معا ، فوصلا إلى الشك فرضي به أحدهما واقتنع بألا مطمح وراءه، وخطا الآخر خطوة أخرى خطاها لا يضع لنفسه منطقا أو منهجا يسير عليه ليعتصم من الزلل الذي توقعه فيه حواسه ويوقعه فيه عقله كما يفعل الفلاسفة، وإنما ليصل إلى معرفة من طريق آخر لا يتسرب إليه شك.
لنلق الآن نظرة على النفس الإنسانية، فنرى أنها لا تحب الإقامة على الشك، ولا ترغب في اتخاذ الإنكار مذهبا وقاعدة، وإنها على كثرة حبها للمعرفة وشغفها بالاستطلاع، تريد أن تجعل دائما اليقين قاعدة آرائها وأعمالها، ونرى أيضا أن من أشق أوقات الإنسان تلك الفترة التي تضطرب فيها نفسه، وتتذبذب آراؤه ويختلط عليه الأمر، هذه الحالة تبعث في النفس الضيق والكآبة، فإذا اشتدت واستمرت سببت أحيانا الانتحار وأحيانا الجنون، ولكنها أيضا في كثير من الأحيان تؤدي إلى التصوف، نعم، تؤدي إلى التصوف حيث يجد المتصوف ملجأ تستقر فيه نفسه، وتهدأ وتسكن، وحيث يجد اليقين والإيمان والعلم الثابت.
أما حالة الإمام الغزالي النفسية فقد كان متلهفا على المعرفة محبا للاطلاع والدرس والبحث غارقا في محيط الفلسفة والعلم، ولكنه مع كثرة اطلاعه لم يجد في المذاهب الفلسفية ما يرضيه، ولم يجد في العقلية المؤسسة عليها هذه المذاهب ما يقنعه، ورأى من العبث أن يبدأ في تأليف مذهب فلسفي جديد، ذلك حتما مصير ما سبق من المذاهب التي إن أخذت بإعجاب كثير من الناس، فإنها لا تثبت أمام النقد الصارم؛ إذ ليس فيها من القوة البرهانية ما يقنع.
ليس هناك إلا الشك واللاأدرية إذا.
وفي الواقع شك الإمام الغزالي وشك في العقل وشك فيما ينتج عنهما من معرفة، أما نفسه فقد اضطربت، ونحل جسمه وضاق بالحياة، ولم يجد ملجأ ولا عاصما من هذه الحيرة إلا التصوف فولج بابه واطمأن إليه كما سنوضحه فيما يلي: (1) الغزالي
هو أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، جادت به الحكمة الخالدة في مطلع عام خمسين وأربعمائة للهجرة، وتسع وخمسين وألف ميلادية ببلدة طوس من أعمال خراسان من أصل فارسي، وكان والده فقير اليد غني الروح، يكسب قوته من مغزله ومن قيامه بخدمة رجال الدين والفقهاء في مجالسهم وخلواتهم، وقد حاول بعض المستشرقين وفي طليعتهم العالم الألماني «وستنفليد» أن يثبتوا أن أسرته من أسر العلم الشوامخ، ولكن الحقائق التاريخية لم تذكر لنا دليلا واحدا يجرؤ على الثبات، ولم تحدثنا عن ماضي تلك الأسرة شيئا يطمئن إليه النقد العلمي.
2
ولعل هذا الإحساس الملح والرغبة النفسانية العنيفة في اكتساب المجد العلمي وتقديس الثوب الديني قد ورثهما الغزالي عن والده وإنما في صورة أخرى؛ فقد أتيح للولد ما لم يتح للوالد، ولعلنا في هذا الضوء نستطيع أن نفهم النهم العجيب في الغزالي الذي يدفعه في إلحاح وإصرار إلى الاستزادة من العلوم والإقبال على المعارف.
ومات هذا الوالد والغزالي وشقيقه أحمد في مدارج الطفولة الأولى، فتعهدهما رجل صوفي فقير من أصدقاء والدهما الذي لم يترك لهما إلا صبابة من المال ضئيلة، ولم يترك للصوفي إلا وصية واحدة هي قوله: «كانت أمنيتي في الحياة أن أتعلم الخط فأريد منك أن تحقق أمنيتي في نجلي هذين.» وقد بر الصوفي بتلك الوصية فاهتم بها علما وخلقا حتى نفذت صبابة المال التي تركها والدهما، فضاقت يده عن طعامهما والإنفاق عليهما فقال لهما: «اعلما أنني أنفقت عليكما ما كان لكما، وأما أنا فرجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي فأواسيكما وأصلح حالكما، فما لكما ألا تلجآ إلى مدرسة؛ فإنكما طالبان للفقه عساه يحصل لكما مقدار قوتكما.»
3
حتى كان الغزالي يقول كلما عاودته تلك الذكرى: «طلبنا العلم لله فأبى إلا أن يكون لغير الله.»
وقضى الغزالي فترة في إحدى مدارس العلم الديني في بلدته قرأ الفقه خلالها على «أحمد بن محمد الطوسي»، ثم جنحت به نفسه إلى الاستزادة من العلوم فهاجر إلى جرجان إلى الإمام العلامة «أبي نصر الإسماعيلي»، وفي جرجان ابتدأ الغزالي يكتب ما يتلقى من علوم أستاذه، ولكن يبدو أنه لم يستفد عقليا مما كتب أو استمع، بل كان يقرأ أو يكتب في نهم وسرعة دون عناية بالفهم والهضم، يدل على تلك القطعة الطريفة الساذجة المكتوبة بقلمه في اعترافاته التي أسماها «المنقذ من الضلال»، والتي تدل على تلك الفترة من حياته، قال: «قطعت علينا الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتعقبتهم، فالتفت إلي مقدمهم وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت، فقلت له: أسالك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد علي تعليقتي فقط فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علومها: فضحك وقال: كيف عرفت علمها وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها وبقيت بلا علم، ثم أمر بعض أصحابه فسلم إلي المخلاة فتركت تلك الحادثة في نفسي أثرا كبيرا وقلت في نفسي: هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني به في أمري، فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته وصرت بحيث لو قطع علي الطريق لم أتجرد من علمي.»
وتلك القطعة التصورية من قلم الغزالي تدلنا على صفة كان لها أكبر الأثر في إعداده ورسالته، وهي تأثره العجيب بالجانب الديني الصوفي من الحياة، فهو يرى في جواب قاطع الطريق رسالة سماوية ونطقا ربانيا لإرشاده في أمره وطرق تعليمه.
عاد الغزالي من جرجان إلى طوس، وانقطع انقطاعا تاما كما يقول إلى العلم ثلاث سنوات حتى حفظ جميع ما درس واستوعب ما قرأ بحيث لو قطع عليه الطريق وسرق ما معه لم يتجرد من العلم والمعرفة، هذا، والعلم في نظر الغزالي كان خلال تلك المدة غير واضح المعاني، غير واضح الأهداف، فهو يدرس ويحفظ على طريقة عهده كتب الدين وآراء المذاهب والفقهاء ليكون يوما ما من رجال التدريس أو القضاء، أو قد يسعده الزمان فيلتحق ببطانة عظيم أو أمير أو سلطان.
ولكن تلك الروح العظيمة التي أعدت لغير ما يعدها صاحبها لم تقنع بما وصلت إليه من دراسات، ولم تطمئن إلى ذاك اللون من التعليم، بل لم تقنع بما ألقي إليها من يقين؛ إذ هي تنشد معاني أخرى وتتلمس بابا إلى النور لم يزل خافيا .
وضاقت معارف طوس بالغزالي كما ضاق بها، برحل إلى نيسابور إحدى مدن العلم والنور في عهده، وهناك اتصل بإمام الحرمين أبي المعالي الجويني علم عصره في التوحيد والإلمام بمذهب الأشعرية وطرق الجدل والأصول والمنطق.
وفي نيسابور ابتدأت خطوط تلك النفس العظيمة تتكون وتتضح، وابتدأت آفاق الغزالي تتفتح وتتسع، فهو يشاهد فيها دنيا جديدة ومجتمعا جديدا مزدحما بأنفاس العلماء كما هو مزدحم بأنفاس الحياة.
وفي نيسابور ابتدأ إيمان الغزالي بعلم الفقه يضعف، كما أخذ إجلاله للعلماء يتضاءل، فهو يدرس ويستمع إلى آراء المذاهب، ويعجب لتفرقها وتخاصمها كما يعجب لطرائقها في البحث والجدل، ويعجب أكبر ما يعجب لخلوها من الروح والإيمان.
وفي نيسابور شاهد الغزالي ولامس أخلاق العلماء والفقهاء فإذا هي ضروب عجيبة من الرياء والنفاق وألوان مبتكرة من الجشع والتهالك على متاع الحياة، فشك الغزالي في أخلاقهم كما شك في علومهم، وبذلك انتهى إيمانه بالعلم التقليدي فأقبل على الفلسفة ينشد لديها الإيمان ويرجو عندها متاع العقل والقلب والروح.
ولكن الفلسفة خذلته أكثر مما خذله العلم التقليدي، فهو ينشد إيمان الروح، إيمان القلب، والفلسفة وإن أرضت العقل الحر أو العقل المعتز بنفسه أو العقل الذي لا يطيق الخضوع ويتعالى بالكبرياء فهي لا ترضي القلب الذي ينشد السلام ولا ترضي الروح التي تنشد الاطمئنان، فأضاف الغزالي شكوكا جديدة في الفلسفة إلى شكوكه القديمة في العلوم التقليدية.
