وجدت رتيبة الفرصة مواتية لتتأكد مما يرويه لها النسوة عن العمدة. - ومن أين لي أن أدري؟ - لك الآن معنا فترة ليست قصيرة ولا تدرين. - أنت تعرف أنني لا أترك بيت العمدة ، ولا أزور أحدا من نسوان البلد. - ولكن نسوان البلد جميعا يزرن بيت العمدة، ويأنسن إليك، ولا بد أنهن قلن لك ماذا يستطيع العمدة أن يعمل! - كلام نسوان لا أصدقه. - إن لم أزوج أختي من دهشور الملواني، فمعنى هذا أن تقتل أختي صبيحة، ويقتل ابن عمها شملول القط، ثم أقتل أنا. - ماذا تقول؟ - ما سمعت يا ست رتيبة. - هل يعقل هذا؟ - أتريدينني أن أفهم أن الست حميدة وأنت لا تعرفان شيئا عن رجال العمدة القتلة؟ - أتتصور أننا نعرف؟ - أما أنت فنعم، يخيل إلي أنك تعرفين. - وافرض، فهل أجرؤ أن أقول هذا لزوجته؟ - طبعا لا. - إذن ففيم مجيئك إلي؟ - كلمي العمدة نفسه. - هل أجرؤ؟ - إنك مرضعة ولده. وهو يعلم أن الست حميدة تحبك كل الحب، وقد يخشى أن تكشفي للست حميدة ما يحاول أن يستره عليها. - أنا أكلم العمدة؟! - حياة أختي بين يديك يا ست رتيبة. - نحاول يا صميدة، امش أنت الآن، واترك لي الموضوع. - أمرك.
قالت لها عزيزة: ماذا تنوين أن تفعلي؟ - والله لا أدري يا بنتي. - الرجل وضع أمله فيك. - سأرى. •••
صحا العمدة من نومه، وذهب إلى حجرة ولده يتناول قهوته هناك، وترك زوجته في سريرها بين نائمة ومتيقظة. كانت رتيبة جالسة على الأريكة، وسامي في حضنها يحرك أطرافه في جذل بعد أن رضع وارتوى. رنا زين الرفاعي إلى جمال رتيبة، كان يرى في وجهها نورا وإشراقا، ورأى في عينيها وهي تنظر إلى سامي نظرات ساجية هانئة، ووجد نفسه ينظر إليها كامرأة بعد أن كانت عنده مرضعة سامي. طويلة القامة، موفورة الجسم في غير استرخاء هادئة السمات تشعر من يراها بالطمأنينة.
نظر إليها لحظات، ثم قال لها: هل رضع؟
وقالت في سعادة: ألا ترى سعادته؟ - أعطيه لي. - تفضل.
وحمل سامي وقامت هي واقفة، فقال لها: بل اجلسي مكانك يا ست رتيبة.
وجلست وراح هو يناغي سامي، ويداعب وجهه، وانتهزت هي الفرصة. - سيدي العمدة. - نعم يا ست رتيبة. - قصدتني امرأة برجاء عندك. - من هي؟ - طلبت إلي ألا أذكر اسمها عندك. - وماذا تريد؟ - أن تتزوج صبيحة من ابن عمها شملول القط.
وانقلب وجهه الضاحك إلى أنواء عاتية من الغضب والسخط، وصاح دون أن يرتفع صوته: من تلك التي طلبت منك هذا؟ - لا تغضب يا سيدي العمدة، كأني لم أقل شيئا. - هل عرفت حميدة شيئا عن هذا الموضوع؟ - لا وشرفك. - إذا عرفت فستكونين أنت التي قلت لها. - لن تعرف. - ولا أسمع شيئا عن هذا الزواج منك. - أمرك. - خذي الولد. - أمرك.
وأعطاها الولد، وخرج دون أن يشرب قهوته. •••
مشاعر شتى متباينة داخلت قلب رتيبة. هذه النظرات الجائحة أرهبت جوانبها. وهذا الوجه الحديدي الملامح الذي ارتمى على جبين العمدة. وهذه الأنياب المكشرة ... ما هذا؟ أيمكن للإنسان أن يكون عدة آدميين في كيان واحد. ألقت إلى وجه ابنها نظرات فارغة ساهمة تحمل في طواياها حيرة ورعبا من المستقبل. وما لبثت أن فكرت في ابنها هذا الذي يبتسم في سعادة غامرة، ماذا يحمل لك الغد مع أب هذه سماته، تنقلب إلى خوالج ذئب، وهذه خلته ينشب في أرواح الآدميين في قريته يدا فراسة تعتصر دماءهم في غير رحمة ولا مهادنة.
Página desconocida