لم يكن هناك خيار لرتيبة، فهي بين اثنين لا ثالث لهما؛ إما أن تترك وليدها نهبا لمستقبل لا يعلمه إلا الله، وإما أن تقبل الزواج من زين الرفاعي الذي قدر الله أن يحمل وليدها اسمه، فأصبح أبا لابنها الذي ليس له بعد الله غيره.
وتزوجت رتيبة من زين بعد أن مر على وفاة حميدة ثلاثة أشهر، وحملت رتيبة في الشهر الثاني من زواجها، وما لبثت أن ولدت ولدا أسماه مأمون، وكانت رتيبة في رعب أن يحل الابن الحقيقي عند زين مكان الابن المصطنع، ولكنها أخفت رعبها ولم يناقشها زين في الأمر، فهو واثق أنها لم تعلم من أمر سامي شيئا، فهو متصور أن سامي عندها هو ابنه وابن زوجته المتوفاة حميدة.
وقد خشي أن تبوح عزيزة بالسر الدفين، فانتهز فرصة خلت به وبعزيزة غرفة. - عزيزة لا أحد الآن يعرف سر سامي إلا أنت. - نعم يا حضرة العمدة. - أخت حميدة التي كانت تعرف السر ماتت، ولم يبق الآن إلا أنت، فإذا عرف السر فجزاؤك سيكون رهيبا. - أعرف يا حضرة العمدة. - لا تلومي غير نفسك. - أتتصور يا حضرة العمدة أن أعرض نفسي لغضبك وأعرض أخي للتشريد؟ - رتيبة لا تعرف شيئا؟ - ومن أين لها أن تعرف؟ لقد أتيت بها يوم أتيت بها لترضع ابن عمدة التمرة بعد أن مات وليدها. - فليظل الأمر كذلك. - سيظل كذلك يا حضرة العمدة، ولا يمكن إلا أن يظل كذلك. •••
وحين تأكدت عزيزة أنها في خلوة بعيدة بأمها نقلت إليها هذا الحديث، ففرحت رتيبة به، وقرت به عينا، وزايلها - أو كاد - رعبها الذي داخلها أن يفوز مأمون بالأمن، وينتهي دور سامي كابن لزين، ذلك الدور الذي فرضته عليه الأقدار دون أن يكون له أي رأي في قبوله أو رفضه.
وهكذا كان البيت مكونا تكوينا عجيبا، أم تعلم أنها أم الابنين والفتاة التي تقوم بشأنهما أيضا. وأب ليس له في الثلاثة إلا ولد واحد، والأب يخفي سر ابنه المتبنى، والأم تخفي سر ابنها وابنتها.
وهكذا يستطيع الظلم والجبروت أن يطمس معالم الحياة، ويخلط نتائج الأرحام، ويخسف عن حياة الناس الشموس التي لا معنى للحياة بغير إشراقها.
وكان أمر زين أمام رتيبة عجبا، فهو في خارج بيته ذلك الجبار القاسي، يقتل وينهب الأموال في يسر وطبيعة مواتية، وهو في البيت أنيس لين العريكة، دمث الحديث، شديد الحدب على ولديه، لا يفضل واحدا منهما على الآخر. وتعجبت رتيبة ... إن تكن غريزة الأب ترغمه على حب مأمون، فأي نبضة في قلبه تجعله يرعى سامي بهذا البر، وذلك الحب والحنان، سبحانه، لا يملك أحد أن يجعل قلب هذا الرجل يلين لغير ابنه إلا الله وحده، وإن له في ذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو، إن له لغاية يطويها سبحانه في خفايا السنين.
6
بدأ سامي يذهب إلى الكتاب، ولم يمض سوى عام وبعض العام حتى لحق به مأمون.
وقليلا ما مكثا في الكتاب، فما ذهبا إليه إلا تنفيذا لرغبة أنشبت براثنها في نفسه أن يتعلم ولداه القرآن، وازداد عجب رتيبة وإن كان صدرها قد انشرح لتمكن هذه الرغبة من زوجها، وازداد يقينها أن الله يهيئ الابنين لقدر بعيد كل البعد عما يسير فيه أبوهما.
Página desconocida