ومن هنا تحرر الغزالي من كل قيد فكري كما تحرر من كل قيد يقيني، فانطلق حرا طليق الفكر ينشد الهداية بين المذاهب والنحل، ويتلمسها في الشك تارة، وفي التأملات الغامضة أخرى، غير مثقل العقل بميراث يقيده ولا مشغول اليدين بعلم خاص يجله ويكبره.
وأمسى الغزالي وأصبح فإذا به المتهكم الأكبر في جيله، وعرفته محافل العلم أستاذا بارعا متعمقا في كل بحث مغرما بالمجادلات والمناقشات، ومغرما أشد الغرام بالتحطيم والتجريح، فلم يغادر مذهبا من المذاهب لم ينقضه، ولم يدع فرقة من الفرق بدون تجريح وإيلام.
وقد أوتي أسلوبا بارعا وقلما ساحرا وعرضا عبقريا، وتلك أسلحة فكرية رهيبة عظيمة الخطورة إذا وضعت في يد متهكمة مغرمة بالقتال والصيال مغرمة بالبحث والجدال علها ترضي صياح الشك في أعماقها أو ترضي الظمأ إلى اليقين في روحها.
فلا عجب إذا رأينا ملاحم متتابعة متلاحقة شديدة الأوار تنشب بين الغزالي وجيله، وهي ملاحم أضافت إلى التراث الفكري كنوزا من المعرفة لا يزال شعاعها واضح النور والسناء.
ونحن ننقل من كتابه «المنقذ من الضلال» قطعة توضح تلك الفترة الثائرة من حياته وتهدي إلى طريقته في دراساته للمذهب، ومهاجمته للنحل والأفكار والعقائد، قال:
ولم أزل في عنفوان شبابي من راهقت البلوغ، وقد أنافت السن الآن على الخمسين أقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عقيدة كل فرقة، وأكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومحاولته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا إلا وأتجسس وراءه للتنبه إلى أسباب جرأته في تعطيله وزندقته، وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان شبابي، غريزة وفطرة من الله وضعت في جبلتي، لا باختياري وحيلتي.
تلك هي صورة الغزالي العالم الباحث، وذلك هو الوجه الذي عرف به في نيسابور التي ارتبط فيها بصداقة روحية مع أستاذه أمام الحرمين حتى رشحه ليقوم مقامه في التدريس.
ولكن أستاذه وصديقه لم يلبث أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، ففارق الغزالي نيسابور حزين القلب والروح، فارق الغزالي نيسابور وقد فقد الشعاع الروحي الأخير الذي كان يحبسه عن المغامرة الكاملة في الحياة، فارقها إلى بغداد ينشد فيها مجد الدنيا ومتاع الروح وليقارن فيها حظه بحظوظ العلماء والدارسين.
كانت حياة الغزالي منذ شعاعها الأول، حياة فكرية خالصة، حياة عازفة عن الجاه ومتاع الحياة، وكانت نهاية تلك المرحلة أيامه الأخيرة في نيسابور.
وها نحن أولاء نشاهده في طريقه إلى بغداد، يحدث نفسه بوداع حياة واستقبال أخرى، فهو لم يلق في حياته الأولى سوى عذاب فكري متلاحق، بل لم ينعم ولم يذق إلا مرارة المعارك والخصومات الحارة بأحقادها ومتاعبها، ولم يمتع إلا بلقيمات غير دسمة ولا سائغة.
فكر متوثب لا يهدأ ولا يطمئن ولا يشعر بلذة اليقين، وعلم لم يكسب صاحبه ما يكسبه العلم لأهله في عهده من متاع الحياة ومباهج السيادة والحكم، فلم لا يقذف بكل هذا وجه الفضاء؟ وإذا كان هذا الفكر الملح في شكه، الملح في ثورته، الملح في تهكمه لا سبيل إلى إمتاعه وإرضائه فإن قسوة الحياة يمكن أن تبدل بطيب المتاع وجمال المظهر وعزة الاتصال بالولاة وما فوق الولاة من الأمراء والملوك.
وبغداد في ذلك التاريخ مهوى أفئدة رجال العلوم وطلاب المغامرة وعشاق المجد، وفي بغداد يسوس الملك مغامرة عالم «نظام الملك» الذي ابتدع المدارس النظامية وأسسها على علوم السنة لينافس بها أزهر الفاطميين وليطاول بها علوم الشيعة التي تلقى في أزهرهم.
ومثل هذا الأمير في حاجة إلى عالم متفوق بارع في الجدل، بارع في الخصومة بارع في دعم الحجج والبراهين، براعته في نقض الحجج والبراهين.
والغزالي اللماح يدرك مطلب الأمير ويدرك ما يمكن أن يظفر به لدى الأمير.
ومن أجل هذا اعتزم أن يكون قدومه ضخما فخما لا ينسى، واعتزم أن يطلع الأمير في اللحظة الأولى على مقدار نبوغه وبراعته في الحوار والجدل وتفوقه في المذاهب والنحل.
هذا، والحديث عن آراء الغزالي يتصل اتصالا تاما أو يكاد، بالحديث عن ترجمة حياته، لأنه واحد من المفكرين الذين يكون تسلسل ترجماتهم هو بعينه تسلسل حياتهم الروحية، ولأن هذا الحديث يعين على كشف الولائج التي كونت الأفكار الغزالية، كما يعين على تفهم موضع الرجل من معاصريه، بل موقفه من خصومه، ويوضح حاصل رأيه وحاصل الرأي فيه، وإذا كان هذا شأن ترجمة حياة الغزالي كان لا بد من عرض قصير يسير لحياته، وإذا ففي عام 1059م/450ه يولد الغزالي بطوس، ويتوفى والده فيكفله صديق لأبيه متصوف يأخذه بتعاليم الفقه وغيره، ولكن الغزالي الشاب يضيق بتعاليم الفقه في هذه الحدود الضيقة التي تدفعه إلى إمام الحرمين في نيسابور يتعلم عليه «الكلام»، ويدرس عليه المذاهب واختلاف اتجاهاتها، كما يدرس المنطق والجدل مما يشيع في نفسه لونا من ألوان الحيرة التي تنبعث في القلوب الخصبة والعقول الكبيرة، حين تريد هذه القلوب وهذه العقول أن تتفتح، وحين تريد أن تفلت من أخطاء الجبابرة وما في جبروت هذا الخطأ من استبداد بالأفكار، ثم تأتي مرحلة يموت فيها إمام الحرمين فيتعرف الغزالي على إمام الملك الذي يعينه أستاذا في المدرسة النظامية، وينصرف الغزالي إلى التدريس، كما ينصرف إلى الدراسة القوية النشيطة المنظمة التي توفرها له هدأة يسيرة من الحياة، والتي لا بد منها لمن يشتغل بالمعارف المنظمة والعلوم الفلسفية، فيدرس الرجل مؤلفات الفارابي ونتاج الشيخ الرئيس ويؤلف ما شاء له التأليف، ثم تأتي فترة يلح عليه فيها الشك إلحاحا يقض هذا الهدوء، بل هذا الاستقرار ويدفعه إلى اليأس الحزين من قدرة العقل كوسيلة تنال بها حقيقة الدين فيترك التدريس والدراسة، ويخرج من بغداد خائفا يترقب كأنما هذه الحيرة تتربص به أينما كان، فهو شاك حائر خائف لا يعرف أين
4
يذهب فكل الأرض وجهته، يجاهد نفسه ألوانا من المجاهدة، ويتحمس لرياضتها ضروبا من التحمس فينطوي على نفسه انطواء يوشك أن يعزله في روحه عن عالم الشهادة، وإذا هو حيال هذا الكون المشهود لا ينفي ولا يوجب، فهو في دمشق وهو في القدس وهو في الإسكندرية، لعله بهذا يتعلق بسبب من أسباب السماء غير العقل الذي أيس منه سبيلا إلى قرار اليقين وإصلاح أمور الدين، وهو أبدا مشوق لأن يكتب في عداد المجاهدين، وهو دائما يرجو أن يكون ممن «يرسلهم الله على رأس كل مائة سنة من المصلحين.»
وهو ينتهي من هذا إلى أن ينصب نفسه داعية من دعاة الإصلاح القائم على العمل والتنفيذ، فيؤلف كتابا من أكبر كتبه يرجو به أن يعود مجد الدين أو يرفو به ما خرقته ألسنة الزنادقة والملحدين، هذا الكتاب هو كتاب «إحياء علوم الدين»، ثم هو يرى أن يعود إلى نيسابور فيواصل الإرشاد والدعوة والعبادة حتى يدركه الموت في طوس سنة 1111م/سنة 505ه، فيقع في الميدان كأي بطل من أبطال الفكر المجاهدين، فيخلع عليه المسلمون لقب «حجة الإسلام وزين الدين».
أما موضع الغزالي من معاصريه فإن هذه ترجمة حياة الغزالي التي ثقفناها ما أمكن التثقيف الذي يوائم حياته الروحية بحياته الزمنية، ويبدو معها الرجل وهو يسير مع الحياة يلقى فقهاء يقفون من الفقه عند حد النصوص، ومتكلمين يحاولون جاهدين مزج الدين بالعقل، أو قل يصبون الإيمان في صور عقلية يبدو عليها القلق والصنعة؛ لأنهم فيما يحتمل أرادوا أن يصطنعوا لهذه المادة الروحية قوالب نظرية، فتخطفوا وجوه المذاهب الفلسفية في غير حذق وتريث، فجاءت شائهة ضاق بها الغزالي كما ضاق بها المسلمون زمنا ما، ثم أيضا غير هؤلاء وهؤلاء تنشأ في محيط الغزالي طائفة تتمشدق بالرياضيات والطبيعيات وتأخذ بحظ ما من المنطق والفلسفة اليونانية ممثلة في القدر الهزيل من فلسفة أفلاطون وأرسطو الذي أذاعه الفارابي وابن سينا.
