El Camino de los Hermanos de la Pureza: Introducción al Gnosticismo Islámico
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
Géneros
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
مقدمة
1 - نظرية التكوين
2 - صفة العالم
3 - معرفة النفس
4 - ارتقاء النفس والنجاة من أسر الطبيعة
5 - الآخرة والنشأة الثانية
6 - إسلام إخوان الصفاء
Página desconocida
7 - طريق النجاة المشترك والمسائل التنظيمية
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
مقدمة
1 - نظرية التكوين
2 - صفة العالم
3 - معرفة النفس
4 - ارتقاء النفس والنجاة من أسر الطبيعة
5 - الآخرة والنشأة الثانية
Página desconocida
6 - إسلام إخوان الصفاء
7 - طريق النجاة المشترك والمسائل التنظيمية
طريق إخوان الصفا
طريق إخوان الصفا
المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970م بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971م قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
Página desconocida
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت ، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Página desconocida
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
Página desconocida
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
ضرورة التأويل في الفكر الديني
إن النص المقدس بطبيعته نص إشكالي. هذه السمة الإشكالية تنطبق على النص المقدس الإسلامي، مثلما تنطبق على غيره من النصوص المقدسة لأديان الثقافات العليا. فكتاب التاو الصيني بقي موضع تأمل وإلهام العقول الصينية والشرق أقصوية، منذ أن وضعه الحكيم لاو-تسو قبل ألفين وخمسمائة عام من يومنا هذا، وما زال الجدل قائما بشأنه حتى الآن شرقا وغربا. وهذا هو حال الأوبانيشاد الهندي الذي تم تحريره في الزمن نفسه تقريبا، والذي ميزت كل فرقة هندوسية نفسها اعتمادا على طريقة فهمه وتفسيره؛ وأناشيد الغاثا التي وضعها زرادشت، والتي فهمهما مفكرو كل طور من أطوار الزرادشتية على طريقته وصولا إلى المجوسية المتأخرة؛ وأسفار الأنبياء في كتاب العهد القديم التي تشكل الجانب الروحي في التوراة؛ وكلمات يسوع البسيطة والملغزة في آن معا، والتي ما زال الخلاف قائما في تفسيرها وتأويلها.
تنبع إشكالية النص المقدس من عدة عوامل: (1)
Página desconocida
يستخدم النص بنى لغوية وأسلوبية قديمة، متصلة بالعصر الذي دون فيه؛ فهو ينتمي إلى زمن ماض وبيئة ثقافية واجتماعية مغايرة تماما لبيئة عصر القارئ. (2)
يتسم النص بلغة أدبية راقية تستنفد كل الإمكانات البلاغية لعصرها، وهي أقرب إلى اللغة الشعرية من حيث الاختصار والإيجاز، وزخم الكلمة والعبارة؛ وهذا ما يبعدها عن أساليب التعبير النثرية المباشرة الخاصة بالعصر الحديث. (3)
رسالة النص الديني عاطفية روحانية، تتوجه إلى القلب قبل العقل، وهي تهدف إلى زرع الإيمان في تجاوز لطرائق البرهان؛ فإذا أخضعت بعد ذلك إلى التأمل العقلي، صار الإيمان والبرهان بحاجة إلى ما يؤلف بينهما. (4)
إن موضوعات النص الديني، من حيث طبيعتها، تتأبى على الصياغة بمفردات اللغة الاصطلاحية المعدة أصلا للتعامل مع المحسوس والملموس، والتي تغدو عرجاء كلما ابتعدنا عن التعامل مع ظاهر الموجودات في محاولة للتعبير عن بواطن العلاقة بين النهائي واللانهائي، بين المحدود والمطلق. هنا لا تجد اللغة بدا من اللجوء إلى الإشارات والرموز من أجل التعبير عما يصعب التعبير عنه بالوسائل المباشرة. (5)
يتوجه النص الديني إلى شرائح مختلفة من الناس تتوزع بين الجاهل والمتوسط والعالم، وعليه أن يصوغ رسالته إليهم على عدة مستويات، بحيث تفهم كل شريحة منهم على قدر استيعابها، وذلك انطلاقا من الأبسط الظاهر إلى الأعمق الباطن ، من غير الوقوع في التناقض بين المستويات. (6)
على الرغم من ارتباطه بزمان معين ومكان معين، فإن النص المقدس في الديانات العالمية التي تعتمد التبشير بين الأقوام كافة، يسمو على الزمان والمكان، ويتوجه إلى الإنسان في كل زمان ومكان. وهذا يستدعي بالضرورة احتواءه على معان قريبة مباشرة، وأخرى بعيدة تنفتح تدريجيا بمرور الزمن وبالتطور المعرفي للإنسان. أي إن سعة التجربة المعرفية لكل جيل سوف تقود إلى إدراك مستويات للنص لم يكن بمقدور الجيل الأسبق إدراكها. (7)
إن الكلمات في أي لغة كانت، محتملة للمعاني، والأفهام تذهب في طلبها كل مذهب، كما تتعدد دلالات العبارة الواحدة حتى لو أراد بها قائلها معنى واحدا. وتتعقد هذه المشكلة كلما اتسعت الشقة الزمنية بين المرسل والمستقبل. (8)
لا تنتظم مقولات النص المقدس في كل متسق، وهو لا يعبر عن نفسه بشكل خطي ينطلق من المقدمات إلى نتائجها، على طريقة النص الفلسفي، وإنما عبر لمحات وومضات وإشراقات.
إن إشكالية النص المقدس هذه، قد دعت بالضرورة إلى نشوء علم على هامش النص يعنى بفهمه من خلال التفسير والتأويل. ينصب جهد التفسير بالدرجة الأولى على المشكلات اللغوية للنص، وترجيح معنى معين من المعاني المحتملة للكلمة الواحدة، أو دلالة بعينها من دلالات العبارة نفسها، مستندا في ذلك إلى اللغة الاصطلاحية، وما تواتر إلى المفسر من وجهات نظر الأجيال السابقة الأقرب إلى زمن النص. أما التأويل فيتابع العملية التفسيرية من أجل الكشف عن المستويات الباطنية للنص، مزودا بعلوم متنوعة تتجاوز علم اللغة لتغطي كامل المساحة المعرفية المتاحة لأهل العصر؛ ذلك أن حجم التجربة المعرفية للإنسان في مواجهة النص المقدس، هو الذي يقود إلى إدراك عمقه وتعدد مستوياته الباطنية.
إن المفسر كلما تجاوز التفسير الحرفي القريب للنص، ازداد توغلا في التأويل الذي يشكل المستوى الأعمق من التفسير. مثال ذلك قوله تعالى في القرآن الكريم:
Página desconocida
هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ...
1
وقوله:
الرحمن على العرش استوى .
2
إن أكثر أهل التفسير الحرفي تزمتا، وهم المشبهة والمجسدة ، يفسرون العرش والاستواء بأن لله عرشا يجلس عليه كما يجلس الملك؛ وهذا ما يتنافى وتنزيه الذات الإلهية وبعدها عن التشبه بأحوال البشر، وهو القائل:
ليس كمثله شيء .
