ولم يعد في الربوع من لم يعرف ما حل بالطاغية من وبال.
فما بعجيب إذن أن يستقبل صباحه وحيدا تحيط به الوحشة من كل جانب وتفري صرخات الرعب كيانه جميعا.
ومن بعيد تتواتر إليه أصوات جموع ما تزال تتعالى وتقترب، حتى تصبح ضجيجا عاليا مشتدا، ثم ينفتح باب القاعة على مصراعيه، وإذا بالحجرة المترامية الأطراف تصبح مليئة بالناس. وعلى رأسهم اثنان يحملان السلاح حمل من لا ينتوي أن يستعمله، وقبل أن يفيق العمدة زين الرفاعي يجد السلاح جميعا ملقى أمامه على الأرض. ويرفع رأسه إلى من رمى بالسلاح ويرى ... ويل له من الأيام ... أي إنسان إلا هذين ... أي مخلوق من المخلوقات ... من البشر أو الجن أرحم من أن يرى هذين اللذين يراهما. ويغمض عينيه، ويطيل الإغماض ثم يفتحهما ... كونا أي اثنين آخرين ولا تكونا من أرى! ولكن الحقيقة لا تحتمل الشك. إنهما هما وليس غيرهما ... سامي ومأمون ... واقفان هما كجبلين أقامهما القدر في وجهه ... إن قلت إن سامي ليس ابني، ماذا أنا قائل عن مأمون ابن دمي ... أيكون الحق أرفع شأنا من صلة الدم؟ وسامي نفسه إنه لا يعرف لنفسه أبا غيري، بل إني نسيت من حقيقة مولده إلا أنه ابني تلقفته وهو رضيع وأرضعته من أصبحت فيما بعد زوجي وأم أخيه وأم ابني، ما هذا الذي يصنعان بي؟
وطال الصمت، والابنان ينتظران الأب أن يقول أو يسأل وهو في غمرة الذهول الصاحي لا ينطق، والناس جميعا الذين ملئوا الحجرة وما خارجها من بناء وطرق كأن على رءوسهم الطير.
كان الصمت الذي طال أعظم من كل كلام يمكن أن يقال، ما كان صمتا ذاك، بل كان حوارا عجيبا دار بينه وبين ولديه، ثم بينه وبين كل فرد من هذه الجموع.
فكلهم أصابه منه ويل وويل. من لم يصبه بالفعل والعمل أصابه بالرعب الرادع، وبالخوف يسري من جوبهم مسرى الدماء، فما يجرؤ واحد منهم أن يرفع رأسا، أو ينطق باحتجاج أو يعالن بتمرد.
وحين طال الحوار الصامت وجد زين نفسه يقول في حروف متعتعة راعشة: أنتما؟!
ويقول سامي: نعم ... نحن.
وباللسان المتصلب يقول زين: أنتما من دون الناس جميعا؟
ويقول سامي: كان لا بد أن نكون نحن من دون الناس جميعا. - ألم أكن أصنع ما صنعت من أجلكما؟
Página desconocida