وهناك أيضا فرقة أو أكثر تهيئ نفسها بأنواع من السلوك والمجالدة على الرياضة الروحية في لون من الخفاء والتستر حينا، أو الفوضى والإباحة أحيانا رجاء أن تطمئن وتطامن غيرها من طريق أسمى وأرفع من العقل، ويمثل هذه الطائفة معظم الفرق الصوفية.
هذه أظهر التيارات التي كانت تجري في القرن الحادي عشر الميلادي وصاحبنا لا يكاد يتبين نفسه منها ولا يكاد يفاضل بينها، على أنه يرى من حق نفسه عليه أن يدرس كل هذه الدراسات فيندفع اندفاعا قويا إلى الدرس والتحصيل يتمثل في قوله: «أتهجم على كل مشكلة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين محق ومبطل.»
فهو إذا يدرس دراسة العارف المريد لا ليملأ نفسه إيمانا على طريقة المقلدين الذين يعتقدون أن الإيمان تركة تورث ولا يتفيهق بالمنطق كالببغاوات، ولا يتفلسف ليملأ شدقيه تفخيما باسم أفلاطون الإلهي وباسم أرسططاليس المعلم الأول، إنما هو يدرس هذا وذاك ليتبين موضع الحق عند كل طائفة فيعينه، أو محلا للباطل فيحمل عليه، وهو حين يخاصم طافة يحاربها بسلاحها ويقهرها على نفسها بأدلة من نوع أدلتها، أما هذه الطوائف فيدعوها بأصناف الطالبين وهي عنده أربعة أصناف: (1) متكلمون يدعون أنهم أهل رأي ونظر. (2) وباطنية يزعمون أنهم أصحاب التعليم المخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم. (3) وفلاسفة يزعمون أنهم أهل منطق وبرهان. (4) وصوفية يدعون أنهم خواص حضرة وأهل مشاهدة ومكاشفة ويقول: «إن الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة.» وأخذ يدرس معارف كل طائفة دراسة أعانته على وسائل الخصام، بل جعلت للخصومة في حياة العقلية العربية قيمة هامة، ولكن ما مدى الخصومة وما حدود هذا الخصام؟!
الخصومة ... بل طريق الغزالي إلى المعرفة وسبيله إلى الحق كان يختلف اختلافا بعيدا أو قريبا من هذه الطوائف ونظرتها إلى اليقين الديني، والسبيل التي يتأدى بوساطتها على نحو ما يعين مما أدى إلى أنه تارة يقف مناصرا لبعضها في ناحية من نواحي المعرفة، وتارة نراه منازعا، بل خصما مردا عنيدا لبعضها الآخر، مما جعل الخصومة تشتد تارة وتفتر تارة، ويفسر لنا هذا نظرة الغزالي إلى قيمة العقل واقتداره على معرفة الحق وهو يرتب هذه الطوائف على قدر نظرتها إلى العقل.
أما قيمة العقل في نظر الغزالي فيكفي أن يضعه في موضع أدنى من مرتبة الذوق والإشراق الذي بدونه يصبح اليقين الديني ضربا من الاستحالة، بل هو يشك في قيمة العقل ويوجه إليه سهما لعله يصيب «عنده» العقل في المقتل وفي أعظم موضع يعتز فيه العقل بذاته وبطبيعته ما كشفه من قوانين، هذه الناحية التي ينقدها صاحبنا هي المعارف الضرورية، ويخص منها قانون السببية فيقول بالنص: «لعل وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل، فكذب الحس في حكمه وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته.» (المنقذ ص72).
ومن هنا يمكن توقع نظرته إلى الطوائف السابقة «أصناف الطالبين» ومدى خصامه لكل منها.
فهو يرى أن المتكلمين كان غرضهم نصرة الدين والذب عنه بسلاح من البرهان والعقل، وعجز هذا العقل عن السمو بالعقائد الدينية إلى درجة اليقين، ولكنه رغم خصومته لهم كان يشفق عليهم، أليسوا مسلمين!
وهو أيضا يقف للباطنية أصحاب الإمام المعصوم فيدرس آراءهم ويؤلف في عرضها والرد عليها، ويجود هذا العرض حتى يعاتبه أحد أصدقائه بأن هذا العرض يوقف الخصوم على ما غمض من مذهبهم في نظرهم، وطريقتهم في إبطال حجتهم هي طريقة مألوفة توسم بطريقة «الفناقل»، هو يزعم أن دعوى هؤلاء باطلة ضعيفة وإن عدت قوية، فهذه القوة ليست بالذات ولا من الذات، بل بالإضافة إلى ضعف حجة خصومهم فهي قوة معدودة وليست قوة حقيقية، فينبري لهم هو خصما ألد يعرف كيف يقهرهم ويدل على فساد نظرتهم إلى معلم معصوم مزعوم، فليس هناك معلم غائب ولا هنا دعاة ينتظرونه، إنما المعلم هو محمد ودستوره كامل من يوم أن أنزل الله
اليوم أكملت لكم دينكم ، وما يزال بهم حتى يشعر هو بالنصر ويقول في النهاية: «فلما خبرناهم نفضنا اليد عنهم.»
وهو مع المتصوفة يدرسهم ويدرس طريقتهم التي هي تصفية النفس وإرهاف الذوق بالعمل حتى يحصل الحال، فهو يدرس هذا ويعرضه، ويعيب عليهم بعض سلوكهم، ولكنه بعد هذا يأخذ مبادئ السالمية والكرامية ويزيل عنها بعض الغموض ويوسع جنباتها حتى تصبح عند أهل السنة دعامة يمكن أن يقوم عليها صرح العلم في نظرهم، هذا شأنه مع المتصوفة ومسالكهم، أما شأنه مع التصوف فله معه حال بعد أن تتم جنبات الخصام، يعرض خصومته في أعلى صورها عند الفلاسفة وهم صنف من «أصناف الطالبين »، ولكن موقفه معهم وموقفهم معه لم يكن من السهولة واليسر كما كان مع بقية «أصناف الطالبين»، إنما هنا الخصام يتسع اتساعا قويا حتى يكاد يلون أفكار الرجل جميعا، ويستغرق معظم تفكيره، وهذه الفترة الحية من تفكير الغزالي حافز يستغرق الماضي من طرف، فهو ينازع أفلاطون وأرسطو من قبل وينازعه ابن رشد من بعد.
وعندنا أن لهذا الخصام في جملته غرضا واحدا له مظهران: فأما الغرض فهو أن يتزعم الغزالي حركة قوية ضد جملة المذاهب الفلسفية التي قامت في الشرق على أصول يونانية فيكسب بذلك نصرا للدين ويكتب في عداد المصلحين والأبطال المجاهدين، أما أن الغرض أخذ مظهرين، فذلك يبين من أسلوبه في النضال، فمن الناحية الأولى يدرس الغزالي المسائل الرئيسية التي يدور حولها حديث الفلاسفة عادة ويعرضها عرضا علميا رائعا، يدل على دقة الفهم لما يقرأ، وقدرة العرض لما يفهم، فأنت تقرأ في «مقاصد الفلاسفة» فكأنما تطالع لمؤلف في الجيل الحاضر، فهو يعرض المنطقيات والطبيعيات والإلهيات كأحسن ما يكون العرض، ثم هو بعد أن ينتهي من هذا يشرع في تنفيذ الجزء الباقي أو المظهر الثاني لغرضه، وهو مناهضة هؤلاء الفلاسفة بالفعل، فيحاول أن يكشف عن تهافت حجتهم وفساد أدلتهم في كتاب قيم هو «تهافت الفلاسفة»، وطريقته في ذلك لبقة حقا فهو يصطنع لهم ما يصطنع القائد الماهر، فيحمل سلاحا من جنس أسلحتهم «المنطق»، ويحصر موضع النزاع، ويقسم ميدانهم «طبيعيات ورياضيات وإلهيات ومنطقيات، ويضيف في المنقذ السياسة والأخلاق» ويتوزع - إن جازت الاستعارة - هذا الجيش على جناحين وقلب؛ أما الجناحان فهم طائفة الدهريين وطائفة الطبيعيين، وأما القلب فهم طائفة الإلهيين؛ والطائفة الأولى تنكر الله وتزعم أن الوجود موجود بالذات ومن الذات، والطائفة الأخرى لا تجعل للصانع إلا مكانا ضيقا في فلسفتها.
