عرفت من تصرفاته بعد ذلك أنه يريد مناوأتي إذا استطاع، فكنت لا أعبأ به، وشاء له الطمع وحب المال أن يؤلف كتاب مطالعة لمدارس المعلمات الأولية باللغة العربية، وكنت غير راضية عن هذا الكتاب، وإن كان قد استعان في تأليفه ببعض المصريين أو المشايخ، ولكن عبارات الكتاب أقرب إلى اللغة الإنجليزية منها إلى اللغة العربية، ودخل يوما درسا من دروس المطالعة، فسألني في شيء من الزهو عن رأيي في كتابه، وكان يعتقد أني سأمدحه وأطريه، فدهش عندما أجبته: إنه ليس بكتاب عربي، قال: كيف ذلك؟ فأشرت إلى جملة فيه ابتدأها بقوله: أنا أتكلم، أو ما شابه ذلك فأشرت إليها، وقلت: ليس هذا بالأسلوب العربي الصحيح، فغاظه ذلك، وقال للأستاذ المعلم، وكان من دار العلوم، ولا يعرف شيئا في اللغة الإنجليزية: أفي هذه الجملة خطأ يا أستاذ؟ وأشار إليها، قال الأستاذ: لا. فقلت: إنك تقول لا على أنه لم ينصب في تلك الجملة الفاعل، ولم يرفع المفعول، ولكن هل هذا الوضع من اللغة العربية في شيء؟ فخجل الرجل، وعرف أني أعارض في مدح الكتاب، وقال في همس: لم أكن أعرف أنكما تتناقشان في ذلك.
ودخل مرة على أستاذ من دار العلوم كان متين الأخلاق كثير الفضائل، فلم يعجبه، وقال: إنه قديم في أسلوبه؛ لأنه لم يتبع الإرشادات التي وضعتها الوزارة في تعليم الإملاء من كتابة الكلمات الجديدة على السبورة قبل الابتداء في درس الإملاء. قلت: إن ذلك لا يتناسب واللغة العربية. قال: إني من المستشرقين. قلت: نعم، أما أنا فمن العرب، ولا يعرف المستشرق في لغتنا ما نعرف نحن من أن إملاءكم لا ضابط له، فرائدنا فيها النظر والسماع، وضربت له مثلا بكلمات كثيرة تنطق بغير ما تكتب به، أو تنطق نطقا لا يتناسب مع كتابتها، أما في اللغة العربية فإملاؤنا قياس تضبطه القواعد، فإذا نحن كتبنا على السبورة كلمة «نداءكم»، وهي مفتوحة أوهمنا الطلبة أن كلمة نداء بعدها حرف أو حرفان تكتب مفردة رغم أننا لو قرأناها بالضمة لكانت «نداؤكم» بالواو، ولو قرأناها بالكسرة لكانت «ندائكم» بالياء، فليس لنا بعد هذا أن نقول للتلميذ انظر إلى الكلمة، بل نقول له اسمع، وتبين النطق بها، إذن يجب علينا في إملائنا أن نذكر التلميذ بقواعد الإملاء التي قاعدة فيها، وأن نأمر بأن يتبين النطق ليكتب الكلمة صحيحة، واضطر المستشرق أخيرا أن يوافقني على هذا الرأي، وأن يعترف أن ما كتبه من الإرشادات لمعلمي اللغة العربية كان خطأ.