3
أما أهل التأويل فيعطون بعدا معنويا للعرش والاستواء، وهم في ذلك على عدة مذاهب؛ فالبعض يقول: إن العرش والاستواء هما للتعبير عن سلطة الله المطلقة على العالم، معبرا عنها بما تثيره هاتان الكلمتان من مفهوم السلطة على مستوى الجماعات الإنسانية. ويقول البعض الآخر اعتمادا على الحديث القدسي: «ما وسعني سمائي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن»، إن عرش الرحمن هو قلب الإنسان. وقد نسير مع إخوان الصفاء في تأويلهم العقلي الذي يعتمدون فيه على الحصيلة العلمية لعصرهم، ونقول: إن عرش الرحمن هو الحد الفاصل بين العوالم المادية والعوالم الروحانية، والذي رأوه في الفلك الخارجي للكون الذي دعوه بالفلك المحيط، حيث تنتظم النجوم الثابتة لتشكل حافة الكون المعروف. وباستخدام المفاهيم العلمية الحديثة، هو تلك المجرات الأبعد من الكون الأحدب التي تتباعد عن مركزه بسرعات خيالية، وتشكل حدا بين المعلوم والمجهول.
مثال آخر، قوله تعالى في وصف الجنة وأحوال أهلها:
Página desconocida
في جنات النعيم * على سرر متقابلين * يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون * وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنهن بيض مكنون
4
وقوله:
على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين ،
5 ... وزوجناهم بحور عين
6
وأيضا:
مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات
7
إن أهل الحرف يصرون حتى يومنا هذا على أن لذات أهل الجنة هي لذات مادية جسدانية، آخذين الوصف القرآني على ظاهره، أما أهل التأويل فيرون في وصف اللذات المادية إشارة للعارفين المتحققين إلى ما وراء ظاهر الوصف المادي من معان روحانية؛ لأن الانتقال إلى الجنة يكون بالروح لا بالجسد، على ما يقوله إخوان الصفاء في رسائلهم . نقرأ في الرسالة 30: «أكثر [الله] في القرآن من وصف محاسن الجنان وسرور أهلها ولذات نعيمها، فتارة وصفها أوصافا جسمانية على قدر طاقة القوم، مثل قوله تعالى:
Página desconocida
على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين .
8
ذكر هذا وبين على قدر قبول أفهامهم، لا بمعنى أن هذه الأشياء ستوجد في الجنة على حالات جسمانية، بل ستوجد أشياء روحانية: «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» ... وتارة وصفها بأوصاف هي بين الروحانية والجسمانية، مثل قوله تعالى:
مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن ... .
9
أما ترى يا أخي أنه قال: مثل الجنة على سبيل التشبيه والتمثيل، ليقرب من الفهم تصورها؛ لأنه يقصر الوصف عنها بحقائقها؟ وإنما خاطب كل طائفة من الناس بحسب عقولهم ومراتبهم في المعارف والفهوم؛ لأن دعوة الأنبياء عليهم السلام عموم للخاص والعام جميعا ومن بينهما من طبقات الناس. وقد صرح المسيح، عليه السلام، في وصف الجنان بأوصاف غير جسمانية ... لأن خطابه كان مع قوم قد هذبتهم التوراة وكتب الأنبياء، عليهم السلام، وكتب الحكماء أيضا، وكانوا غير محتاجين إلى الإشارات والتنبيهات، بل كانوا متهيئين لصورها مستعدين لقبولها. فأما سيد الأنبياء وخاتم المرسلين، صلى الله عليه وآله، فقد اتفق مبعثه في قوم أميين من أهل البوادي، غير مرتاضين بالعلوم، ولا مقرين بالبعث والنشور ... فجعل أكثر صفة الجنان في كتابه جسمانية، ليقربها من فهم القوم، ويسهل تصورها عليهم، وترغب نفوسهم بها.» (30: 3، 76-78).
هذا هو الوجه الموضوعي لعملية التأويل. ولكن للتأويل وجه آخر ذاتي يقول به المتصوفة؛ فالقرآن لم ينزل على قلب محمد
صلى الله عليه وسلم
مرة واحدة فقط، ولكنه في حالة نزول دائم على قلوب المؤمنين، ونزوله في القلب جديد لا يبلى إلى يوم القيامة، فهو الوحي الدائم؛ ذلك أن العارف الذي فتح قلبه للقرآن، يتلقاه وكأنه أنزل عليه للمرة الأولى مثلما نزل على قلب محمد، ويغدو قادرا على تلمس مستوياته الباطنية دون وسيط. قال تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ... .
Página desconocida
10
فالآيات المنزلة في الآفاق هي الوجه الظاهر للقرآن، والذي يراه الناس فيما خرج عنهم، أما الآيات المنزلة في أنفسهم فهي الوجه الباطن للقرآن، والذي يراه العارفون في ذواتهم كشفا وبيانا، فنزول القرآن على القلوب يكون بحسب استعدادها لتلقيه، وهذا معنى قوله تعالى:
أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ... .
11
أي أنزل القرآن من السماء إلى الأرض كما أنزل المطر من الغيم، فاحتملت القلوب من علم القرآن بحسب اتساعها في المعارف وصفاء جواهر النفوس، مثلما تحمل الأودية من سيل المطر بحسب سعتها وجريانها.
يجد التأويل أصوله في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف. فقد نبه الباري عز وجل إلى وجود نوعين من الآيات في كتابه العزيز، بعضها محكم وبعضها متشابه، أي يشتبه على القارئ معناه للوهلة الأولى. فالمحكم واضح للجميع، أما المتشابه فيتطلب التأويل؛ أي التبصر في معانيه الباطنية. قال تعالى:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ... .
12
وهذه الآية يجب أن تقرأ وفق بعض المفسرين من أهل التأويل، على أن الواو الواقعة بين «الله» و«الراسخون في العلم» هي واو العطف وليست استئنافية؛ فالله والراسخون في العلم معه هم الذين يعرفون تأويل الآيات المتشابهات. وهذا الرأي هو الأصوب، وإلا فما معنى امتلاء القرآن بآيات لا يعرف تأويلها إلا الله وحده، وهو الكتاب الذي أنزل هدى للناس كافة؟
لقد أعان الله على فهم القرآن عن طريق «العلم» و«الحكمة» اللذين وهبهما لأنبيائه، وأتاح لمن يشاء من عباده الارتقاء على مدارج العلم وصولا إلى الحكمة التي هي غاية العلم القصوى. قال تعالى:
Página desconocida
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .
13
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
14
الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان .
15
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم .
16 ... وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم .
17 ... فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ... .
18
Página desconocida
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل .
19 ... قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ... .
20
وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ... .
21
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ... .
22
ولعل في قوله تعالى: ... هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ...