وطائفة القلب مثال - سقراط وأفلاطون وأرسطو - هم شر من سابقيهم؛ لأن موضوعهم هو بالإلهيات وتلك حظ مشترك بين الكفر والإلحاد ليس بالإضافة إليهم وحدهم، بل ويتدرج معهم من تناول هذا الموضوع على طريقتهم، «ففي الإلهيات أكثر أغاليط الفلاسفة» فقد خانوا فيما يزعم طريقتهم البرهانية التي يصطنعونها في المنطق والرياضيات وبنوا معرفتهم في هذا النوع من المعرفة على ضرب من التخمين والظن، فالجيش كله إذا - سواء منهم من في القلب ومن في الجناحين - زنادقة ملاحدة، فيحشد لهم من قلبه عواطف ومن عقله أفكارا ليرد عارمهم عن حوزة الدين، ولكن العواطف لن تفعل في هؤلاء فأصبحوا لا ينفعلون، وهم بهذه الوسيلة لا يرتدون، ولكنه يستفيد من هذا السلاح كشارة تراجع يأمر بها المسلمين أن يرتدوا عن هذا الحصن، حصن الفلسفة، فيحرض المسلمين على مقاطعتها، ويحذرهم ألوانا من التحذير، وينشأ يصور لهم آفاتها في أبشع تصوير، فهي قد تعدو على التوحيد من طريق مباشر أو غير مباشر، ويتدفق الرجل في التخويف والتحذير حتى يبلغ حدا من التصوير شائقا حقا، يقتنع معه هو بتراجع الإسلاميين عن هذا الخطر، فإذا هو اطمأن إلى هذا ونال بسلاح القلب ما أراد اندفع بمفرده كالسيل يقابل أعداء وخصوما لا يعرف طريقة نزالهم وعدتها عامة المسلمين، فينفرد لهم هو واحدا في ميدان العقل فيصاولهم بالمنطق فيبني أدلته على قانون التناقض، ويفسد عليهم رأيهم في قانون السببية، ويأخذهم من طريقة أخرى هي طريقة الإلزام، فيقول: «فألزمهم تارة مذهب المعتزلة وأخرى مذهب الكرامية، ولا أنتهض ذابا عن مذهب مخصوص، بل أجعل جميع الفرق إلبا واحدا عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد.» (التهافت ص13-14).
كما ينهض لرد الإلهيات من طريق لا يقل حصافة عن سابقه، فهو لا يدخل لهم إلا دخول مطالب منكر لا دخول مدع مثبت، وهو يلجأ إلى هذه الطريقة فيما يبدو لغرضين؛ لأن ذلك المبدأ يجري مع أصل من أصول الإسلام، يقول: «البينة على من ادعى»، والغرض الآخر ينكشف فيه وجه الطرافة ذلك أنه - فيما يبدو - يحرص على هذا المبدأ يأخذ منه ستارا يقف من ورائه حذر أن يخوض مع الفلاسفة مسائل قد يعتاص عليه حلها، ومن ناحية أخرى قد يكشف الحديث فيها عن خبرته ومدى معرفته بالفلسفة وخصوصا مسائلها الدقيقة، فلم لا يأتي من أخصر الطرق فيجادلهم في المسائل المعروفة، ويعارض مسائلهم بإشكالات مثلها، ويلزمهم على أصولهم إلزامات لا يقبلها العقل، فيوقفهم منه موقف الإحراج.
وكتاب «تهافت الفلاسفة»، ليس إلا مجالا لهذا النزاع بينه وبين هؤلاء «الملاحدة» ويعيي الرجل الجهد فيتصور أن هذا الجيش قد أكل قلبه الجناحين، ثم بعد أكل هذا القلب بعضه بعضا، ويظهر هذه الصورة وهذا الأمل فحوى هذا النص: «الصنف الثالث: الإلهيون: وهم المتأخرون، منهم: سقراط وهو أستاذ أفلاطون، وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس، وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم،
وكفى الله المؤمنين القتال
بتقاتلهم، ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبله من الإلهيين، ردا لم يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم، إلا أنه استبقى أيضا من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزول عنها، فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وغيرهما.» (المنقذ 85-86)، وإلى هنا يعيننا الحديث على أن نكشف صورتين يبين بهما مدى تفاعل هذا الجهد العنيف ومبلغ أثره وتأثره في المحيط والوسط وفهم الصور الباقية لحياة الرجل الروحية، وليست هاتان الصورتان إلا الصورة المنطقية للخصومة والصورة النفسية لها.
الصورة المنطقية:
إن النظرة العقلية المتتبعة للذهن الإسلامي في مراحل نموه وترقيه وملاحظة الخصومة في وضعها المتجرد بين الخصم والخصوم وانتقال الخصم في ميادين الخصام، وعلى الأصح ترقيه من مجال إلى مجال فوقه ليظهر أن التطور المنطقي للفهم النوعي للتفكير الإسلامي هو التطور المنطقي للخصومة، وهو أخيرا التطور الفردي للتفكير الغزالي، فالعقلية الإسلامية تقف عند المسلمات في طورها الأول ممثلة في النصوص الدينية من قرآن وحديث، وهي بعد تريد أن تمس العقل من بعيد فيكون لها ذلك على يد فقيه كبير هو أبو حنيفة النعمان الذي فتح بالقياس مسربا يسيل منه الدين إلى العقل حتى يكاد يوازيه عند المتكلمين، ثم بعد يريد الذهن الديني أن يصعد عند متفلسفة الإسلام إلى موضع يكون أو ينبغي أن يكون عنده قواعد اعتقادية مجردة منضبطة بضوابط منطقية، هذا تطور الذهن الإسلامي إلى القرن الخامس الهجري، ويوازي هذا تطور الخصومة، وليست فترات النضال إلا فترات الانتقال من مرحلة إلى مرحلة حتى بلغ النضال مرحلته الأخيرة في النضال الفلسفي، وواضح من إضمار الخصومة للفرد العقلي الفردي أن الغزالي آثر محاذاة هذا العقل المفرد وتلاحقه بالصور والأطوار السابقة، والتي استبقينا عندها الذهن الغزالي في مرحلته هذه عند آخر مراحل للذهن النوعي الإسلامي، والتي استبقينا عندها الغزالي يدرس الفلسفة ويخاصم الفلاسفة ويعرض مشكلاتهم، هذه هي الصورة المنطقية التي تبين بما يوازيها من الصورة النفسية الآتية.
الصورة النفسية:
لكن هذه الصورة عسيرة، لأنها دقيقة، ولأنها لا تستلزم من الباحث وحسب الملاحظة المباشرة لمادة اللفظ وضوابط المعنى، بل تلزمه التمرس بالحياة الإسلامية من ناحية ومعاشرة الغزالي إن صح هذا التعبير فيكسب بذلك ألفة، يفهم منها مكنونات الذهن ومضمرات الحديث ومراميه، ويكاد دارسو هذه الناحية لا يتفقون عند صفة نفسية واحدة للروح الجمعي الإسلامي وإن كانوا قد وقفوا على بعض الصفات للنفسية الغزالية.
ونستطيع أن نقول: إن الذي يراقب النفس الغزالية عن كثب يلحظ صورا روحية قد تخالف في الظاهر ما يعرضه الرجل منضبطا في صور وقوالب منطقية، ولكنها في الحق تلتقي معها عند أصل واحد بعيد، هذه الصور الروحية التي تستجيب الواحدة للأخرى استجابة التأثير للمؤثر لا الاستجابة المحتومة بالقيد العقلي بين النتيجة والمقدمة، والفرق واضح بين منطق القلب ومنطق العقل.
هذه الصور التي تستجيب الواحدة منها للأخرى تلاحظ بينها وبين الطموح والوثوق القلبي لا «العقلي» نسبة وعلاقة، ومرد هذا طغيان السمة الشعورية على السمة العقلية وانتشار المجال الذاتي وتقلص النظر الموضوعي، مما لا نكاد نجد له شذوذا في أي من الظواهر الجمعية الإسلامية بل لا نكاد نسمع له نشوزا عند أية عبقرية إسلامية، والعبقرية الغزالية عبقرية تجمعت لها بما هي به عبقرية نداءات الروح الإسلامي الموزعة في جيله وصدرت عنه هذه النداءات كلها في صوت موحد وفي نفس منفرد، ولكنه انسجام للروح الجمعي واتساق للفكرة الإسلامية ، وليست ألوان التحمس التي كانت تفلت من يده أحيانا في ميدان المعقولات فيعرض بالفلاسفة في مناسبة وغير مناسبة إلا أطراف الطبيعة الذاتية والشعرية في هذه النفس الفردية، تصلها بأصولها الكامنة أطرافها الأخرى في طبيعة العقل الجمعي الإسلامي.
وبعد هذه الموازنة بين العقل الجمعي والعقل الفردي نستكمل الصورة الأخيرة من نفس الغزالي، والتي يبلغ بتمامها تمام الصور الروحية له، إذ هذه الصورة تضع نفسها فوق مرحلة النضال الفلسفي وتتوجها.
أعلى الصور:
والوثبة التي تلي هذا النضال الفلسفي أو الصورة التي تعلو عليه والتي نجدها عنده هي حالة الشك، والحق أن هذه المرحلة لا تزال «غفلا» مع سمو منزلتها، فإن علة هذه الحال لا تفسر فقط تمام الحياة الغزالية إنما قد تنفض بعض الغبار عن حواشي التفكير الإسلامي، ويرجع في نظرنا من بين ما يمكن افتراضه للتعرف في هذا المجال العلي على السبب الذي يشرح هذه الحال، فرض أن الغزالي كان عليه بعد الوقوف على الاتجاهات الفلسفية وفهمها نوعا من الفهم معارضتها نوعا من المعارضة.
الروحية من وراء المادية
هناك قوة أو حياة روحانية خلف الحياة المادية الظاهرة. وهنا يقول الأستاذ أحمد أمين بك: إن كنت ذا مزاج علمي فانظر الله في هذا النظام العجيب الدقيق في العالم، من أصغر ذرة إلى أرقى قسم، من الحصاة إلى الجبل، من البذرة إلى الشجرة، من الحشرة إلى الإنسان، من السديم إلى الشمس، من الأرض إلى السماء، تجدها كلها مكونة تكوينا واحدا في ذراتها، خاضعة لقوانين واحدة في سيرها، فلم يخبط منها شيء خبط عشواء، ولم يسر منها شيء حيثما اتفق، إنما هو النظام الدقيق والقانون المحكم والعقل الكلي المسيطر على الجميع، ولو كان العالم وليد الاتفاق البحت والمصادفات المفاجئة لاختل نظامه وما بقي لحظة.