مناوآت
ابتدأت المناوآت تحت إشراف ذلك المفتش، فكان في كل يوم جديد من الوزارة، وكنت أسير في عملي بحذر متناه، ولا أعبأ بما يختلقون، وكان كل هم كبار الوزارة أن يرضوا ذلك المفتش الإنجليزي على حسابي؛ فكانوا يتخيرون لي المعلمين الذين سبق لهم أن تنازعوا مع نظارهم رجاء أن يحصل بيني وبينهم من الخلاف ما يجيز للوزارة التدخل في شئون مدرستي، وكنت لشدة حذري وسعة صدري مع المعلمين أتجنب كل إشكال من هذا القبيل، وكانت عادتي أن لا أتألم إلا من إهانة وجهت إلي ممن هو أعلى مني، أما مرءوسي فقد كنت أعتقد أن تسامحي معهم حلم ونبل، فلا أتألم منهم مهما كانت تصرفاتهم، وكانوا بمعاملتي اللينة يطيعونني أكثر مما يطيع المدرسون ناظرا عتيا مستبدا، وكان بالوزارة كما قدمت عظيم يكرهني، فكان إذا سمع بمعلم اختلف مع ناظره نقله إلي، وحدث أن مرض معلم بمرض النورستانيا فنقل في عام واحد إلى أربع مدارس، وفي كل مرة ينقل من المدرسة بعد أن يضرب ناظرها، وسمع بحكاية ذلك العظيم فسر سرورا يتناسب مع عظمته، وأمر بنقله إلى مدرستي بالإسكندرية.
نقل هذا المدرس إلي فجأة دون صفارة إنذار؛ فدخل مكتبي لأول مرة، وأخذ يشكو من الوزارة ويتململ؛ لأنها نقلته في عام واحد خمس مرات، وقال إنه أتى وحده، وترك أسرته في القاهرة خشية أن تنقله الوزارة للمرة السادسة، فطيبت خاطره، وقلت: إنه من المنظور أن لا تنقل، وإني أنا شخصيا سررت بنقله، وإني سأعمل كل ما يرضيه. قال: نحن في الورديان؛ أي في بقعة نائية بعيدة عن السوق، ولا أدري كيف أتدبر غذائي اليوم. قلت: لا بأس، يمكنك أن تدفع ثمن الغذاء للمتعهد، وتصرفه لك المدرسة من اليوم. قال: ولكنك لم تستأذني الوزارة في ذلك. وكان قانون المدارس يقضي بأن يستأذن الناظر الوزارة في السماح للمعلمين بالغذاء بالمدرسة إذا طلبوا ذلك على شرط أن يدفعوا الثمن ، قلت: لا بأس فإن الوزارة قد سمحت لزملائك بالأكل، ولا شك أنها ستسمح لك به، ولا غبار على عملنا إذا نحن صرفنا لك الأكل من اليوم إلى أن يأتينا تصريح الوزارة ما دمت أنت مضطرا إلى ذلك لبعد أسرتك عن المدينة. فشكرني وخرج، ولكني لاحظت أنه غير عادي، وأن عينيه حمراوان، فتخوفت منه، وقد شاء سوء الحظ أو حسنه أن أنسى مسألة غذائه، فلم أتكلم مع المتعهد في شأنها، ولم أتذكرها إلا بعد أن دق جرس الغذاء، وهنا خشيت إذا لم يرسل إليه غذاؤه أن يثور، وهو - والحمد لله - ثائر من نفسه، خشيت مغبة غضبه، فلم أر أمامي إلا أن أصرف له الغذاء من منزلي، فأمرت الخادم أن يحضر غذاءه من منزلي الخاص، وما كادت تقدم الأكل إليه حتى ثار وتهيج، وقال: كيف استطعت واستطاعت ناظرتك سرقة هذا الأكل من المدرسة بدون إذن الوزارة؟! ثار على المرأة حتى كاد يضربها، فهرعت إلي ملتاعة، وقصت علي قصتها، فذهبت لأرى الخبر بنفسي، فرأيته ثائرا متهيجا، يسب ويشتم في مدرسة تسرق أكل الوزارة علانية، وما كاد يقع بصره علي حتى قال: لا بد من أن أقتادك إلى النيابة.
فقلت في هدوء: ولم ذلك يا سيدي؟
قال: لأنك سرقت لي أكل الحكومة بدون إذنها. فضحكت، وقلت له: وإذا كان هذا الأكل من منزلي أنا الخاص، فماذا يكون موقفك؟ فقال: أقتادك إلى النيابة أيضا كي أرد شرفي؛ لأنك اعتبرتني متسولا. قلت: ولم تتصور هذا؟ ولم لا أكون قد اعتبرتك ضيفا كريما، فأردت الاحتفاء بك؟ قال: إني لا أعرفك. قلت: لقد تعارفنا اليوم يا سيدي، وعملنا معا.