23
أوضح إشارة إلى ارتباط فهم بواطن القرآن بدرجة تحصيل العلم؛ فآياته خالية من الألغاز لدى «الراسخين في العلم» وهم ليسوا بحاجة إلى تأويله لأنفسهم بل إلى العامة من الناس؛ لأنهم يرون آياته في أنفسهم، وإليهم أشار تعالى بقوله:
Página desconocida
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ...
24
وفي هذا يقول إخوان الصفا في الرسالة 40: «فمن مواهب الله الجزيلة وعطاياه الجميلة لبعض عباده، التي خص بها قوما دون قوم، هي الحكمة البالغة كما ذكر بقوله: ... ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ...
25
يعني به علم القرآن خاصة، وتفسير آياته ومعاني أسراره ... حيث يفسر قوم آيات الله على خلاف ما هو معناه، كما فسروا الاستواء بالجلوس والتمكن على العرش، والرؤية بالنظر إلى الجسم المشار إليه، وبالسمع والبصر فسروا الأعضاء الإلهية، وفسروا الكلام بالنطق والحروف، وبالنزول الانتقال من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وغير ذلك من الآيات التي لا يعرف تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون ويعرفون تأويل آياته وأسراره، ويقولون: آمنا به، كل من عند ربنا، فهذا قول الحكماء الربانيين والعلماء المتفلسفين» (40: 3، 344).
وقد عني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
منذ بداية الدعوة بشرح وتفسير آيات القرآن لأصحابه. وهم القرشيون الذين نزل القرآن بلغتهم ولهجتهم، وما عرفوا قصد الحق من بعض التعابير والآيات، ورأوا فيها رموزا وإشارات تتطلب الرجوع إلى النبي من أجل بيان تأويلها. ولما كان النبي عارفا بكل بواطن القرآن وظواهره، فقد كان يفسر آياته على وجهين، الأول: ظاهري يتعلق بمستوى فهم العامة، والثاني : باطني يتعلق بمستوى فهم الخاصة. لهذا يروى عنه قوله: «إن للقرآن ظهرا وبطنا، ولبطنه سبعة أبطن.» ولهذا فقد بث في صحابته المقربين تأويلات للكتاب لم يظهرها للعامة. ويروى عن عبد الله بن عباس أنه قال في الآية 12 من سورة الطلاق:
26 «لو فسرت هذه الآية كما سمعتها من رسول الله لرجمتموني.» ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «ورثت من رسول الله علمين، الأول: بثثته فيكم، والثاني: لو بثثته لقطع مني هذا البلعوم.» وقال ابن عباس: «لو فسرته لكنت فيكم الكافر المرجوم.»
وقد بقي هذا العلم الباطني متوارثا في الخاصة من الأجيال الأولى للمسلمين، يدارونه ويحجبونه إلا على من هو أهل له. وفي هذا يقول الإمام الشيعي السادس جعفر الصادق، مقتبسا عن الإمام علي، كرم الله وجهه: «إن ها هنا - وضرب على صدره بيده - لعلوما جمة لو وجدت لها حملة.» ويروى عن ابنه موسى الكاظم، الإمام السابع لدى الاثني عشرية، بيتان من الشعر تتداولهما حلقات الصوفية إلى يومنا هذا:
Página desconocida
يا رب جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
هذا الموقف المزدوج للرسول
صلى الله عليه وسلم
في نقله لمضامين القرآن، يفسره محيي الدين بن عربي بازدواجية «النبوة» و«الولاية» في شخصه، أو ازدواجية «الشريعة» و«الحقيقة». فالنبوة مختصة بالظاهر، والولاية مختصة بالباطن؛ ولكن للولاية الأولوية على النبوة بسبب أولوية الباطن على الظاهر؛ والنبوة تتضمن الولاية، ولكن الولاية لا تتضمن النبوة. فكل نبي ولي، ولكن ليس كل ولي نبيا؛ وسلسلتا النبوة والولاية ممتدتان منذ أول الأنبياء آدم عليه السلام. فإذا التقتا في شخص معين، يكون هو الرسول المبعوث في أمته، وإذا افترقتا يكون هو الولي العارف العالم القادر على فهم الشريعة وباطن الشريعة. وهؤلاء هم ورثة الأنبياء القادرون بما وهبهم الله بما حصلوا من علم على نشر الحقيقة وتبيانها للناس على قدر استيعاب عقولهم ودرجاتهم في المعرفة. ولهذا قال
صلى الله عليه وسلم : «العلماء ورثة الأنبياء». وإذا كانت سلسلة الأنبياء قد انقطعت بالبعثة المحمدية، فإن سلسلة الأولياء مستمرة إلى يوم القيامة؛ لأن الباطن لا يتوقف عن التفتح باستمرار.
فإذا كان القرآن كلام الله، فإن هذا الكلام لم يرسل لكي تفهمه فئة من الناس ذات معارف عقلية معينة في زمن معين، وإنما لكي يفهمه البشر عبر مراحل عصورهم، وما يحمله تقدم العصور من توسع في الآفاق وزيادة في المعارف. فرسالة النص المقدس ذات وجهين، وجه تاريخي يتبدى في زمان معين ومكان معين، ووجه آخر يسمو على التاريخ وتقلباته ليتبدى جديدا أبدا. والوسيلة المثلى للجمع بين هذين الوجهين وقراءة أحدهما في الآخر، هي متابعة عملية التفسير والتأويل. إن على كل عصر أن يكشف عن بطن من بطون القرآن التي أشار إليها الحديث الشريف، لا يتعارض وظاهره؛ لأن الظاهر أساس الباطن والمدخل إليه؛ والتوكيد على الباطن يجب ألا يقود إلى نسخ الشريعة أو إضعافها، مثلما أن التوكيد على الظاهر يجب ألا يعمينا عن المعاني الروحانية للنص. ذلك أن الشريعة إذا تجردت من بواطنها تغدو مجرد عبادات شكلانية منقطعة عن معانيها الروحانية، والحقيقة إذا فارقت أصولها في الشريعة تؤدي بنا إلى الغلو في التأويل والانقطاع عن جوهر الإسلام.
ولقد أعطى التأويل ثماره في بيئتين فكريتين إسلاميتين هما البيئة الاعتزالية والبيئة الشيعية. ولكن بينما يؤكد المعتزلة على إعمال العقل في القرآن وفي الحديث النبوي الشريف، من أجل الكشف عن بواطن معانيهما ورد المتشابه إلى المحكم، فإن الشيعة ينظرون إلى التأويل على أنه إرث روحي تواتر إلينا من الرسول وآل بيته الكرام، عبر سلسلة الأئمة المتحدرين من صلبه، والذين اعتبروا بمثابة القيم على القرآن، يفسرونه ويوضحون للناس ما خفي من معانيه اعتمادا على علمهم المتوارث. قد تعلم علي على يد رسول الله وكان أقرب الناس إليه، وعنه حمل علم القرآن وتأويله ثم بثه في أولاده، ولهذا قال الرسول: «من كنت مولاه فعلي مولاه.» وقال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها.» وقال: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.» وقال : «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا.» ووصف علي هذه العلاقة الوثيقة التي ربطته بالنبي فقال: «كنت من رسول الله مثل الفصيل [أي صغير الجمل] من أمه، أحذو حذوه.»
