El Sufismo: La Revolución Espiritual en el Islam
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
Géneros
وقد خلف الصوفية في ميدان دراسة النفس وميولها وآفاتها عن طريق التأمل والاستبطان ثروة سيكولوجية أخلاقية رائعة تشهد لهم برقة الحس ودقة التحليل وعمق النظر فيما يعتلج في النفس من أهواء ونزعات، كما هو واضح من مأثور أقوالهم التي يرويها مؤرخو التصوف أمثال أبي القاسم القشيري وأبي نصر السراج، ومن الصفحات الخالدة التي كتبها الغزالي في الإحياء:
والمجاهدة طريق شاق طويل، محفوف بالمكاره والأخطار، بابه التوبة، وهي الانقلاب الروحي الخطير الذي أشرنا إليه في مقدمة هذا الكتاب بشيء من التفصيل، وبعد اجتياز هذا الباب بسلام، يأخذ السالك في قطع مراحل الطريق واجتياز العتبات الأخرى.
ولما كان أصل المجاهدة وملاكها - كما يقول القشيري - فطم النفس عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها، كان من ألزم ما يلزم المبتدئ في الطريق «الخلوة» و«العزلة» عن الناس؛ لأن اختلاط الإنسان ببني جنسه آلف ما تألفه النفس وتميل إليه بفطرتها، وفي الخلوة بالنفس استيحاش من الخلق واستئناس بالله، ولكن جمهور المتصوفة في الإسلام لم يبالغوا في الخلوة والعزلة كما بالغ فيها رهبان المسيحيين والهنود، ولم يعتزلوا الحياة الاجتماعية اعتزالا تاما ويلزموا الصوامع والبيع أو يفروا إلى الصحاري وقلل الجبال، ولكنهم أخذوا بنصيبهم في الحياة العامة التي يحياها غيرهم، وسعوا إلى أرزاقهم بأعمالهم، ولم يظهر الكف عن الكسب وينتشر التسول في أوساطهم إلا في عصور التصوف المتأخرة وهي عصور الانحلال والاضمحلال، وقد اعتبر الصوفية العزلة الحقيقية في اعتزال مذموم الصفات لا في اعتزال الحياة الاجتماعية والأوطان؛ ولهذا قال قائلهم: «العارف كائن بائن.» أي موجود مع الخلق بجسمه، بعيد عنهم بروحه وسره. قال أبو علي الدقاق أستاذ القشيري: «البس مع الناس ما يلبسون، وتناول مما يأكلون، وانفرد عنهم بالسر.» ومعنى هذا أن العزلة الحقيقية هي الانفراد بالله لا مجانبة الخلق.
ولكن من الصوفية من أمثال ذي النون المصري وأبي القاسم الجنيد ويحيى ابن معاذ الرازي وأبي بكر الشبلي، من يرى أن الخلوة واعتزال الناس أهون على تصحيح الإرادة وصفاء العبادة والبعد عن الرياء والنفاق، فإن من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم.
ومن أساليب المجاهدة الصمت عن الكلام، لا بمعنى حبس اللسان عن الكلام إطلاقا أو في فترات مقررة كما في الرهبنة المسيحية، بل بمعنى التحفظ في القول، وعدم الاسترسال في اللغو، أو البوح بالسر؛ ولذلك آثر الصوفية الصمت إلا عند الضرورة، وقول الحق، وأحلوا محل الكلام التفكير والتأمل، وهما طريق الحكماء؛ وذلك لأن الكلام إما أن يكون حقا فيستدعي إعجاب الناس ومديحهم، والصوفية لا يقبلون الإعجاب والمديح الذي قد يدخل الرياء في قلوبهم، وإما أن يكون باطلا وهو ما ينهى عنه الدين.
ولكن الصمت ليس قصرا على اللسان، بل للقلب وسائر الجوارح صمتها أيضا، وللقلب كلام كما للسان كلام، وكلام القلب هو الخواطر التي تخطر به والأسرار التي تتكشف له، والصوفي الصادق أمين على أسراره، يرى من فرط حبه لربه ألا يطلع عليها غيرهما، وقد وصفوا صمت اللسان بأنه صمت العوام، وصمت القلب بأنه صمت العارفين.
ومن أساليب مجاهدة النفس ومخالفتها عند الصوفية «الزهد» وهو موقف خاص من الدنيا وأعراضها، ومن الدين حلاله وحرامه، ومن الله. فإن الزاهد يخالف هوى النفس ورغباتها ويحقر من شأن القيم التي اعتاد الناس رفعها وتقديرها كالسمعة والصيت والجاه والغنى، ويزهد في الحرام استجابة لنهي الدين عنه، وفي الحلال استشعارا لألم الحرمان الذي هو وسيلة من وسائل تطهير النفس وتقويتها.
وينعكس موقف الزاهد في الدنيا على موقفه من الله، فإنه بمقدار ما ينصرف قلبه عن متع هذه الحياة، يكون إقباله على الله واشتغاله بحبه وخدمته؛ ولذلك قال أبو سليمان الداراني (المتوفى سنة 215): «الزهد ترك ما يشغل عن الله تعالى.»
3
ولأحمد بن حنبل قول جامع في الزهد وأنواعه التي أشرنا إليها وهو: «الزهد على ثلاثة أوجه؛ ترك الحرام وهو زهد العوام، والثاني ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص، والثالث ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى وهو زهد العارفين.»
Página desconocida