ودخل ذلك المعلم متأخرا والغضب يبدو على وجهه، وكنت في الأسبوع الذي قبله قد طلبت من المعلمين أن يجلسوا على أدراج طالبات كانت موجودة في جهة من الفصل حتى لا يكونوا قريبا من المعلمات، وقد أعجب المعلمون بذلك الاقتراح، ووافقوا عليه، وجلسنا جميعا، ووقف هو زائغ البصر، فقلت له في هدوء وعطف: «تفضل اجلس إلى جانبي.» وكان بجواري مقعد خال فقال: لا ... ثم ذهب إلى منصة التدريس، وأخذ الكرسي الذي أعدته الطالبة ووضعه بشدة أمام المكان الذي كنت أجلس فيه، ثم جلس.
وهمست أنا إلى إحدى الطالبات فأحضرت كرسيا آخر وضعته بدل الكرسي الذي أخذه المعلم، وتابعت الطالبة السير في درسها، وعند انتهاء الدرس سألت الطالبات، ثم المعلمات، ثم المعلمين عن آرائهم فيه، ولم أشأ أن أتخطى ذلك المعلم حتى لا يظن أني تضايقت منه، فقلت له: ما رأي حضرتكم في هذا الدرس؟ قال: ليس لي رأي فيه؛ لأني كنت متعبا، فلم أعمل شيئا. قلت: أشكركم. وسرت في درسي حتى إذا ما انتهيت ذهبت إلى مكتبي، وكتبت له خطابا قلت فيه: إن بقاء المعلمين الرجال بين المعلمات وبين الطالبات ضرر لا بد منه، ونحن نتحمل مخالطتهم بالمعلمات وجلوسهم معهن رغبة في الظفر بآرائهم فيما يتعلق بالدرس، وقد قلت إنك كنت مجهدا فلم تعمل، فلم دخلت هذا الدرس بلا عمل، وأنت تعلم أنك لو طلبت مني تصريحا بالتغيب عنه لما تأخرت في إجابة طلبك؟ لأن بقاءك بلا عمل مثال سيئ لباقي المعلمات والمعلمين؛ إذ يكون هذا سابقة لبقائهم في الدرس بلا عمل، وصرفهم الوقت في اللهو والعبث.
قرأ المعلم هذا الخطاب، ولم يستطع الإجابة عليه بل ظل مترددا مدة طويلة، ثم كتب لي كتابا يقول فيه: «إني قد خالفت أوامر الوزارة في أشياء كثيرة، منها أني صرحت للمعلمين بالأكل داخل المدرسة بعد أن منعت الوزارة ذلك رسميا، وأني فتحت سنة أولى من القسم الإضافي في العلوم مع أن الوزارة لم تصرح بذلك، وأني أزيد عدد حصص اللغة العربية عن المقرر.» وطلب مني أن أرفع هذا الخطاب إلى الوزارة. وأردت أن أتأكد من أن المفتش وشى إلى المعلم بما أخبرته به فاستدعيته بالتليفون، وحضر في الحال، فلما حضر استدعيت المعلم فدخل علينا، وكانت دهشتي عظيمة عندما ابتدأ حديثه معنا بأن أخرج من جيبه خطابا كان ذلك المفتش قد كتبه له، وهو ناظر مدرسة يدرس بها ذلك المعلم يشكره فيه على حسن نتيجته في الامتحان، قدم ذلك الخطاب، وهو يقول: إن سعادتك كتبت لي ذلك الخطاب تشكرني على حسن نتائجي أيام كنت أدرس تحت رياستك، وهي تنكر علي ذلك، وتقول إن نتائجي في الامتحان سيئة. فنظرت إلى المفتش، وكنت في ذلك الوقت أقوم بوضع أسئلة امتحانات النقل بنفسي دون أن يطلع عليها المعلمون، فنظرت إلى المفتش، وقلت له: إنك تشكره في خطابك هذا على حسن نتيجته في الامتحان، فهل كنت أنت واضع الأسئلة أم هو؟ قال: بالطبع هو الذي كان يضع الأسئلة. قلت: إذن أنت تشكره على خراب ذمته؛ لأن المعلم إذا وضع هو أسئلة الامتحان في المادة التي يدرسها، وكان غير دقيق في عمله، وغير مأمون عليه، أعد التلاميذ له فنجحوا جميعا، وليس في ذلك ما يستوجب الشكر، بل فيه ما يستوجب الذم، أما أنا فإني أضع أسئلة امتحانات مدرستي، فإذا قلت عن شخص إنه مقصر أو إنه مجد في تدريس مادته فأنا على حق فيما أقول، وإني بعد هذا أسألك سؤالا واحدا: هل بينك وبين هذا المعلم اتصال لاسلكي حتى استطعت أن تخبره بما قلته لك أمس في نفس هذه الليلة؟! ليس في منزل الرجل تليفون، فكيف اتصلت به بهذه السرعة؟ لا بد أنك كلفت نفسك كثيرا، فأنت إذن ذو غاية سيئة؛ ولهذا أطلب منك أن تترك هذا المكتب حالا، وأن لا تعود إلى المدرسة مرة أخرى، أما معلمي فسأعرف كيف أقوده إلى الصواب.
