وسمع صوتا آخر يقول: لو علا صوتك ستجدين هذه المطواة في صدرك.
واختبأ سامي، ثم ألقى النظر خفية، فرأى أحدهم ممسكا برأس الفتاة، وهي تقاوم مقاومة عاجزة. ونفض سامي الطريق بعينيه، فوجد النور المتهافت قادما من شباك يقع في الناحية التي يختبئ فيها، ووجد ما يقرب من سعة متر على طول المسافة التي تفصل بينه وبين المجرمين معتمة تماما، فالتصق بالحائط، وراح يخطو خطوات جانبية إلى المعتدين لا يرونه، حتى انقض فجأة على ذلك الذي يطوق وجه الفتاة، ورمى به إلى الأرض، وفي لمحة خاطفة كان الاثنان الآخران على الأرض مع زميلهما، وحاذر سامي أن يضرب بكل قوته، حتى لا يصل الأمر إلى جريمة أخرى؛ فقد كان وهو يخطو خطاه المتئدة المحاذرة يفكر في روية أنقذت المعتدين وأنقذته أن يرتكب جريمة أخرى.
قال للفتاة: لا تخافي. - الله يحميك. - لن أترك هؤلاء حتى أذهب بهم إلى الشرطة، أين الشرطة؟ - قريبة من هنا. - فهيا بنا. - وكيف ستثبت للشرطة؟ - تقولين الحقيقة. - وماذا يجعلهم يصدقون؟ - سيعترفون. - لن يعترفوا. - سأجعلهم يعترفون. - لن تصدق الشرطة شيئا، ولن تصدق أن شخصا واحدا تغلب على ثلاثة مجرمين، وسوف تظن أنك أنت الذي هددتهم بالسلاح. - إذن أتركهم؟ - هذا رأيي. - وحق المجتمع؟ - منهم إلى الله. - لقد قلتها، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لا بد أن أذهب إلى الشرطة. هلم أريني الطريق إلى الشرطة.
وعجبت الفتاة وهي ترى سامي ممسكا بالثلاثة، وهم مستسلمون له في غير عناد، ودون أن يستعمل سلاحهم، بل إنه أمر الذي كان ممسكا بالسلاح أن يطويه، ويضعه في جيبه ففعل. وازداد عجب الفتاة، وهي ترى المجرمين الثلاثة ينقادون لسامي، وكأنهم واقعون تحت سيطرة قوة عليا لا يملكون منها فكاكا. وسار الركب إلى قسم البوليس، وألقى سامي بحمله أمام المسئول، وأدلت الفتاة باسمها، وعرفه سامي، إنه «رشيدة مسعود النبوي»، طالبة بالسنة الأولى بكلية الآداب، وتمت كتابة المحضر. وحجز المتهمون الذين وجدوا أنفسهم يعترفون بجريمتهم دون أي مقاومة، فقد كانت نظرات سامي كافية لتجعلهم يفقدون كل سيطرة على عقولهم، وقع سامي في حيرة حين سأله المحقق عن عنوانه، إلا أنه سرعان ما قال الحقيقة عند عودته من سيناء، ومن أنه في طريقه إلى شارع رستم، وحين سأله المحقق أين نخاطبك إن أردنا شهادتك تطوعت رشيدة بالقول: خاطبوه عندنا؛ فسوف أعرف عنوانه.
وخرج سامي ورشيدة. - لا أعرف كيف أشكرك. - إنها الصدفة وحدها. - أين أنت ذاهب؟ - كما سمعت. - وهل تضمن وجود مكان بهذه الشقة؟ - علي أن أجرب. - تعال معي إلى أبي. - الآن؟ - لا بد أن يتعرف بك، ولا بد أيضا أن أروي له ما حدث، حتى يعرف فيم تأخرت. - إذن هيا.
وبلغا العمارة، كانت عمارة متوسطة الحال، وفي أواسط العمر بناها صاحبها قبل أن يدمر الحاكم الصلات بين المالك والمستأجر بتلك القوانين التي أوقفت البناء في مصر تماما. كانت رشيدة تسكن مع أبيها في الطابق الثاني من العمارة، وكان السلم معتما، ولم يستطع سامي أن يرى شيئا واضحا من ملامح رشيدة، فقد كان لقاؤهما في الظلام. وكان النور خافتا كل الخفوت في قسم الشرطة، فكان كل ما يعرف عن كيان رشيدة أنها فتاة نحيلة ذات وجه ضامر، مع أن معرفته بها كانت قد تجاوزت عدة ساعات قضاها في صحبتها.
وحين بلغا الشقة فتحت رشيدة الباب بمفتاح معها، ودخلت وأوقدت النور في البهو ورآها. فتاة صبيحة الوجه، هادئة القسمات، زكية العينين، تحكم وثاق شعر لا يثور، ولا يتمرد، تلبس فستانا جميلا في تواضع وغير بهرجة. ورأت هي فيه فتى مطمئن الملامح، حاد القسمات، فارع الطول، في عينيه سماحة حاسمة، وفي فمه هدوء الإيمان وقوته في آن واحد.
في لمحة من لحظة عرف كل منهما وجه الآخر، وصوت الأب يعلو من إحدى الحجرات: أهذا أنت يا رشيدة؟
وتجيب رشيدة في حب واحترام: نعم يا أبي. - تأخرت! تعالي.
وتقول رشيدة في صوت هادئ لسامي: تعال.
Página desconocida