El Sufismo: La Revolución Espiritual en el Islam
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
Géneros
ولم تكن ثورة الصوفية على الفقهاء قاصرة على نظرتهم إلى ظاهر الشرع وباطنه، بل تعدت ذلك إلى فهمهم لمعاني أحكام الشرع ذاتها من فرض ونافلة وحلال وحرام ومكروه ومندوب إليه وما شاكل ذلك، فأوجبوا على أنفسهم أمورا لم يرد الشرع بإيجابها، وحرموا أمورا لم يرد الشرع بتحريمها: وكأنهم بذلك منحوا أنفسهم حق التشريع، غير أن تشريعهم كان لأنفسهم لا لغيرهم.
الطريقة والحقيقة
بدأت الحياة الصوفية في الإسلام بأفراد يسلك كل منهم في عبادته ومجاهداته «طريقته» الخاصة، ولم يكن للصوفية حتى نهاية القرن الثاني حياة منظمة داخل الزوايا والربط، ولكن سرعان ما ظهرت في جماعاتهم روح النظام وتجمعوا حول المشايخ في حلقات الوعظ، وكان ذلك في المساجد أولا، ثم في حلقات الذكر داخل الخانقاوات بعد ذلك، ولم يمض زمن طويل حتى كان مشايخ الصوفية على رأس جماعات منظمة تأخذ كل جماعة تعاليمها وآدابها بطريقة خاصة، وهنا ظهر في الإسلام نوع من الرهبنة أشبه بالرهبنة المسيحية وإن اختلف عنها اختلافا جوهريا. فمن معاني «الطريقة» إذن الأسلوب الخاص الذي يعيش الصوفي بمقتضاه في ظل جماعة من جماعات الصوفية تابعة لأحد كبار المشايخ، أو هي مجموعة التعاليم والآداب والتقاليد التي تختص بها جماعة من هذه الجماعات.
ولكن لكلمة «الطريقة» معنى آخر أعم وأشمل؛ إذ معناها أيضا الحياة الروحية التي يحياها السالك إلى الله أيا كان، وسواء أكان منتسبا إلى فرقة من فرق الصوفية أم غير منتسب، وتابعا لشيخ من شيوخ الطرق أم غير تابع، و«الطريقة» بهذا المعنى «فردية» بكل معاني الكلمة؛ إذ لكل سالك إلى الله حياته الفردية الخاصة وعالمه الروحي الذي يعيش فيه وحده، وقديما قال بعض العارفين: إن الطرق إلى الله بعدد السالكين إليه.
وليست «الطريقة» بهذا المعنى الثاني سوى المعراج الروحي عند الصوفية، وهي التي أطلقوا عليها اسم «السفر» و«السلوك» و«المعراج»، وقسموها من أقدم العصور إلى مراحل أو منازل سموها بالمقامات، كما سموا الأحداث النفسية والمغامرات الروحية التي تعرض لهم فيها باسم الأحوال. يرى السالك في هذا الطريق أشياء لا يراها غير الصوفي، وتعترض سبيله عقبات لا تعترض سبيل غير الصوفي، وتعتريه أحوال لا يعانيها غير الصوفي، فلا يجد لغة يعبر بها عن هذه الأمور كلها سوى لغة الرمز والإشارة؛ لأن الأمور التي يرمز إليها لا تقع في محيط عامة الخلق، وقد تبدو هذه اللغة الرمزية في بعض الأحيان مستبشعة في ظاهرها منافية للتقوى، بعيدة عما يقتضيه جلال الجناب الإلهي، كأن يوصف «المطلق المنزه» بأوصاف المحسوس المحدود، وكأن يشار إلى الذات الإلهية ب «هي»، أو تشبه النشوة الحاصلة من مشاهدة الله بنشوة الخمر.