وكلما تقدمنا في العلم تقدمنا في اكتشاف القوانين، وما لم ندرك قوانينه فجهل بها لا خلو منها، ولولا هذه القوانين المنظمة الشاملة المبثوثة في العالم والتي يخضع بها خضوعا دقيقا لم يكن شيء اسمه العلم ولكان العلم مستحيلا، فليس العلم إلا طائفة من القوانين لجزء من أجزاء العالم، ولكانت الفلسفة مستحيلة، فليست الفلسفة إلا اكتشاف القوانين الكلية للعالم، ولا شك أن العالم محكوم بقوانين معقولة يتجاوب معها عقلنا، وإلا كان الفهم أيضا مستحيلا.
وأعجب ما في هذا النظام قوة ارتباط أجزاء العالم ارتباطا يجعله وحدة، فإن رأيت طفلا بلا أسنان فثم لبن، وإن نبتت أسنانه فثم ما يمضغ وإن رأيت معدة فثم أسنان، وكل مجموعة من خلايا الإنسان تقوم بوظيفة لا يقوم بها غيرها. فأنت إن قلت نظام شامل وقوانين شاملة ووحدة كاملة وعقل مبثوث في جميع الأجزاء فقد قلت: «الله»، وإذا قلت: «الله» فقد قلت كل شيء.
قال أبو سعيد بن أبي الخير الصوفي:
أخذني شيخي من يدي وأجلسني في إيوان ومد يده فأخرج كتابا وأخذ يقرأ، فتطلعت إلى معرفة هذا الكتاب، فلمح الشيخ هذه الحركة فقال لي: يا أبا سعيد «إن مائة وأربعة وعشرين ألف نبي بعثوا ليعلموا الناس كلمة واحدة وهي «الله»، فمن سمعها بأذنه فقط لم تلبث أن تخرج من الأذن الأخرى، أما من سمعها بروحه وطبعها في نفسه وتذوقها حتى نفذت إلى أعماق قلبه وباطن نفسه وفهم معناها الروحي فقد انكشف له كل شيء.» إن الذين يكتفون بذكر اسم الله من غير عقل ولا قلب، ومن غير تفكير وتذوق، كمريض يعالج مرضه بترديد اسم الداء من غير أن يشرب نفس الدواء.
وإن كنت ذا مزاج فني فانظر الله في جمال العالم، وفكر في القوة التي نشرت هذا الجمال في كل شيء في اتساق وانسجام، انظره في جلال البحار وعظمة الجبال، وفي جمال الشمس تطلع وفي جمالها تغرب، وفي جمال الأشكال والألوان، في هندسة المحار، في شرشرة أوراق الأشجار.
إذا رق شعورك اهتز قلبك للصباح الباكر وجماله وجوه وأرضه وهوائه، وتشربته في لذة كما تتلذذ الماء البارد على ظمأ، وخفق للبحر وأمواجه وحركاته كأنه يجري في عروقك، وراعتك السماء ونجومها حتى كأنك تسكر من تردد النظر إليها، وغمرك زهو بهذا العالم كأنك وارثه ومالكه، وطربت من نغمات العالم، فخفق قلبك يناغمها، وأحببت العالم وما فيه ومن فيه، لأنه مصدر هذا الجمال الذي يبهرك وأحببت نفسك، لأنك تحب هذا الجمال، وأخيرا انبعثت من أعماق نفسك كلمة «الله» تغذى بها هذا الشعور الفياض المتموج ناشرا هذا الجمال، ولم تجد خيرا من أن تقرأ قوله تعالى:
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون * يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون * ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون * ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون * ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين * ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون * ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون * ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون * وله من في السماوات والأرض كل له قانتون * وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .
هذا العالم بروحانيته العقلية وبروحانيته الفنية كتاب مفتوح للناس جميعا، لا فرق بين متعلم تعلما عاليا وغيره، بل قد يستفيد منه الأمي أكثر من المتعلم، والأمر يتوقف على الاستعداد وحسن التذوق وحسن التوجيه، وقد يستفيد إنسان من نظرة في حجر أو زهرة أو شجرة أو ثمرة ما لا يستفيد من معلم أو كتاب.
وكثير من الناس يخشون الآن كلمة الروحية، وخاصة المتعلمين ودعاة الإصلاح، وقد يرون أنها ضرب من الرجعية ومن آثار القرون الوسطى، والذي دعاهم إلى هذا أنه إذا ذكرت الحياة الروحية ذهب خيالهم إلى الأديرة وسكانها، والتكايا المنقطعين إليها، ورجال الذكر والموالد والمشعوذين من رجال التصوف، والدجالين من المنجمين وأمثالهم ممن هم عالة على الناس، فهذه الروحانية المزيفة، إنما نعني بالحياة الروحية حياة تؤمن بأن هذا العالم ليس مادة فحسب، وأن سيره لا يمكن أن يفسر بقوانين «داروين» وحدها من الانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء، وبقاء الأصلح، فإن هذا إن صلح تفسيرا للتطور فلن يصلح تفسيرا لحياة الخلية وحياة العالم، ففينا بجانب المادة روح، وفي الأحياء روح، والله من ورائهم محيط.
وهذا الروح الأعلى هو الذي أودع في العالم قوانينه، ونشر فيه جماله، واتصال الإنسان بهذا الروح يسمو به، ويعلي من شأنه، ويرفع من ذوقه.
لعل أسمى ما قرره الإسلام ودعا إليه «الوحدانية» ولذلك كان شعاره دائما «لا إله إلا الله»، فالله خالق كل شيء من سماء وأرض وجبال وبحار وأشجار وحيوان وإنسان، هو رب العالمين لا رب غيره، وهو القادر على كل شيء، مدبر الكون وواضع قوانينه ومؤلف نظمه، وهو العالم بكل شيء:
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ، كل شيء في الوجود يستمد منه وجوده وحياته، لا خلق إلا خلقه، ولا قوة إلا قوته، هو الحق وهو العدل، وهو المثيب على الخير والمعاقب على الشر:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
هذه العقيدة بالوحدانية تكسب معتنقها قوة وعزة، فالله وحده هو القوي وهو العزيز، ليس الناس كلهم إلا خلقه، متساوين في الخشوع لقوته، والانقياد لإرادته، هو وحده المعبود، وهو وحده المستعان:
إياك نعبد وإياك نستعين ، ومعتنق الوحدانية ليس عبدا لأحد إلا الله، فهو في العالم حر؛ لأن العالم ليس له إلا سيد واحد وهو الله، وأما باقي الناس فإخوة متساوون، فعقيدة الوحدانية كما تتضمن سيادة الله وحده تتضمن أيضا أخوة الإنسان للإنسان، فلا سيادة أجناس، ولا استعباد ملوك، ولا استبداد طغاة، ولا اعتزاز بنسب أو مال أو جاه أو قوة، ولا خضوع لمن يريد أن يتصف بصفات الله زورا، من بسط سلطان وفرض حماية ومحاولة استعباد، إن حاول أحد ذلك قال المؤمن : «لا إله إلا الله» مدركا معناها رافضا ما عداها.
عقيدة الوحدانية تشعر الإنسان بالنبل والسمو، فخضوعه لله وحده يشعره بالتحرر من سيادة أحد عليه، سواء في ذلك سيادة الناس أو سيادة قوى الطبيعة، فليس النيل معبودا تقدم إليه الضحايا، ولا العواصف والنجوم والشمس والقمر مما يخشى بأسها، ولا يخضع للظلم؛ لأن الله نهى عن الظلم وعن طاعة الظالم أيا كان، وهو لا يخضع لجبروت من أي صنف، لأنه ليس لأحد حق الجبروت، ولكن له حق الأخوة.
إن الذي يريد أن يستعبدنا يريد أن يكون إلها و«لا إله إلا الله»، والذي يريد أن يكون سيدا طاغيا يريد أن يكون إلها, و«لا إله إلا الله»، والحاكم الذي يريد أن يذلنا يريد أن يكون إلها و«لا إله إلا الله»، إنا لا نقبل من إنسان أيا كان ولا من أمة أيا كانت إلا أن يكون أخا أو يكونوا إخوة، فأما السيادة والاستعباد فلا؛ لأنه لا إله إلا الله، إنا لا نقبل أن نشرك مع الله أحدا غيره مهما كانت منزلته، ولو كان نبيا مرسلا، فلا نتقرب بالنذور إلى الأولياء، ولا نمنحهم شيئا من القداسة، ولا نعظم الحكام تعظيم عبادة، ولا نخضع لهم خضوع ذلة، إنما نطيع فيهم العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا وحده هو الذي يتفق ولا إله إلا الله، ليس يستعبدنا المال ولا الجاه ولا القوة، لأنها أعراض زائلة وليست من الألوهية في شيء ولا إله إلا الله.
والوحدانية الخالصة - مع بساطتها ومعقوليتها - من أصعب الأمور على النفوس تحتاج في اعتناقها إلى نوع من السمو، كما تحتاج إلى حياطة تامة حتى لا تشوبها شائبة من وثنية، لأن الناس سرعان ما ينزلقون إلى الشرك.