وهدأ الرجل قليلا كأنه يفكر فيما يصنع، وأسرعت أنا، وأشرت إلى الخادمة بأخذ الطعام من أمامه، وهو جسم الجريمة حسب اعتقاده، فهدأت ثائرته، وكأنه نسي الموضوع، وعلمت من ذلك أنه غير عادي، وراعني شدة احمرار عيونه، وتأكدت أنه إما أن يكون شاربا أو مريضا، وكان عندي معلم طيب السيرة من دار العلوم، كنت أعتمد عليه لمتانة أخلاقه، وكان اسمه «الشيخ حاتم» فاستدعيته، وطلبت منه أن يشم رائحة ذلك الزميل، وأن يخبرني إذا كان هو في حالة سكر، وعاد الشيخ حاتم، فقال: إن الرجل غير سكران، وأنا أعرفه من قبل ذلك. قلت: إذن هو مريض. قال: قد يكون ذلك، فإنه غير عادي في كلامه.
عرفت من تلك الظروف أن الوزارة أرادت أن تنقل إلي رجلا متهيجا ليناوئني، فكتبت إلى ذلك العظيم في الحال أقول له: إن الرجل الذي نقلتموه إلى مدرستي مريض، وأرجو أن لا تظن أني تشاجرت معه، أو حصل بيني وبينه أي نزاع، الرجل مريض، وأنا طبعا أسامحه في كل ما يقول لمرضه، ولكني سأحملك تبعة كل ما يحصل من وجود رجل مختل الشعور في مدرسة بنات، وأنتظرك، فإذا لم تنقله في بحر أسبوع كان علي أن ألجأ إلى من هو أكبر منك.
عجب العظيم من خطابي هذا، وأشفعته بخطاب آخر، وكان للرجل في كل يوم حادثة أو حادثتان؛ مررت على باب فصله يوما، فترك الفصل، وخرج في إثري، وقال: إنه لا يقبل أن يكون في مدرسة لا أمانة فيها، قلت: وما هي الخيانة التي تبينتها حضرتكم؟ قال: عدم محافظتكم على مواعيد الحصص بالضبط، فقد انتهى وقت الدرس، ولم يدق الجرس. قلت: إذا شئت فاترك الفصل. قال: لا ... لا أقبل ذلك، ويجب أن يدق الجرس الآن. فتركته، وسرت في طريقي، وفي اليوم التالي دخل مكتبي ثائرا متهيجا يقول: إنكم مثال الخيانة في تلك المدرسة، قلت: ولم ذلك يا سيدي؟ فألقى أمامي بكتاب مطالعة كان لبنت تركت المدرسة بعد أن كتبت اسمها عليه، وقد أعطاه له الكاتب بدلا من أن يصرف له كتابا جديدا، وقال: هذا الكتاب لا تملك المدرسة حق استعماله، واسم صاحبه مكتوب عليه. قلت: لقد تركت تلك الطالبة المدرسة، وتركت الكتاب، ولم تسأل عنه، ولما كانت إدارة المدرسة لا تعرف الخيانة، فهي تستعمله في صالح التعليم. قال: إن هذا العمل خيانة في نظري. قلت: وماذا تريد؟ قال: أريد أن يرسل هذا الكتاب لصاحبته. قلت: لا نعرف عنوانها. قال: يجب أن تبحثوا عنه. فرأيت أن مناقشته ضياع لوقتي، فأظهرت شيئا من الغضب، وقلت: اترك هذا الكتاب، ولا تدخل مكتبي مرة أخرى. قال: أغضبت حضرتك؟ وظهر عليه شيء من التعقل، وهكذا السكران أو المجنون إذا رأى شدة معقولة ارتدع، فقلت له: والله لقد ضايقني حضرتك وحضرة الوزارة، وكل تلك التصرفات، ورجائي أن لا تدخل مكتبي مرة أخرى. قال: سمعا وطاعة.
Página desconocida