وللصوفية نظرتان إلى الطريق الذي يسلكون فيه إلى الله؛ الأولى أنه طريق عروج من عالم الظاهر إلى عالم الحقيقة، أو من عالم الأرض إلى عالم السماء. الثانية أنه تحول باطني وتغير في الصفات وتهيؤ في النفس يمكنها من الاتصال بمحبوبها الأعظم: الله، وأساس هاتين النظرتين واحد، وهو أن «الله» أو الحقيقة الوجودية المطلقة هو أصل كل موجود ومصدره، فهو المقوم للعالم كما هو المقوم للنفس. فإن طلبه الصوفي بالطريقة الأولى عبر عن هذا الطلب بالصعود إليه، وإن طلبه بالطريقة الثانية عبر عنه بالهبوط إلى النفس ليجد الله فيها، ولكنه يجد الله في نفسه بعد أن تتحول تلك النفس عن صفاتها وتتخلص من أدرانها وكدوراتها، والنظرة الأولى هي نظرة الصوفية الذين يصورون النفس بصورة الطائر السجين الذي يطلب الخلاص من شباك البدن ليعود إلى موطنه الروحي الأول، وهؤلاء لهم رمزيتهم الخاصة. أما الآخرون فيصطنعون في لغتهم الرمزية أساليب الحب والشوق والسكر والصحو ونحو ذلك.
ولكن الحقيقة الصوفية التي لا جدال فيها هي أن النفس الإنسانية لا تستطيع الوصول إلى الله إلا إذا فنيت عن صفاتها وتحررت من قيودها، بل إن عروجها إلى الله في كل خطوة تخطوها إليه رهن بالخطوات الجديدة التي تخطوها في طريق التصفية والتطهير، ومعنى هذا أن المعراج الروحي وليد التطهير وأعمال المجاهدة والرياضة النفسية، فإن تطهير النفس وتصفيتها بأعمال المجاهدة والرياضة يلزم عنه لا محالة ترق في سلم المعراج الروحي. فلا غنى لأي صوفي إذن عن أن ينظر إلى طريقه بالنظرتين معا، وهذا واضح كل الوضوح في كلام الصوفية عن المقامات: وهي مراحل الطريق الصوفي أو مراقي معراجه، فإن لكل واحد من هذه المقامات ناحيتين: الأولى أنه دور من أدوار حياة المجاهدة والتصفية النفسية، والثانية أنه مرقاة في سلم الحياة الروحية والمعراج إلى الله، وإننا لنجد أبسط وأقدم تصوير للمعراج الروحي عند متصوفة المسلمين واضحا في وصفهم للطريق الصوفي وكلامهم عن مقامات السالكين فيه، فهم يقسمون الطريق إلى مراحل يطلقون على كل مرحلة منها اسم «المقام»: أي المنزلة الروحية التي يقوم بها السالك أو يقيمه الله تعالى فيها حتى ينتقل إلى المنزلة التي تليها.
ويختلف عدد هذه المقامات وأوصافها باختلاف الصوفية، ولكنها تبتدئ عادة بمقام التوبة وتنتهي بمقام المشاهدة، ولا يترقى السالك في الطريق من مقام إلى مقام حتى يستوفي أحكام المقام السابق، أو على حد قول الصوفية أنفسهم حتى يتحقق بآداب المقام السابق عن طريق منازلته.
وقد رتب الصوفية هذه المقامات بحسب رأيهم في توقف كل مقام لاحق على المقام السابق عليه، كتوقف مقام التوكل على مقام القناعة، ومقام التسليم على مقام التوكل، ومقام الإنابة على مقام التوبة، ومقام الزهد على مقام الورع، وهكذا.
وكذلك ذكروا الأحوال؛ وهي الأمور الروحية التي تعرض للسالك في الطريق إلى الله من قبض أو بسط أو هيبة أو أنس، أو وجد أو شوق أو انزعاج، أو شعور بالفرق أو الجمع، أو بالفناء أو البقاء، أو بالغيبة أو الحضور، ونحو ذلك من التجارب الروحية التي يعانيها الصوفي في المقامات، وقد عرفوها بأنها معان ترد على القلب من غير تعمل أو اجتلاب أو اكتساب خلافا للمقامات التي هي أمور كسبية صرفة؛ لأنها أعمال إرادية يقصد بها السالك إلى تحصيل فضيلة معينة من فضائل الطريق.
Página desconocida