اليونانيون ألهموا قوى العالم، والفرس اختصروا الآلهة إلى اثنين: إله الخير وإله الشر، وجعلوهما يتنازعان، والعرب ملئوا الكعبة أصناما، فلما أتى الإسلام وحطمها ودعا إلى الوحدانية الخالصة وجعل لا إله إلا الله شعارها في كل مناسبة؛ في الأذان، في الصلاة، في كل عارض، لم تلبث بعض النفوس أن تسربت إليها الوثنية في أشكال خفية؛ بدأ بعض المسلمين يعظمون شجرة بيعة الرضوان، فقطعها عمر، وبدأ بعضهم يعظم أهل بيت الرسول تعظيما يقرب من العبادة، فنهاهم علي، ثم سال سيل الوثنية على الأيام، وامتلأ العالم الإسلامي بأقطاب يتصرفون في الكون تصرف الله، وأقيمت الأضرحة تقدم إليها النذور ويستشفع بها ويتقرب إليها كأنها آلهة، وانقلبت الخلافة إلى ملك عضوض، فالحكام كانوا يأمرون ولا راد لأمرهم، ويتصرفون ولا معقب لحكمهم، وذهب معنى أخوة الحاكم للمحكوم، وحل محله نوع من الألوهية، واستعبد الناس من ناحية الدين، واستعبدوا من ناحية الدنيا، وذهب معنى «لا إله إلا الله» إلا من قلوب الخاصة.
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون .
لكل زمن وثنية، ولكل حضارة أصنامها، حتى هؤلاء المثقفون المتعلمون العاقلون الذين يهزءون بعبدة الأحجار وعبدة النجوم قد يحجبون هم أنفسهم عن الوحدانية بضروب دقيقة من ضروب الوثنية.
إن المعبود الأول اليوم في المدنية الحديثة هي الآلات الصناعية، لها تتجه الأنظار، وإليها ترفع أكف الدعاء، وإياها يعبد أرباب رءوس الأموال، ولها يستعبد العمال، ومنها تشتق المبادئ السياسية والتعاليم الأخلاقية، وبقوتها تستعبد الأمم وتثار الحروب وتطعن في الصميم الأخوة الإنسانية.
1
إن المذاهب السياسية من ديمقراطية وفاشية واشتراكية وشيوعية مؤسسة عليها وناظرة إليها، والنظريات الاقتصادية مشتقة منها ومتفرعة عنها، والإنسان يشقى بهذه الآلات لتأليهها، وكانت تكون نعمة عظمى ومصدر سعادة كبرى لو نظر إليها في ضوء وحدانية الله بشقي معنييها من تأليه الله وحده وما تستلزمه من أخوة الإنسانية، وبعد فما أكثر من يقول: «لا إله إلا الله» وما أقل من يعتنقها!
هل أنت روحاني؟
يقول «آرثر ترين» في مجلة «سكربنر»: قليل منا من تواجهه بعض تجارب تافهة أو محيرة تشبه ما يكون في سجلات جمعيات المباحث الروحانية، وقد رأيت عددا منها كان له أثر بالغ في نفسي حين وقوعه وجعل بعض صحابي يعدونني «روحانيا»، ولكني كنت محاميا قد مرن على الدقة في تمحيص الأدلة وتحليلها فلم تقنعني هذه التجارب بأن في نفسي قوى روحانية.
عرفت بعض المعرفة صبيا اسمه تايلرمورس أيام طفولتي في بوسطن، ولم أره بعد ذلك ولا خطر ببالي، حتى قرأت عرضا - بعد انقضاء حوالي أربعين حولا - أنه انتقل إلى نيويورك، وأنه كان حكما في معرض كلاب بجهة ما في لونج أيلاند، وللمرة الثانية بدا لي أن تايلرمورس غاب عن ذاكرتي الواعية بتاتا، ومضى ما يقرب من خمس سنين، فبينا كنت أسير في نيويورك أخذت أفكر فجأة في تايلرمورس، ثم أخذ شعوري بأنه قريب مني يزداد شدة، وما أن اقتربت من الشارع التاسع والخمسين حتى ظهر تايلرمورس من معطف الشارع يقود كلبين في سلسلة.
انعقدت منذ حوالي خمسة عشر عاما أواصر الصداقة بيني وبين اللورد مونتاجيو أوف بوليو، وزرته في مقامه في بوليو آبي بمقاطعة هانتس، ثم تراسلنا الحين بعد الحين، حتى تزوج للمرة الثانية وأرسل إلي صورة شمسية لليدي مونتاجيو الجديدة، ولكني لم أتلق منه بعد ذلك شيئا حتى توفي في سنة 1929، وفي ربيع سنة 1932 بينما كنت أسير أنا وزوجتي في نيويورك مضينا نتحدث عن رحلة أزمعنا القيام بها إلى إنجلترا، ولم أكن قد فكرت في مونتاجيو مدة أربع سنوات، ومع أني لم أكن قد قابلت الليدي مونتاجيو الجديدة قط، فإن ما كنت أحتفظ به من ذكريات جميلة لصداقتي بزوجها اقتضتني أن أقول: إن أغلب من كنت أعرفهم في إنجلترا لم يبق منهم أحد حيا، فإذا قمنا بهذه الرحلة فإن علينا أن نذهب إلى بوليو آبي لزيارة الليدي مونتاجيو.
ولما عدنا إلى منزلنا بعد ذلك ببضع دقائق وجدت كتابا من الليدي مونتاجيو تذكرني فيه بسالف صداقتي لزوجها، وتخبرني بأنها مقيمة في أمريكا، وهو شيء كنت أجهله كل الجهل.
ولا أراني أميل إلى أن أرجع هاتين الحادثتين إلى الإيحاء العقلي أو إلى كشف الحجاب، بل إلى مجرد الصدفة، ولا يجب أن يعزب عن بالنا أنه إذا كانت الأفكار تتراكض في سرعة هائلة كسرعة الضوء، فليس من المستغرب أن تتطابق هذه الأفكار أحيانا، وأنه لا يكفي أن تحصى مرات «الإصابة» دون مرات «الخطأ»، فإن تطابقها مرتين خلال ستين عاما لا يعد رقما عاليا.
ومنذ حوالي ست سنين، رأيت رؤيا واضحة تمام الوضوح، فقد رأيتني جالسا في حفل كبير ويدي اليمنى على ذراع المقعد، وإذا طير في حجم الببغاء قد حلق فوق رءوس المدعوين، وجهه وجه امرأة ناصع البياض، ذو شفتين حمراوين قانيتين، ثم أخذ يحوم حولي، وأخيرا استقر على رسغي، وأمال رأسه ناحيتي وحملق في، ثم قال: «اسمي ولهلمينا.»
وقصصت رؤياي على زوجتي ونحن نتناول الإفطار صباح اليوم التالي، فسألتني: «أبين من تعرف امرأة اسمها ولهلمينا؟» أجبتها: لا أعرف إلا ملكة هولندا، وفي اليوم نفسه رغبت إلي زوجتي أن أصحبها لمشاهدة هوديني الساحر الشهير، ولما لم أكن قد رأيت ألعابه من قبل، فقد وجدت في نفسي إقبالا على مشاهدته، فلما رفع الستار، جاء هوديني إلى مسرح خال، وفرقع بأصابعه، فطار من الأجنحة إلى المسرح سرب من الحمام، وبعد أن حلق فوق رءوس الحاضرين عاد أدراجه إلا حمامة واحدة، حمامة كبيرة متميزة ذات وجه ضارب إلى البياض، وجعلت تحوم حولنا، وهي تهبط شيئا فشيئا، ومد الساحر ذراعه اليمنى فاستقرت عليها، ثم دنا من أنوار المسرح الأمامية والحمامة مستقرة على رسغه وأدار ذراعه حتى خيل إلي أن الحمامة إنما تحدق في، ثم قال: «اسمها ولهلمينا.»
عند ذلك اعترتني رعدة، سرت في مفاصلي، وسألتني زوجتي: «هل رأيت هوديني يقوم بهذا الدور من قبل؟» فأجبتها صادقا: «لم أره يمثل أدواره من قبل، بل لم أر مثل هذا الدور من قبل، بل لم أسمع به.»
وتوفي والدي لخمسين سنة خلت، وكان محاميا شهيرا، وكنت يومئذ في الثامنة من عمري، وكانت عادتنا أن نقضي إجازتنا في نزل خشبي بسيط في بعض الجبال، إذ أقمت مع أبي وأمي في حجرتين متصلتين، وكان ملازما لفراشه عدة أسابيع، ولكن لم يكن خطر ببالي أنه مريض مرضا خطيرا، وفي ليلة هادئة الريح، كنت مستغرقا في النوم عدة ساعات وإذا بي أصحو على صوت ثلاث طرقات على باب والدي، تملكني الذعر وناديت أمي خلال الباب المفتوح بين الغرفتين: «بالباب طارق يا أماه»، ففتحت أمي الباب المؤدي إلى الردهة من فورها، وكانت هي أيضا قد سمعت هذه الطرقات كما سمعتها الممرضة، ولكنها لم تجد أحدا، ولم أكد أجمع شتات نفسي لأعاود النوم حتى تكررت الطرقات الثلاث ولكن على باب غرفتي، فنفضت والدتي الردهة بنظرها مرة ثانية، ولكنها كانت خالية كما كانت من قبل، أغلقت الباب وجاءت إلي ووقفت إلى جانبي، ولم تكد تفعل ذلك حتى سمعنا للمرة الثالثة ثلاث طرقات على باب غرفة والدتي، فقفزت من فراشي مذعورا وأجلت بصري في الردهة المضاءة وأنا أرتعد، وأنا أقطع في غير شك أو تردد بأن الردهة كانت خالية ليس بها أحد، وإذ أخذت أعود أدراجي سائرا على أطراف أصابعي همست الممرضة وهي جاثية على والدي: «لقد مات مستر ترين.»
