غرس سهرت الليل في تقويمه
حتى نما فله أبش وأغضب
جاهدت لا أبغي الثراء وإنما
فخر البلاد وعزها ما أطلب
وقرأ سعادة المدير القصيدة وأخذها معه، ولقد عبرت فيها عن مخاوفي؛ لأني لم أكن أخشى شيئا إلا هدم مدرسة معلمات المنصورة التي بذلت فيها مجهودا جبارا؛ فكانت في امتحان الكفاءة أولى مدارس المعلمات في القطر مع حداثتها على أن تنبئ عما كان في الواقع صحيحا؛ فإن المدير خشي إن هو أضرني أنا شخصيا أن يبطش به مستشار المعارف، فقر قراره على أن يلغي مدرسة المعلمات، وقد كانت ميزانية مدرسة المعلمات هي التي كان يصرف منها على المدرسة الابتدائية، وكان قانون مجالس المديريات يقضي بأن تصرف ثلاثة أرباع مالها على التعليم الأولي، والربع الباقي على الابتدائي والثانوي والصناعي؛ لهذا كانت ميزانية مدرسة المعلمات كبيرة تكفيها كما تكفي المدرسة الابتدائية التي كانت تقيم معها في منزل واحد، فإذا ألغيت مدرسة المعلمات عجزت المدرسة الابتدائية عن القيام بنفقاتها، ولن يستطيع المجلس أن يصرف لي مرتبي من ميزانية المدرسة الابتدائية، وقد كان 26 جنيها شهريا؛ لهذا رأى المدير أن يلغي أعضاء المجلس مدرسة المعلمات ليضعني أنا والمستشار أمام الأمر الواقع، وعذره لدى المستشار واضح جلي؛ لأن أعضاء المجلس هم الذين سيلغون المدرسة بما لهم من الحول والصول، وليس للمدير يد فيما سيفعلون.
وهكذا أخذ المدير يدبر الأمر خفية، أما أنا فقد كنت على يقين مما سيفعله لا لأني أعلم بشيء من الحقيقة، ولكني كنت أستنتج ما يدور بخلده من الممكنات؛ لأني كنت أعلم تمام العلم أنه لا بد من أن ينتقم مني، ولا سبيل إلى ذلك الانتقام إلا بتلك الحيلة، فأخذت أستطلع الأخبار، وأتحدث إلى بعض أعضاء المجلس في فكرة إلغاء مدرسة المعلمات، فكان يقول بعضهم بدهشة واستغراب: ومن أخبرك بهذا؟! وقد علمت من تلك الأسئلة أن إلغاء المدرسة أمر لا مفر منه، وأنهم يعدون له العدة في الخفاء، وفي إحدى الليالي حلمت أن النار شبت في إحدى غرف مدرسة المعلمات، فعرفت أن النكبة قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى، فذهبت إلى مستشار المعارف، وأخبرته بما تم عليه عزم المدير من إلغاء مدرسة المعلمات إكراما لي، فاستبعد الرجل الأمر، وقال إنه محال أن يضرب التعليم تلك الضربة لينتقم مني، وإني إنما أتخيل ما لا يمكن حصوله، قلت: هب أن خيالي تحقق فماذا يكون موقفك بعد أن يلغي المجلس مدرسة المعلمات بإجماع الآراء؟ قال : سألغي القرار يوم صدوره.
فذهبت إلى مدير التعليم، وسألته عن إلغاء مدرسة المعلمات، فقال: أساحرة أنت تعلمين بسحرك الغيب؟ قلت: نعم، ولكن سحري لا يمكنني من معرفة اليوم الذي ستطير فيه مدرسة المعلمات. قال: قد لا تنتظرين كثيرا، وما دام خيالك خصبا إلى هذا الحد، فلم لا تتخيلين أنها تلغى غدا؟! وعرفت عن مزاحه هذا أن المدرسة ستلغى قريبا، وأنه يريد إخفاء حقيقة ما قال بشيء من المزاح، قلت: ومتى يعقد مجلس المديرية؟ قال: إنه سيعقد يوم كذا في الأسبوع المقبل، فتأكدت أن المدرسة ستلغى في ذلك اليوم.
وفي يوم انعقاد المجلس خاطبت مدير التعليم تليفونيا قبل دخوله الجلسة، وسألته عما سيتم في تلك الجلسة بشأن مدرسة المعلمات قال: لك أن تتخيلي ما تشائين، أما أنا فليس عندي ما أقوله. قلت: حسنا إنك لا تريد أن تتكلم إلا بعد أن أكون أنا أمام الأمر الواقع. قال: لا شأن لي بخيالك وتنبؤاتك. وما كاد يخرج من الجلسة حتى اتصلت به تليفونيا، وسألته عما تم بشأن مدرسة المعلمات، فقال بصوت الظافر: لقد ألغيت بإجماع الآراء. فاتصلت في الحال بمستشار المعارف تليفونيا، وأخبرته الخبر، واستنجزت وعده، قال: إن هذا كلام فارغ لا أصدقه. قلت: ما عليك إلا أن تتصل بمدير التعليم, فاتصل به في الحال، وعرف حقيقة الخبر، وما كاد يعرفها حتى أرغى وأزبد، وقال لمدير التعليم: إنها سخافة يجب أن يدفع ثمنها مجلس المديرية، ولم يمض نصف ساعة حتى اتصل مستشار الداخلية الإنجليزي بالمدير نفسه، وطلب منه أن يرسل قرار إلغاء مدرسة المعلمات مع مخصوص إلى الداخلية، وأرسل القرار في الحال، ثم عاد إلى المجلس في اليوم التالي وعليه إشارة وزير الداخلية بإلغاء ذلك القرار.
وهكذا ألغيت مدرسة المعلمات بإجماع الآراء، ثم عادت إلى الوجود في اليوم التالي، ومن طرائف التاريخ أن الذي اقترح إلغاءها ليرضي المدير الحالي هو نفس العضو الذي كان يقترح إصلاحها في مدة المغفور له محمد باشا شكري، وكان ذلك ليرضيه أيضا، فأنشئت مدرسة المعلمات بناء على اقتراح ذلك العضو، وموافقة أعضاء المجلس بإجماع الآراء؛ فلما تغير المدير ألغيت باقتراح ذلك العضو أيضا وموافقة جميع الأعضاء بإجماع الآراء، وهم هم أنفسهم أصحاب القرار الأول وأصحاب القرار الأخير، ولله في خلقه شئون!
رضاء بعد الغضب
Página desconocida