Página desconocida
هذا العلم المتواتر عن الرسول والمتوارث في سلسلة الأئمة، ينقطع عند الشيعة الاثني عشرية باختفاء الإمام المهدي الثاني عشر؛ لأن الإمامة قد توقفت باختفائه. أما الشيعة الإسماعيليون الذين استقلوا عن التيار الشيعي الرئيس بعد وفاة الإمام السادس جعفر الصادق، فقد تابعوا الإمامة عن طريق نسب ابنه الأكبر إسماعيل، الذي توفي قبل والده بعد أن أوصى له، وذلك في سلسلة غير منقطعة من الأئمة، ووصلوا بمفهوم الإمامة إلى أقصى نتائجه المحتملة، من خلال عقيدة تجعل الإمام في مركز الكون.
كما أثمر التأويل في الحلقات الصوفية والفلسفية، التي حرضها الفكر الشيعي على تثبيت مواقعها في مواجهة الفقهاء وأهل الحرف. وكان إخوان الصفا من بواكير الحلقات الفلسفية التي أسست لمذهب إسلامي كوني يقوم على التأويل والتفسير الدينامي للكتاب. والإخوان على تأثرهم بالاعتزال، وبالبيئة الشيعية التي صدروا عنها، إلا أنهم مستقلون عن الشيعة وعن المعتزلة وبقية المذاهب الإسلامية، ويتسم مذهبهم بالأصالة على الرغم من أن كل التيارات الفكرية والروحانية لعصرهم قد صبت فيه ورفدته. وقد مارس تأثيرا في الفلسفة الإسلامية التي بلغت طور النضج بعده، كما مارس تأثيرا على المذاهب الإسلامية التي تفرعت عن المذهب الشيعي، ولا سيما الإسماعيلية التي قامت فلسفتها السامقة على قاعدة مكينة من فكر إخوان الصفاء.
مقدمة
إخوان الصفاء وخلان الوفاء، جمعية سرية تأسست على الأغلب في مدينة البصرة حاضرة الثقافة الإسلامية، في زمن ما من النصف الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وتركت لنا ميراثا فكريا وروحيا متميزا، بقيت آثاره فاعلة في الثقافة العربية عبر عصورها، يتمثل في اثنتين وخمسين رسالة لم يذكر مؤلفوها أسماءهم، تستغرق في الطبعات الحديثة نحو ألفين وخمسمائة صفحة، تبحث في شتى معارف عصرهم من فلسفة وعلوم وإلهيات، وتهدف إلى التأسيس لمذهب إسلامي ذي طابع كوني ، يستغرق المذاهب كلها ويوحد بينها. نقرأ في الرسالة 45، على سبيل المثال: «وبالجملة، ينبغي لإخواننا أيدهم الله تعالى، أن لا يعادوا علما من العلوم أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا لمذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعا.» وغايتهم من ذلك كله هي فهم الشرط الإنساني والعمل بما يوجبه هذا الفهم، من أجل حياة عقلية ونفسية وروحية متوازنة في هذا العالم، تعد الإنسان إلى الخلود الروحي في العالم الآخر.
يلف الغموض نشأة هذه الجماعة وتنظيمها وعدد أعضائها، على الرغم من أنها نشطت في عصر حكم الأسرة البويهية في بغداد، وهي فترة موثقة لنا تمام التوثيق. وقد تضاربت فيها أقوال القدماء وتباينت الآراء، ومعظمها متأخر عن عصر الإخوان، وذلك عائد إلى الطابع السري للجماعة ولجوئها إلى التقية والستر، على انتشارها الواسع في جميع أرجاء العالم الإسلامي. وفي الحقيقة، فإنه لا يتوفر لنا إلا خبر تاريخي واحد يمكن الركون إليه، جاءنا عن المؤلف أبو حيان التوحيدي المعاصر للإخوان، وعلى وجه التحديد لمن ألف الرسائل منهم. فقد أورد التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» وفي كتابه الآخر «المقابسات» هذه الحوارية التي جرت بينه وبين ابن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي، نحو عام 372ه على الأرجح:
قال الوزير للتوحيدي: إني لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولا يريبني، ومذهبا لا عهد لي به، وكناية عما لا أحقه، وإشارة إلى ما لا يتوضح شيء منه. يذكر الحروف ويذكر اللفظ، ويزعم أن الباء لم تنقط من تحت واحدة إلا لسبب، والتاء لم تنقط من فوق اثنتين إلا لعلة، والألف لم تمد إلا لغرض، وأشباه هذا. فما حديثه؟ وما شأنه؟ وما دخلته؟ وما خبرته؟ قد بلغني أنك كنت تغشاه وتجلس إليه وتكثر وتورق له ...
فقال التوحيدي: أيها الوزير، إنك كنت تعرفه قبلي قديما وحديثا بالتربية والاختبار والاستخدام، وله منك الأخوة القديمة والنسبة المعروفة.
قال الوزير: دع هذا وصفه لي.
قال التوحيدي: هناك ذكاء غالب، وذهن وقاد، ويقظة حاضرة، وسوانح متناحرة، ومتسع في فنون النظم والنثر ... وتبصر في الآراء والديانات، وتصرف في كل فن ...
قال الوزير: فعلى هذا ما مذهبه؟
Página desconocida
قال التوحيدي: لا ينسب لشيء ولا يعرف برهط، لجيشانه بكل شيء، وغليانه في كل باب ... وقد أقام بالبصرة زمانا طويلا، وصادف بها جماعة جامعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة، منهم: أبو سليمان محمد بن معشر البستي ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوقي، وغيرهم. فصحبهم وخدمهم. وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته. وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة ... وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال. وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميها وعمليها، وأفردوا لها فهرسا، وسموها رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، وكتموا أسماءهم، وبثوها في الوراقين، ولقنوها للناس، وادعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عز وجل وطلب رضوانه.
تعطينا هذه المحاورة معلومات لا بأس بها عن جماعة الإخوان. فقد جرت، كما قلنا، نحو عام 372ه، وهو العام الذي تولى فيه ابن سعدان الوزارة في خدمة البويهيين الفرس، الذين حكموا إلى جانب بني العباس من عام 334 إلى عام 447ه. ومن صيغة الماضي التي استخدمها التوحيدي في وصف زيد بن رفاعة، وكون الرسائل مبثوثة في الناس في فترات سابقة على المحاورة، نستدل على أن زمن تأليف الرسائل ربما يعود إلى أواسط القرن الرابع، في وقت كان فيه أبو حيان شابا يجلس إلى زيد ويورق له، أي ينسخ له كتبه. فإذا كانت الرسائل قد وضعت في هذا الزمن فعلا، وهي زبدة فكر الإخوان ولا يعرف لهم غيرها، فإن التنظيم السري لا بد وأن يكون قد تشكل قبل هذا الزمن، وربما في أوائل القرن الثالث أو قبل ذلك، وكان يعتمد في دعاوته على مجموعة من التعاليم الغنوصية العرفانية مبثوثة في مرجع أكثر اختصارا من الرسائل، تتحدث عن الأصل السماوي للنفس الإنسانية، وهبوطها إلى عالم المادة، والوسائل العرفانية الكفيلة بتحريرها وعودتها إلى مصدرها، وهذه هي المحاور الرئيسة التي قامت الرسائل بعد ذلك بتطويرها، وتقديمها في إطار موسوعي أشمل احتوى على كل المعارف المتاحة لذلك العصر.