إني أعرض الحوادث السالفة في صدق وأمانة، وهي صحيحة من كل وجهة على قدر ما يسمح به قصوري الشخصي كشاهد، وأزعم أنه قد يغتفر لي اعتقادي بأني «روحاني»، أو أن عقلي الباطن - على الأقل - كان على اتصال في تلك الأوقات بعقل آخر، سواء أحيا كان صاحبه أم ميتا، على أني لا أعتقد - وإن كانت جميع العوامل غير معروفة لنا - أن تلك الحوادث لا تقبل التفسير العلمي، وفي غير حاجة إلى اللجوء إلى فرض الإيحاء العقلي أو كشف الحجاب، بل إني مستعد أن أعزو ما تخيلته من طرق على باب غرفة والدي حين حضرته الوفاة على حالة الصبية أو حساسية حادة مرهفة في ذاك الوقت لسماع الأصوات المادية، الطبيعي منها والعارض، ولكن حادث ولهلمينا يعييني تفسيره، غير أن هذا لا يحملني على أن أسارع إلى نتيجة الرأي القائل بأني على اتصال بعوامل خارقة للعادة، بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك وأقول: إني أفضل أن أشك في صدق ما أجده، على أن أقبل تفسيرا لا يتفق مع ما أثبتته التجارب الإنسانية واتجاهاتها بوجه عام، بل إني أوثر أن أدعها دون تفسير، على أن أقبلها دليلا على كشف الحجاب.
إن مثل هذه الحوادث تنقصها عناصر أخرى، ولا يمكن الركون إليها، بحيث تعد مقدمات تبنى عليها نتائج خطيرة.
فلسفة «يوج»
«يوج» معناه بالسنسكريتية الاتصال والانضمام ، وهو اسم يطلق في الفلسفة الهندية وديانتها على مذهب خاص، وخلاصة ذلك المذهب وتعليمه - كما هو عند جميع المذاهب الصوفية - الإصرار والتأكيد على أن هناك إمكانا للاتصال المباشر مع الله، وذلك برفع مستوى الإنسان عن مستواه الطبيعي، ومتى ارتفع الإنسان إلى ذلك المستوى نال - عند أصحاب هذا المذهب - النجاة النهائية من جميع أدوار التناسخ، وعلى هذا يشتمل المذهب أساليب وقواعد ونظما وأصولا يرفع التمرين عليها مستوى التمرن.
يتأسس هذا المذهب على الاعتقاد في أن فهم الإنسان عاجز، لا يقدر على أن يدرك الحقيقة إدراكا تاما، لذلك يشبه أصحابه العقل الإنساني بمرآة تنعكس فيها الحقيقة، فوضوح العكس أو غموضه يتوقف في الحقيقة على قسط جودة المرآة وصفائها، كذلك القدر الذي نعرفه نحن من الحقيقة فإنه يتوقف على حالة عقلنا ووسائله أكثر من أن يتوقف على شيء آخر؛ لأن وضوح ذلك القدر من المعرفة وغموضه أو كماله أو نقصه يرجع في الحقيقة إلى تلك الحالة، فالألوان مثلا لا تظهر للأعمى، ولا يسمع الأصم الموسيقى، كما لا يفهم ضعيف العقل الحقائق الفلسفية، مع أن الحقيقة في كل من تلك الأمثلة هي لم تنقص من عدم ظهورها للأعمى، ولا من عدم سمع الأصم ولا من قصور ضعيف العقل عن إدراكها، وعليه فأسلوب المعرفة لدى أصحاب هذا المذهب ليس بخلقي كما هو اكتشافي ولا إنتاجي كما هو إلهامي، لذلك يكون الاكتشاف أو الإلهام عندهم ناقصا إذا وجد الفساد في الآلة أو عرض لها النقص.
1
إن الأغراض الذاتية والعواطف الذاتية والعواطف الخاصة تحول دائما بين آلة العقل وبين الحقيقة الملهمة، فإذا أثرت شخصية الموضوع على طبيعة الآلة أصبح العكس ناقصا، كذلك جهل المشاهد للمشهود يجمع دائما أوهامه حوله؛ لأن ميول المشاهد السائدة تتسلط في تلك الحالة على حقيقة المشهود، فتصوره له تصورا خاطئا، لذلك كان الخطأ لديهم في الحقيقة هو هجوم نقائص الآلة على الحقيقة، وبناء عليه يحتاج الأمر إلى موقف معتدل مجرد عن الشخصية لاكتشاف الحقيقة، فإن ما يرجع إلى الشخصية يعارض الموقف الكاشف للحقيقة بطبعه طابعا غير معتدل، والخروج عن الاعتدال فيه فوت الغاية ومرتع الضلال، فكيف يمكن إذن اتقاء هذا الضلال وصيانة عقولنا من الخيبة؟
يقدم مذهب «يوج» طريقا لذلك، ويرشد به إلى تصفية العقل وتحسين المرآة، والطريق هو الاجتناب عما هو مختص بمكونات الشخصية، فيزف إلى الطالب مناهج يمكن له أن يرتفع بالعمل عليها إلى علو مستحكم الأسباب، تنعدم فيه شخصيته المكونة من عواطفه وهواه، وهو علو تقدر منه ذوات المواهب الخاصة على أن ترى رؤياهم البعيدة الغور رأي العين.
إن شعورنا الطبيعي يولي ظهره للعالم الأبدي غير المرئي ويضيع في العالم المادي الفاني منبوذا بالعقل لأجل آثار الحواس، فحينما ترتفع عن ذاتنا الاختبارية لا نصل إلى سلبها بل إلى قوتها؛ لأن الذات إلى أن تكون مقيدة بحوادثها الاختبارية لا تشغل عزيمتها كلها، فإن حدود تلك الحوادث المحصورة الضيقة تحول دون ذلك، ومتى علت الذات حدود الوجود الاختباري تقوت الحياة بأسرها فأحرزنا به غناء الذات أو تضخم الشخصية وجذب هذا الغناء أو التضخم إلى نفسه عالم التجارب بأجمعه، لأنه حين تحقق الذات شخصيتها في الأدوار الأولى بمركز معين ناشئ عن الحوادث الزمنية والمكانية لا يصبح عالم التجربة بأسره خاصا بها، لذلك يجب أن يغلب تماسكنا بدائرة ضيقة من التجارب، قبل أن نجمع في أنفسنا عالم التجربة بتمامه الذي مركزه ودائرته لله والإنسان، وحينئذ نصل نحن إلى الحالة التي لا فرق فيها بين الباطن والظاهر، فمذهب «يوج» يصر على أنه يجب أن يكبح المنظر الخارجي الباطل قبل أن تسنح فرصة الحياة والظهور للأمثل الباطني، ويجب أن نكف عن أن نعيش في عالم الظلال عيشة مخدوعة ضائعة قبل أن نقدر على أن ننال الحياة الأبدية.
فلأجل أن ننعم بحريتنا الحقيقية يجب علينا أن نتصور عقلنا ونقرنه بالأصفاد، فإنه هو الذي يربطنا بالأشياء الخارجية فيجعلنا عبيدا لها، ولن نبلغ عيشة مقتنعة مرضية ما دمنا ضحية للأشياء الخارجية والظروف المختلفة، ففي كاتها أو بانيشاد.
2
كما أن ماء المطر النازل على رأس الجبل يسيل إلى جميع نواحيه كذلك الذي يرى الفرق بين الأوصاف يجري وراءها في جميع النواحي، إن الماء الصافي المصب في الماء الصافي يبقى كما هو، هكذا يا جوتم! يكون ذات المفكر الذي عرف نفسه.
3
يشير به إلى أن عقل الإنسان الذي لم يعرف نفسه يتيه هنا وهناك كالماء المصب على قمة الجبل، ولكن متى عرف ذاته بصيانة عقله عن التأثير من محيطه المادي اتحد بعالم الحياة الراقي الذي وراء المظاهر المادية الفانية، فإن العقل إذا ألقي حبله على غاربه تشتت وضاع في أخاديد الرمال من بيداء العالم المادي، فالواجب على الطالب أن يكبله ويسوقه إلى الباطن لينال به كنزا مخفيا فيه.
ينادي المذهب «يوج» بأنه يجب علينا أن نقهر نطقنا ونحوله إلى الإحساس، والإحساس إلى الفكر، والفكر إلى الشعور العام، حينئذ فقط نقدر به على أن ندرك عمق الطمأنينة الموجودة في السرمدي، إننا لا يمكننا أن نبلغ العلو المنشود إلا إذا هدأت المصادر الخمسة للعلم وهي الحواس، وسكن العقل والفهم، والطريق لارتياد ذلك الهدوء والسكون هو تركيز أفكارنا وحواسنا في هدف واحد، ومحو الأهداف الأخرى، وتوجيه النفس بذلك إلى اتجاه جديد حر لا يلين للدواعي المختلفة العارضة لإخضاعها، فإن ما يضيع من قوى الفكر والفهم لدى الإنسان، ويبيد استعداد نفسه، هو توجهه إلى الأهداف الكثيرة وتصادمها المنتج له الفرح والترح بأهداف أخرى في المجتمع البشري.
هكذا يبين لنا مذهب «يوج» طريقا للسيطرة على النفس والحواس والعقل والفهم، وذلك للسلوك نحو الكمال. ودرجات المسلك ومنازله ومخاطره مذكورة مشروحة في كتبهم، لا يسمح لنا المجال بالاسترسال في بيانها هنا، ففلسفة «يوج» هي في الحقيقة سعي الهنود المنظم لبلوغ الكمال بالاستيلاء على العناصر المختلفة في طبع الإنسان سواء أكانت نفسية أم جسدية.