وخرج المفتش دون أن يقول كلمة، واستدعيت بعض المدرسين فقرأت عليهم خطاب المعلم الذي طلب مني تبليغه إلى الوزارة، وقلت لهم: إنكم تعلمون أني لم آخذ منكم رشوة عندما سمحت لكم بالأكل في المدرسة، ولكني سمحت بذلك حبا في صالح عملي، فإن المدرسة بعيدة عن الأحياء المأهولة، وليس بجوارها مطعم أو شيء يمكن أن يشترى للغذاء، والمعلم إذا بقي بلا أكل لا يستطيع أن يتقن تدريس الحصة السادسة أو السابعة، وليس في أكله في المدرسة ما ينافي الآداب الشرقية؛ لأنه يجلس في غرفة المدرسين، وهي منعزلة تمام العزلة عن المدرسة، فإذا جاز له أن يلهو ويلعب فيها فقد جاز له أن يأكل أيضا.
فالوزارة مخطئة في عدم التصريح بأكل المدرسين بدعوى أنها مدرسة بنات، وأنتم أنفسكم شكوتم لي ذلك التعنت، فعملت على إزالته، وكذلك فتح الفصل ليس لي فيه مكسب شخصي، ولكني أردت أن أخدم التعليم في الإسكندرية، ولم أكلف الوزارة زيادة المعلمين، بل فتحت الفصل بكم، ولم يتألم أحد منكم من ذلك، فأنا إذن شريفة حسنة النية فيما أفعل لا أريد غير الإصلاح؛ ولهذا سأرسل هذا الخطاب إلى الوزارة، وسأعترف بكل ما فيه، وخرج المعلمون بعد ذلك يكادون يذوبون خجلا من فعلة زميلهم، ثم كتبت إلى المستر دانلوب خطابا أرفقت به خطاب المعلم، وقلت له فيه: إن كل ما جاء في هذا الخطاب صحيح، ولم أعمله أنا لغاية شخصية؛ فقد فتحت القسم الإضافي سعيا في نشر التعليم في الإسكندرية دون أن أكلف الوزارة شيئا، وصرحت للمعلمين بالأكل؛ لأن ذلك في صالح العمل، وبدونه يختل نظام التعليم بالمدرسة لبعدها عن المطاعم، وزدت عدد حصص اللغة العربية؛ لأن الطالبات سيكن معلمات يدرسن بتلك اللغة، وهن في حاجة شديدة لها.
عملت ذلك للصالح لا للأغراض الشخصية، وإني مصرة أن أعمله طالما كنت ناظرة لتلك المدرسة فلا تحقق معي فيه، وافعل بي ما شئت على اعتبار أن ما بلغه المعلم صحيح، أما المعلم فقد خرج في كتابه هذا عن حدوده؛ لأن الوزارة لم تعينه رقيبا علي، فليس له أن يتدخل فيما لا يعنيه.
وبعد أسبوعين من إرسال الخطاب إلى الوزارة جاء تصريح للمعلمين بالأكل في المدرسة، وتصريح آخر بفتح الفصل، وإنذار لذلك المعلم تحذره الوزارة فيه من العودة إلى مثل ما فعل، فكان هذا سببا في أن يبتعد المعلمون جميعا عن المفتش الأولي الذي كان يمني ذلك المعلم بالترقية، فانتهت أمانيه بالإنذار.
تحريض مستمر
هكذا كنت لا تشرق الشمس علي إلا استقبلت حادثا جديدا من مشاغبات ذلك المفتش الإنجليزي القوي العنيد، ولا أدري كيف أنتصر عليه مع ضعفي وقوته، وقد كان يساعده موظف عظيم من موظفي وزارة المعارف، فما كان ينقل إلى مدرستي معلم إلا قابله ذلك الموظف العظيم، وودعه بحرارة قائلا له: إني أعلم يا فلان أني مرسلك اليوم إلى جهنم، ولكن ما الحيلة ولا بد من تعيين مدرسين في تلك المدرسة؟ على أني مستعد كل الاستعداد لنقلك إذا أنت شكوت من سوء معاملة ما.
ولا شك أن المعلم كان يكره النقل من القاهرة إلى الإسكندرية، وما دام ذلك الرئيس الخطير قد وعده بالنقل إذا هو اشتكى، فكان من المعقول أن لا يقيم في المدرسة أكثر من أسبوع أو اثنين حتى يشكو أو يتشاكى، وكنت أجهل ذلك بالطبع، ولكن الظروف كانت توقفني على حقيقة ما يعملون مصادفة، ونقل إلى مدرستي معلم اسمه «الشيخ محمد سعد»، وكان - رحمه الله - رجلا تقيا مجدا في عمله مخلصا له، وكان مستقيما في مسلكه إلى حد الخشونة، فكرهته الطالبات لذلك التشدد، وأردن أن يوقعن به فأبلغنني أن الشيخ سعد قال لهن كلمة منبوذة لا يجوز لمعلم أن يقولها، ولما كنت أعرف في المرحوم الكمال والصدق والاستقامة لم أستطع تصديق ما قيل لي، ولكني دهشت مع ذلك من إجماع البنات عليه، فكنت أسألهن واحدة واحدة، وهن مصممات على ما قلن لي من أن الأستاذ قال لهن كلمة لا يليق به أن يقولها، وأخيرا طلبت منهن أن يقلن لي تلك الكلمة، وبعد إلحاح قلن إنه قال: «فواحش.» وسألت: «في أي درس قالها؟» فقلن لي: «في درس الدين.» وهنا طلبت كراسة من كراساتهن في الدين فوجدت مكتوبا فيها تلك الآية الكريمة:
Página desconocida