وتقدم لنا الرسائل نفسها إشارات تدل على زمن تأليفها. في معرض نقدهم لعقيدة الإمام الغائب عند الشيعة الاثني عشرية، يقولون في الرسالة 42: «ومن الآراء الفاسدة والاعتقادات المؤلمة لمعتقديها رأي ... من يرى ويعتقد أن الإمام الفاضل المنتظر الهادي مختف لا يظهر من خوف المخالفين. واعلم أن صاحب هذا الرأي يبقى طول عمره، منتظرا لخروج إمامه، متمنيا لمجيئه، مستعجلا لظهوره، ثم يفني عمره ويموت بحسرة وغصة لا يرى إمامه، ولا يعرف شخصه من هو» (42: 3، 532). فإذا عرفنا أن الإمام المهدي قد اختفى في سن صغيرة نحو عام 265ه، وأضفنا إلى ذلك الفترة الزمنية اللازمة لترسخ هذه العقيدة بعد مرور الوقت الكافي لوفاة الإمام، لوصلنا إلى أواسط القرن الرابع، وهذا ما يتطابق مع ما استنتجناه من المحاورة.
تشير المحاورة بشكل مباشر إلى المقر الرئيس للجماعة، وهو البصرة، حيث التقى زيد بن رفاعة بجماعة جامعة لأصناف العلم، فصحبهم وخدمهم. كما تذكر من أعضائها الرئيسين إلى جانب زيد أربعة؛ هم: المقدسي، والزنجاني، والمهرجاني، والعوقي، وجميع هؤلاء لم يكونوا من الشخصيات الفكرية البارزة في ذلك العصر، والمؤلفات التي تعزى إلى بعضهم لم تكن بمستوى ووزن الرسائل. وعلى الرغم من أن كل الباحثين يعزون تأليف الرسائل إلى زيد بن رفاعة وهؤلاء الأربعة، إلا أنني أرجح أن يكون هؤلاء الأربعة هم أصحاب الرسائل من دون زيد «الذي صحبهم وخدمهم» على حد تعبير التوحيدي، ويبدو أنه كان أصغر منهم سنا. وإني أستند في هذا الترجيح إلى ما للرقم الرباعي من أهمية في فكر الإخوان، فأصل الأعداد كلها هو من الواحد إلى الأربعة، وعدد مراتب الوجود أربعة، وعدد أقسام رسائلهم أربعة، ويقوم تنظيمهم على الرقم أربعة. فعلى قمة الهرم يتربع أربعة أشخاص هم بمثابة القيادة العليا، وهؤلاء الأربعة منتقون من أربعين، والأربعون منتقون من أربعمائة، والأربعمائة منتقون من أربعة آلاف، ووراء الأربعة آلاف عدد لا يحدده النص من «الأنصار» الذين يدعونهم بالتائبين المخلصين (الرسالة التاسعة).
وتدلنا المحاورة على السمة العامرة لمذهب الإخوان الذي يعتمد على التوفيق بين الدين وفلسفات العصر وعلومه، حيث قال التوحيدي: «وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة ... وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال.» وهناك تتمة لما أوردناه من المحاورة تضيء بعض جوانب هذه المسألة. فقد سأل الوزير أبا حيان التوحيدي عن المقدسي الذي يبدو أنه كان الأبرز بين الأربعة، وعن رأيه في الشريعة والفلسفة، فروى التوحيدي عنه قوله: «الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء. والأنبياء يطببون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط، وأما الفلاسفة فيحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلا. فبين مدبر المريض وبين مدبر الصحيح فرق ظاهر وأمر مكشوف؛ لأن غاية تدبير المريض أن ينتقل به إلى الصحة ... وغاية تدبير الصحيح أن يحفظ الصحة، وإذا حفظ الصحة قد أفاده كسب الفضائل وفرغه لها وعره لاقتنائها؛ وصاحب هذه الحال فائز بالسعادة العظمى وقد صار مستحقا للحياة الإلهية، والحياة الإلهية هي الديمومة والخلود. وإن كسب الفضائل من يبرؤ من المرض بطب صاحبه أيضا، فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل؛ لأن إحداهما تقليدية والأخرى برانية، وهذه مظنونة وهذه مستيقنة، وهذه روحانية وهذه جسمانية، وهذه دهرية وهذه زمانية.»
وفي حديث التوحيدي تلميحات صائبة إلى روحانية مذهب الإخوان، وجنوحهم إلى السلم في نشر مذهبهم الذي يخلو من المطامح الدنيوية والسياسية، واعتناقهم لمثل اجتماعية عليا، والطابع الأخوي لتنظيمهم، عندما قال: «وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة.» فرسالتهم على ما نجد في ثنايا الرسائل أخلاقية بالدرجة الأولى، تحث على تهذيب النفس وتطهيرها من الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة المؤلمة لأصحابها، والارتقاء بها فوق عالم المادة الذي يعتبرونه سجنا للنفوس الإنسانية. ولكن هذه السمة الخلاصية لمذهبهم لم تكن تعني انسحاب الفرد من العالم والانكفاء على نفسه من أجل تدبير خلاصها؛ لأن على الفرد في سعيه لخلاصه الفردي أن يساعد النفوس الأخرى على الخلاص أيضا، وذلك عن طريق نشاط جمعي واسع تقوم به جماعة الإخوان، التي جعلت من نفسها نموذجا للمجتمع الجديد المنشود الذي تحث تعاليمهم على بنائه. وقد وجهوا النقد اللاذع إلى الفساد السياسي والاجتماعي السائد في زمنهم، والتدهور الأخلاقي الذي يسم العلاقات الاجتماعية، وشخصوا أمراض المجتمع، وأشاروا إلى طرائق الإصلاح.