القضاء والقدر
أصدر الفلكي العالمي كميل فلامريون كتاب «أسرار الموت»، وفي هذا الكتاب قال فلامريون: من حوادث الاطلاع على المستقبل أن زوجة الجنرال الروسي جوتسكوف حلمت سنة 1811 كأن والدها - وكان حيا - جاءها ممسكا بيده أخاها الوحيد، وقال لها وسمات الحزن ظاهرة على وجهه: «انتهى عهد هنائك يا بنية، فقد سقط زوجك صريعا في بوودينو.» فانتبهت مذعورة ثم تماسكت وزال خوفها تدريجيا لما رأت زوجها نائما بقربها وهو على خير ما يكون من قوة وعافية مترابطة بأسبابها ونتائجها، فلا تكون نتيجة إلا وقد سبقها سببها، ولإرادتنا نصيب كبير في اختيار هذا السبب، فحريتنا الشخصية غير مفقودة بل تعد عاملا يضاف إلى غيره من العوامل الخفية التي يتألف منها النظام الأعلى لترابط الحوادث والحالات بعضها ببعض.
صحيح أن للإنسان جزءا من الحرية وجزءا من الاختيار فيما يقوله وينويه ويأتيه وهذا الجزء له تأثير على قدره في مجرى الأحوال والحوادث، جزء لا يمكن أحدا أن يدحض وجوده أو يحملنا على إنكاره، لأنه أمر وجداني لا سبيل لنفيه، فهو ثابت فينا ثبوت التصور والفكر والشعور، أنا الآن جالس على كرسي في مكتبي بين أوراقي ودفاتري، أحس تمام الإحساس بأني أستطيع أن أكتب أو أقرأ، أن أكتب في هذا الموضوع على تلك الصورة أو أقرأ كتاب كذا أو أقوم أو أقعد أو أترك مكتبي على الفور أو أبقى فيه ساعات متوالية وما إلى ذلك، هذه إحساسات واقع أثرها فعلا، فكيف يصح أن أقول أو يقال لي إنك مع ذلك يا فلان ليس لك شيء من الحرية والاختيار في قراءتك وكتابتك وقيامك وقعودك ولبثك طويلا أو يسيرا في مكتبك، وإذا قيل لي إن هذا الاختيار الذي يبدو لك هو ظاهر سطحي لا حقيقي، أجبت القائل: نعم إنه مثل وجود هذا الكرسي تحتي وهذا المقعد أمامي وهذا الباب عن يميني، إلى غير ذلك من الأشياء، فهل هي وهمية؟ كلا، لكنني لا أنكر أن حريتي فيما أنويه أو أفعله هي جزئية لا كلية مطلقة؛ إذ ينازع إرادتي في الشيء المقصود عوامل أخرى عديدة من طوارئ وميول وأخلاق، ومن تأثير الجو والمجتمع والعادة، وغير ذلك من سلسلة الأسباب العامة التي تتسلط على حوادث الكون، وتربط النتائج بأسبابها والمستقبل بالماضي، ولكنها تجعل أيضا في جملتها حيزا للإرادة البشرية، فإذا قيل: لو كان للإرادة البشرية شيء من التأثير لتحولت حوادث المستقبل المسطورة في لوح الغيب إلى شكل آخر حسب تأثير تلك الإرادة، إذا قال المعترض ذلك أجبناه: ومن أعلمك علم اليقين أن شكل الحوادث والحالات المسطورة في عالم الغيب ليس هو «الشكل الآخر» الذي نسبه إليه، ليس هو الشكل الذي عدلته قليلا أو كثيرا الإرادة البشرية، ولولا سلطة هذه الإرادة لكان الشكل المذكور منحرفا عما هو عليه.
والصحيح عندي أن حرية الإنسان في إجراءاته ليست مطلقة، ولكنها ليست معدومة، وبمقتضى نصيبها من تلك المؤثرات يترتب على الإنسان التبعة الأدبية، هذا هو المذهب المتوسط الذي يحاكي العقل والصواب في هذه المعضلة العظمى، وبهذا المذهب يمكن التوفيق ولو بوجه تقريبي بين حقوق الخالق وواجبات المخلوق، وإلى هذا المبدأ أشار المثل اللاتيني القديم القائل: «إن أعنت نفسك فالله يعينك.»
ولو كانت حرية الإنسان مستقلة تامة، وخياره مطلقا، لم يبق معنى للقدرة الإلهية أو لناموس الأكوان العام وأحكام القضاء والقدر، ولو كانت حرية الإنسان معدومة ولا أثر البتة لإرادته لما بقي معنى لمؤاخذته، ولم يكن فارق أدبي بين وجوده ووجود الجمادات، بل لكان من الأوهام الصبيانية والخزعبلات تفرقتنا بين الخير والشر وبين الفضيلة والرذيلة، وهل من فوضى أهول وأفظع من هذه الفوضى التي تسود الأرض والسماء يومئذ.
لا شك أن لكل إنسان مصيرا، وأن مصيره هو نتيجة أسباب عديدة ومؤثرات وفي جملتها إرادته ومساعيه، ولا شك أن كل حادث كبير أو صغير يحدث في العالم تقدمته أسباب وبواعث في سلسلة متصلة الحلقات، وهذه السلسلة لا بد من حصولها ولو اطلعنا في حاضرنا على ذلك الحادث الاستقبالي.
ومهما بلغ اعتقادك في القضاء فلا أظنك تستسلم إليه وتقول: إنه واقع لا محالة كيفما كان الأمر، بحيث إنك لا تلجأ إلى الطبيب، حين يقع ابنك أو أخوك في مرض شديد، وبحيث لا تستغيث برجال المطافي، حين تبدو علامات الحريق في بيتك، ومساعيك هذه حلقات في سلسلة الأسباب لوقوع ما سيقع، ولا تنس أن الحرية الجزئية أو الحرية النسبية التي ينعم بها كل إنسان ، يتفاوت مقدارها في الشدة والضعف على قدر ما في المريد من جوهر روحاني وما يطرأ عليه من المؤثرات الخارجية، وقد يكون للمرء الواحد في أمر من الأمور حرية نسبية تزيد أو تنقص عن حريته النسبية في أمر آخر.
ثم إن ما نسميه قضاء وقدرا في هذا الكون ليس من الصواب أن نتصوره قوة عمياء تتخبط في سبيلها، بل هو خاضع للنظام الكوني الأعلى في الأسباب والنتائج، وبهذا الاعتبار يجدر بنا أن نسميه «الوجوب الأعلى» أو «القوة التتميمية العليا» إذا كان بعض الناس يفهمون من اسم «القضاء والقدر» معنى التحكم والتنفيذ الاستبدادي، وبين المبدئين فرق ظاهر.
وعلى أن الزمان ليس له قوام ثابت بحد ذاته، فهو شيء نسبي اصطلحنا عليه، لأننا محتاجون إليه في معايشنا وفي اتخاذ مقياس لحوادثها، الزمان عندنا ناجم عن دورة الكرة الأرضية، فلو كانت سرعة هذا الدوران ضعف ما هي عليه لكانت مدة كل يوم من أيامنا قدر نصف مدتها الحالية، ولولا دوران الأرض والكواكب لما وجد الزمان، كما أن الأوقات في كل كوكب من الكواكب تخالف مددها في الأيام والشهور والسنين وذلك حسب سرعة دورة كل كوكب، فإذا علمنا ذلك، إذا علمنا أن الزمان شيء وهمي لا قوام له فكيف نهتم به ونجعل شأنا عظيما لاعتباراتنا في ماضيه وحاضره ومستقبله، مع أن الثلاثة هي على مستوى واحد في نظر الحقيقة المجردة، ومن ثم فأية غرابة إذا استجلت القوة الروحانية اليوم أمرا سيجري غدا أو بعد غد أو بعد سنة أو بعد سنين، وليس هنالك مستقبل حقيقي لديها، بل هو مستقبل اصطلاحي ألفته قوانا الجسدية ولاءم قواها المحدودة .
هذا ما يقال عن الزمان بإطلاقه، وأما المكان المطلق فليس هو مثله، بل له وجود في ذاته، ومرجع وجوده هو إلى هذا الفضاء الذي لا ندرك تخومه.
أما اطلاعنا على الحوادث قبل حدوثها فإنه لا يقيد حدوثها على كيفية مخصومة، ولا يسلب شيئا من حرية القائمين بهذه الحوادث ولا حرية الذين لهم دخل فيها. هذا ولسهولة استيعاب هذه النظرية نقول: هب أنك على سطح هضبة تشرف منها على جميع ما حواليها فالتفت إلى إحدى الجهات فرأيت رجلا بيده سلة وهو يسير قاصدا البلدة التي في الجهة المقابلة، إذ لا بلدة أخرى ولا مكان معمورا آخر في تلك الجهة فعلمت أنت ذلك، علمت أنه سيمر تحت الهضبة حيث أنت، ثم يستأنف الطريق إلى البلدة المذكورة، إذا اطلعت على ذلك قبل وقوعه وأخبرت به أحد الناس فهل علمك به واطلاعك عليه سلفا بفضل مركزك ذاك يحسب سببا لقيام الرجل وسيره وحمله السلة وقصده إلى تلك الجهة، وهل يكون في اطلاعك المعجل شيء يمس حرية الرجل في ما نواه وفعله من قيامه وسيره واتجاهه وحمل ما يحمل؟
1
كلا، لا علاقة بين ما علمته وبين حرية الرجل واختياره، فإن علمك بالأمر تابع لذلك الأمر، ولم يكن الأمر تابعا في كثير أو قليل لعلمك المعجل به.
Página desconocida