أما عن جدة هذا المذهب، وعدم انتمائه إلى أحد المذاهب الإسلامية المعروفة من شيعة أو معتزلة أو إسماعيلية أو قرمطية، فنجده في قول التوحيدي: إن زيدا ورفاقه «قد وضعوا فيما بينهم مذهبا»، ولم ينسبهم إلى أحد. ولو كان على دراية بصلتهم بإحدى الجماعات السياسية أو الفكرية أو الدينية، لما تردد في ذكر ذلك. وهذا الرأي الذي يصدر عن شخصية مرموقة عاصرت إخوان الصفاء، وعرفت بعضا من أعضائها البارزين، هو أكثر مصداقية من آراء بعض المؤلفين الإسماعيليين المتأخرين على إخوان الصفاء بنحو قرنين أو أكثر، والذين يؤكدون انتماء الإخوان إلى الإسماعيلية. وهذه مسألة سوف نتعرض لها في حينها عندما نتحدث عن «إسلام إخوان الصفاء» في أحد الفصول القادمة. وأكتفي هنا بالقول: إن فكرة الإمامة، وهي حجر الرحى في الفكر الشيعي عامة والفكر الإسماعيلي خاصة، لم تكن موضع توكيد لدى الإخوان، وهم في أكثر من موضع في رسائلهم يستبعدونها من مذهبهم. ومن ذلك قولهم في الرسالة 47: «واعلم أن العقلاء الأخيار إذا انضاف إلى عقولهم القوة بواضع الشريعة، فليس يحتاجون إلى رئيس يرأسهم ويأمرهم وينهاهم ويزجرهم ويحكم عليهم؛ لأن العقل والقدرة لواضع الناموس يقومان مقام الرئيس الإمام. فهلم بنا أيها الأخ أن نقتدي بسنة الشريعة ونجعلها إماما لنا» (47: 4، 137) وفي الحقيقة، فإن أي تشابه بين فكر الإخوان وفكر فلاسفة الإسماعيلية المتأخرين عليهم، إنما يعكس تأثير الإخوان في الإسماعيلية وليس العكس، وأثناء القرن الرابع الهجري لا نجد أي أثر فكري إسماعيلي بارز كان يمكن له أن يرفد فكر الإخوان.
وهنالك إشكالية في حديث التوحيدي تتعلق بعدد الرسائل، فهو يقول: إنهم قد صنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميها وعمليها. ولكننا نجد أن عدد الرسائل في فهارس المخطوطات التي وصلت إلينا هو اثنتان وخمسون رسالة، على الرغم من أن الإخوان يذكرون في ثنايا الرسائل تارة أنها اثنتان وخمسون وتارة أخرى أنها واحد وخمسون، وفي مطلع رسالتهم الثانية والخمسين وفق الفهرست يقولون: «وهذه هي آخر الرسائل من القسم الرابع، وهي الحادية والخمسون.» كما وأنهم يشيرون إلى تصنيفهم لرسالة إضافية دعوها بالرسالة الجامعة، واعتبروها بمثابة تلخيص للرسائل، من أجل إتاحة الفرصة لمن لم يطلع على الرسائل كلها وفاته بعضها، لربط ما فاته بما تحصل لديه. فما هو عدد الرسائل بالضبط؟ في الحقيقة نحن لا نملك سوى الالتزام بالعدد 52 الوارد في فهرست الرسائل، وهذا ما فعلته في إشارتي إلى مراجع المقتبسات، حيث اعتبرت الرسالة الثانية والخمسين هي الرسالة الأخيرة. أما عن الرقم 51، فيبدو أن الإخوان بعد انتهائهم من كتابة الرسائل، قد بثوها في اثنين وخمسين رسالة، وفيما بعد عندما وضعوا الرسالة الجامعة في وقت لاحق على نشر الرسائل، أرادوا الحفاظ على الرقم 52 وهو رقم يحمل دلالة رمزية، قاموا بضم رسالتين إلى بعضهما في رسالة واحدة، وهما على الأغلب الرسالة الأولى من القسم الثالث المعنونة «في المبادئ العقلية على رأي الفيثاغوريين»، والرسالة التي تليها والمعنونة «في المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفاء»، وجعلوا العنوان المشترك لهما «في المبادئ العقلية». وأما عن الرقم خمسين الذي ذكره التوحيدي، ففي ذلك أكثر من تفسير؛ فإما أن التوحيدي أورد رقما تقريبيا لم يتوخ فيه الدقة، وإما أن ما وصله من الرسائل لم يتجاوز الخمسين، وإما أن الإخوان في ذلك الوقت لم يكونوا قد بثوا الرسالتين الأخيرتين في الوراقين ولم يكن متداولا منها إلا خمسون.
على أنني، في الحديث عن عدد رسائل إخوان الصفاء، أود أن أثير مسألة قد لا نستطيع فيها الوصول إلى قول فصل على ضوء معلوماتنا الحالية؛ وهي انتماء الرسالة الجامعة إلى الرسائل الأصلية للإخوان، وكون مؤلفي الرسائل هم فعلا واضعوها. إن القراءة المدققة لهذه الرسالة لا يمكن إلا أن تقود إلى ملاحظة اختلافها عن رسائل الإخوان، فهي غامضة في تعابيرها، وتفتقد إلى حيوية وسهولة أسلوب الإخوان الذي يتوجه إلى عامة المثقفين لا إلى خاصتهم على الرغم من أن هدفها المعلن هو تلخيص الرسائل والربط بين أفكارها، وتوضيح غاياتها؛ كما أنها تحتوي على عدد من الأفكار التي تتناقض مع ما ورد في الرسائل، وعلى الأخص فيما يتعلق بمسألة الإمامة. ولعل من قرأ الفلسفة الإسماعيلية التي بدأت بواكيرها تتفتح في القرن الخامس الهجري، يستطيع ملاحظة الشبه بين أسلوب فلاسفة الإسماعيلية وأسلوبها. فهل قام بوضعها أحد المفكرين الإسماعيليين ممن أرادوا إعطاء طابع إسماعيلي للرسائل؟ إن الأمر غير مستبعد، لا سيما أن الأفكار الإسماعيلية التي يقال عن وجودها في الرسائل مبثوثة في هذه الرسالة بالذات. أما عن ورود ذكر الرسالة الجامعة في أكثر من موضع في الرسائل، فيمكن تفسيره في هذه الحالة بأن النساخ الذين بدءوا بعد ذلك بنسخ الرسالة الجامعة هذه إلى جانب الرسائل الأصلية، قد حشروا عنوان الرسالة الجامعة إلى جانب بقية العناوين. هذه اللمسة التحريرية على الرسائل تغدو ممكنة إذا عرفنا أن الحلقات الإسماعيلية هي التي صارت معنية فيما بعد بتوريق وتداول الرسائل، بعد زوال تنظيم إخوان الصفاء.
نأتي الآن إلى مضمون الرسائل وموضوعاتها ومنهج الإخوان في صياغتها. فقد تكلم الإخوان في شتى فروع المعارف الفلسفية والعلمية، في زمن لم يكن فيه العلم قد استقل عن الفلسفة. وعلى حد قول التوحيدي فإن الإخوان صنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميها وعمليها. فلقد كتبوا في علم العدد، والمنطق، والفلك، والطبيعيات، والجغرافيا، والبيئة الأرضية، وعلم النفس، والإلهيات، وذلك بأسلوب لا يصعب حتى على قارئ العربية الحديث. يقولون في الرسالة 15: «عملنا في هذه الرسائل، وأوجزنا فيها القول، شبه المدخل والمقدمات، لكيما يقرب على المتعلمين فهمها، ويسهل على المبتدئين النظر فيها.» ويقولون في الرسالة الأولى: إن الفلاسفة «لما بحثوا عن علم النفس بقرائح قلوبهم، واستخرجوا معرفة جوهرها بنتائج عقولهم، دعاهم ذلك إلى تصنيف الكتب الفلسفية. ولكنهم لما طولوا الخطب فيها، ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن فهم معانيها، وثقلت على الباحثين أغراض مصنفيها. ونحن قد أخذنا لب معانيها وأقصى أغراض واضعيها، وأوردناها بأوجز ما يكون من الاختصار في اثنتين وخمسين رسالة.» ولكن الإخوان لم يقصدوا إلى إنتاج موسوعة معرفية، وهي الصفة التي تلصق بالرسائل من قبل معظم الباحثين، بقدر ما قصدوا إلى سعادة الإنسان في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى؛ وهذه السعادة تبتدئ باستلام طريق المعرفة.
Página desconocida
وضع الإخوان رسائلهم في أربعة أقسام، يختص كل قسم منها بموضوع من موضوعات الفلسفة. ويبدو أن كل واحد من الأربعة الذين يتربعون على قمة الهرم التنظيمي، كان مسئولا عن إعداد قسم من هذه الأقسام، وهي: (1)
القسم الرياضي، ويدعون رسائله بالرسائل الرياضية التعليمية، وعددها أربع عشرة رسالة. (2)
القسم الطبيعي، ويدعون رسائله بالرسائل الجسمانية الطبيعية، وعددها سبع عشرة رسالة. (3)
قسم النفسانيات والعقليات، ويدعون رسائله النفسانية العقلية، وعددها عشر رسائل. (4)
قسم الآراء والديانات، ويدعون رسائله بالناموسية الإلهية والشرعية الدينية، وعددها إحدى عشرة رسالة.
أما الرسالة الجامعة، فقد أفردوا لها مجلدا خاصا يستغرق في الطبعات الحديثة نحو 350 صفحة. وهم في نهاية فهرستهم للرسائل في مقدمة الكتاب، يصفون ما ورد فيها بأنه مجرد نماذج لما في حوزتهم من الحكمة والمعارف، يعرضونها على طالبي العلم علهم يرغبون في الاطلاع على مزيد مما لديهم. يقولون في مقدمة الرسائل التي تحتوي على الفهرست: «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن مثل صاحب هذه الرسائل مع طالبي العلم ومؤثري الحكمة ومن أحب خلاصه، واختار نجاته، كمثل رجل حكيم جواد كريم، له بستان خضر نضر بهج مونق معجب طيب الثمرات، لذيذ الفواكه، عطر الرياحين ... أراد لكرم نفسه وسخاء سجيته أن يدخلها كل مستحق ... فنادى في الناس أن هلموا وادخلوا في هذا البستان، وكلوا من ثمارها ما اشتهيتم، وشموا من رياحينها ما اخترتم ... فلم يجبه أحد ... فرأى الحكيم من الرأي أن وقف على باب البستان، وأخرج مما فيه تحفا، وطرفا ولطفا من كل ثمرة طيبة، وفاكهة لذيذة، وريحان زكي ... فكل من مر به عرضها عليه ... حتى إذا ذاق وشم وفرح به ... واشتاق إلى دخول البستان وتمناه، وقلق إليه ولم يصبر عنه، قال له عند ذلك: ادخل البستان، وكل ما شئت، وشم ما شئت، واختر ما شئت.» (فهرست الرسائل: 1، 45-46).
ولكن على الرغم من هذا التقسيم المنهجي للرسائل وتوزيعها على أربعة أقسام، لكل قسم منها موضوعه الخاص ولكل رسالة فيه موضوعها أيضا، إلا أن الإخوان لم يتقيدوا بهذا التقسيم؛ فهم لا يستنفدون الموضوع الواحد في رسالة واحدة أو قسم بعينه، بل نراهم يعودون إليه في رسائل أخرى وقسم آخر، لمزيد من المعالجة والتطوير، أو قد يكررون حرفيا ما قالوه سابقا دون تغيير؛ الأمر الذي يؤكد تعدد المؤلفين، كما يؤكد ما أوردته سابقا عن وجود مرجع مشترك لهم سابق على كتابة الرسائل. وينجم عن ذلك عدم اقتصار الرسالة الواحدة على موضوعها المعلن في العنوان، واحتوائها على الكثير من الاستطرادات التي تعالج أفكارا خارجة عن السياق. وهذه في رأيي أبرز الصعوبات التي تواجه قارئ الرسائل، الذي لا يستطيع الإحاطة بأي موضوع تعالجه، أو فهم جانب من جوانب مذهب الإخوان إلا بعد الانتهاء من قراءة الرسائل جميعها، وكان على قدر من النباهة يمكنه من ربط شتات الأفكار والتأليف فيما بينها عبر كل مرحلة من المراحل.
يقوم مذهب الإخوان على التوفيق بين الدين والفلسفة، وهو طريق اختطه قبلهم الفيلسوف الكندي، ولكنهم كانوا أول من وصل به إلى أقصى غاياته. فإذا كان على المرء أن يبدأ أولا بالإيمان الذي هو التصديق والإقرار بما أخبر الأنبياء، إلا أن الإنسان العاقل لا يلبث حتى يضع إيمانه هذا موضع التفكير العقلي. وهنا يأتي دور الفلسفة، وطلب المعارف الحقيقية التي تقود إلى تصديق العقل بعد تصديق القلب. نقرأ في الرسالة 46: «ومن أجل هذا دعت الأنبياء أممها إلى الإقرار أولا، ثم طالبوها بالتصديق بعد البيان، ثم حثوهم على طلب المعارف الحقيقية. والدليل على صحة ما قلنا، قوله عز وجل :
الذين يؤمنون بالغيب ، ولم يقل الذين يعلمون بالغيب؛ ثم حثهم على طلب العلم بقوله:
فاعتبروا يا أولي الأبصار ؛ ثم مدحهم قال: ... يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ...
Página desconocida
1
فكفى بهذا فرقا بين العلم والإيمان.»
وفي هذا الوقت كان الغرب المسيحي يشهد قيام عملية مشابهة من التوفيق بين الدين والفلسفة، ابتدأت بأول الفلاسفة المسيحيين الكبار وهو كليمنس الإسكندري (ت 215م) الذي اعتبر الفلسفة اليونانية هبة من الله. وقد أسس في الإسكندرية مدرسة لتأهيل معلمي الديانة المسيحية كانت تدرس الفلسفة اليونانية وعلى وجه الخصوص فلسفة أفلاطون. ثم خلفه تلميذه أوريجين (ت 254م) الذي ألف دراسات للكتاب المقدس مبنية على التفكير الفلسفي، واعتبرت بعض كتاباته خارجة عن المعتقد القويم. وقد بلغت هذه الحركة ذروتها مع ظهور كتابات القديس أوغسطين (ت 340م) الذي يعتبر من أبرز الأفلاطونيين المحدثين في الفكر المسيحي، وأكثر المفكرين أثرا في تاريخ الكنيسة. فقد سار أوغسطين على نهج الأفلاطونية المحدثة وصبغه بالصبغة المسيحية، وبفضل مؤلفاته تحولت الفلسفة إلى مصدر من مصادر علم اللاهوت المسيحي؛ ويمكن تشبيه دوره بالدور الذي أداه الفيلسوف الكندي في الثقافة الإسلامية. وفي القرن العاشر الميلادي (الذي نشط فيه إخوان الصفاء) ولدت الفلسفة المدرسية المسيحية (= السكولائية)، عندما عكف رهبان الأديرة على دراسة وترجمة العديد من المخطوطات الفلسفية اليونانية التي كانت محفوظة لديهم، ووضعوا لها الشروح والتفسيرات. وكان من أوائل هؤلاء المدرسين جون سكوت إريجينا، الذي حاول التوفيق بين مفهوم الأفلاطونية عن الفيض الإلهي وتعاليم المسيحية في الخلق والتكوين (ت 877م). وقد بلغت الفلسفة المدرسية عصرها الذهبي في زمن إنسلم أسقف كانتربري (ت 1109م)، الذي أكد بأن على المؤمن أن يجتهد في فهم ما سبق وأن يؤمن به، وذلك اعتمادا على العقل؛
2
وهذا عين ما قال به إخوان الصفاء.
كما يقوم مذهب الإخوان على التوفيق بين الأديان؛ لأن في كل منها جانبا من الحقيقة. يقولون في الرسالة 42: «فاعلم أن الحق في كل دين موجود، وعلى كل لسان جار، وأن الشبهة دخولها على كل إنسان جائز ممكن ، فاجتهد يا أخي أن تبين الحق لكل صاحب دين ومذهب مما هو في يده، أو مما هو متمسك به، وتكشف الشبهة التي دخلت عليه، إن كنت تحسن هذه الصناعة ... ثم اعلم أن الأنبياء، عليهم السلام، لا يختلفون فيما يعتقدون من الدين سرا وعلانية ... وأما الشرائع التي هي أوامر ونواه وأحكام وسنن، فهم فيها مختلفون ... ثم اعلم أن اختلاف الشرائع ليس بضار، إذا كان الدين واحدا» (42: 3، 486-487، 501).
لذلك، فإن التعصب هو آفة العقول يعميها عن رؤية الحقائق: «... ثم اعلم أنه ينبغي لمن يريد أن يعرف حقائق الأشياء أن يبحث أولا عن علل الموجودات وأسباب المخلوقات، وأن يكون له قلب فارغ من الهموم والغموم والأمور الدنيوية ... ويكون غير متعصب لمذهب أو على مذهب؛ لأن العصبية هي الهوى، والهوى يعمي عين العقل، وينهى عن إدراك الحقائق» (40: 3، 376).
من هنا، فإن مذهب الإخوان هو استمرار وتكملة لكل معارف الإنسانية، وعلومهم مأخوذة من أربعة مصادر رئيسية: «أحدها: الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة، من الرياضيات والطبيعيات، والآخر: الكتب المنزلة التي جاءت بها الأنبياء ... والثالث: الكتب الطبيعية، وهي صور أشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك، وأقسام البروج، وحركات الكواكب ومقادير أجرامها، وتصاريف الزمان، واستحالة الأركان، وفنون الكائنات من المعادن والحيوان والنبات ... والنوع الرابع: الكتب الإلهية التي لا يمسها إلا المطهرون» (45: 4، 42).
لقد تأثر الإخوان بالفلسفة اليونانية، ووضعوا فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو في درجة تعادل درجة الأنبياء، واستشهدوا بأقوالهم في سياق واحد مع أقوال عيسى المسيح والرسول الكريم، كما تأثروا بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة التي نشطت في المشرق العربي في العصر الهيلينستي، لا سيما فيما يتعلق بنظرية الفيض الإلهي التي تفسر كيفية ظهور العالم عن الله؛ وصبت في إنائهم الفكري تيارات قادمة من الهند وفارس، والصابئة المحليين في حران وهم أصحاب عقيدة كوكبية تقدس الأجرام السماوية. ولكنهم خرجوا من ذلك كله بمذهب أصيل أسس لغنوصية إسلامية أعطت ثمارها بعد ذلك في الفكر الصوفي، ولدى الفرق الإسلامية ذات الطابع الفلسفي وهي: الإسماعيلية والنصيرية والدرزية.
الإخوان والغنوصية
Página desconocida
الغنوصية مذهب فضفاض لا يقوم على أيديولوجيا دينية متحجرة، أو دوغما مذهبية. وقد بدأت بواكيره في الظهور مع مطالع القرن الأول الميلادي، بتأثير من الأفلاطونية الوسيطة، والتعاليم الهرمزية المنسوبة إلى هرمز المثلث العظمة،
3
وهذه التعاليم مبثوثة في ثماني عشرة رسالة تمثل نوعا من الغنوصية المبكرة، صاغها على ما يبدو عدد من المؤلفين المجهولين الذين ينتمون إلى أخوية روحية تشبه في تنظيمها جماعة إخوان الصفاء. ويظهر في هذه الرسائل الهرمزية عدد من الأفكار المؤسسة للغنوصية، وأهمها مثنوية الإنسان وانقسامه إلى جزء مادي وآخر روحي، حيث يمثل الجسد كل ما هو مادي ومظلم وفان، ويمثل العقل (الذي يتطابق مع الروح) كل ما هو نوراني وحقيقي وخالد، وهو الذي يقود في النهاية إلى الخلاص من سجن المادة، وتجسد فعالياته سعي الروح إلى الانعتاق، ودعوتها إلى العوالم النورانية العليا، إلى الله الذي تدعوه هذه النصوص بالأب الكلي.
جاءت تسمية الغنوصية
Gnosticism
من الكلمة اليونانية غنوص
Gnosis
التي تعني المعرفة الحدسية الباطنية، أو العرفان بمصطلح التصوف الإسلامي؛ فالعارفون هم الغنوصيون
Gnostics
الذين يتواصلون مع الحقيقة الكلية عن طريق بصيرتهم الداخلية، أما الآخرون فهم «غير العارفين» الذين يقفون عند ظاهر التعاليم الدينية، ولا ينفذون إلى حقيقتها الباطنية. فإذا كان الطريق إلى الجنة لدى اليهودية هو الالتزام بأحكام الشريعة، ولدى المسيحية هو الإيمان بيسوع المسيح، فإن الخلاص عند الغنوصية يتأتى عن طريق فعالية روحية داخلية تقود إلى معرفة النفس، وفي أعماق مستوياتها تقود إلى معرفة الله ذوقا وكشفا وإلهاما. هذه المعرفة هي التي تحرر الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع، لتعود إلى مصدرها حيث كانت قبل الهبوط.
Página desconocida