على أنه استطرد بعد ذلك فقال: إني إلى الآن لا أعرف ما الذي أغضبك من كلمة بريئة كهذه؟ قلت: لم أغضب من الكلمة بالذات، ولكن ساءني أنكم أي الرجال لا تعرفون كيف تخاطبون النساء، ولا بدع في ذلك فإنكم لم تخاطبوا قبل اليوم إلا نساءكم، وعلي إذن أن أعلمكم مخاطبة النساء أثناء العمل، فإنها يجب أن تتصرف كلها إلى ذلك العمل، وأن لا تخرج عن مواضعه وإلا كانت عرضة لسوء الظن.
خرج الرجل من عندي، وهو في غاية الخجل، وفي اليوم التالي زارتني امرأته، فأكدت لي أن زوجها رجل شريف لا يعرف مداعبة النساء ، وأني قد أسأت الظن فيه بلا مبرر، وكان الرجل قد خشي أن أشكوه، فأرسل من يشفع له عندي، فقلت لها: لم أتهمه بشيء من هذا يا سيدتي، ولم يكن أمامه امرأة حتى أظن أنه داعبها، المسألة مسألة أن هؤلاء الرجال لا يعرفون بعد معاملة النساء، وقد أردت أن أرشده إلى كيفية تلك المعاملة، أما أنا فلا أخشى على نفسي من رجل، وليس في منظري ما يدعو إلى ريبة، واطمأنت المرأة على زوجها، وعلمت أني لن أشكوه إلى سعادة المدير فقبلتني بالإكراه وشكرتني، وانصرفت.
كنت كما قدمت أريد أن أفهم الرجال ثقافة المرأة الجديدة وكمالها مع تلك الثقافة؛ فكنت أتحدث إليهم طويلا في المواضيع العلمية، عسى أن أستميلهم إلى إرسال بناتهم إلى المدرسة، وتصادف أن زارني فاضل من فضلاء هؤلاء الرجال، فأعجب بحديثي أيما إعجاب، وذهب يرويه لزوجته، ويمتدحني أمامها، وسارت الغيرة في نفس الزوجة المسكينة، وظنت أن زوجها قابل فتاة لعوبا لعبت برشده، فأرادت أن ترى تلك الفتاة بنفسها، ولم يغمض لها جفن تلك الليلة، وفي الصباح زارتني مع صديقة لها يظهر عليها الذكاء والفطنة، فلما رأت لبسي، وما يبدو عليه من حشمة واستقامة، سرت بذلك سرورا عظيما، وعلمت أن زوجها إنما أعجب بالحديث لا بالغرام، ثم أظهرت شدة اغتباطها لملاقاتي، وقالت إنها هي الأخرى قد أحبتني، وإنها ترى في خير مثال للفتاة المتعلمة، ومالت على زميلتها فهمست في أذني قائلة: لقد أسهرتها الغيرة ليلة أمس فلم تنم، وستنام الليلة ملء جفنيها.
وكان آباء التلميذات في ذلك الوقت يزورون المدرسة كثيرا لرؤية تلك الناظرة الجديدة التي خالفت مبدأ الناظرات، فأخذت تقابل بنفسها الرجال، ومن من الناس لا يحب أن يرى فتاة نالت البكالوريا في زمن لم تنل فيه معظم النساء شهادات البتة؟ كنت إذن حديث القوم في سمرهم، خصوصا وأن من سبقني من الناظرات كن كلهن أجنبيات، ولم تر الفيوم قبل ذلك العهد ناظرة مصرية غيري، فلا بدع إذن أن أصبحت أعجوبة، وكان بجوار المدرسة مدرسة للراهبات كانت آهلة بالفتيات لشدة إقبال الأهالي على الأجانب كما هي عادتنا ولا فخر. ولم يمض علي في تلك المدرسة أربعة شهور حتى كادت مدرسة الراهبات تغلق أبوابها لكثرة إقبال الأهالي على مدرستي، ولا عجب فقد كنت فاكهة جديدة، أما الآن وقد كثر عدد المتعلمات، وأصبحت نبوية موسى كغيرها من المصريين لا تستطيع أن تؤثر في أفكار المصريين، أو تحملهم على احترام الأعمال المصرية والإعجاب بها.
ورحمة الله على الماضي.
المعلمة الإنجليزية
أردت إصلاح المدرسة المحمدية بالفيوم إصلاحا عمليا صحيحا؛ لأني وجدتها في حاجة شديدة إلى ذلك الإصلاح، ومما يضحك أني يوم توليت إدارتها، ومررت على الفصول، وجدت شيخا من إخواننا سادة دار العلوم يدرس التدبير المنزلي، وقد وقع في «حيص بيص» كما يقال في كيف يكسر البيض الذي لم يعتد الرجل تكسيره، ولم تعتد التلميذات أيضا ذلك، فكن يعجزن عن أن يكسرن بيضة دون أن يتلفن صفارها.
اضطررت هنا أن أعالج الحالة، وأن أكسر البيض للتلميذات لأعلمهن كيفية كسرها، وأن أقضي على تلك الفوضى بإخراج ذلك المعلم من تدريس التدبير المنزلي، وإعطائه دروسا في اللغة العربية بدل ذلك. وأعطيت دروس التدبير المنزلي لمعلمة لأنها أليق به مهما كان جهلها بتلك المادة، ولو في ظاهر الحالة، وساء المعلم ذلك؛ لأنه كان يتمتع، ولو بتذوق الأطعمة، وكان هذا القرار قد حرمه من ذلك التمتع، ساءه ذلك، ولكني لم أصطدم به، ولم يصطدم بي لأني أخذت أحسن معاملته وأتجنبه.
انتهيت من ذلك الإصلاح، وفكرت في تعليم اللغة الإنجليزية، وكانت تقوم بتدريسها معلمة سورية لا تكاد تعرف منها إلا بضع كلمات، وأردت أن أبحث عن معلمة أخرى من السوريات تستطيع أن تفهم اللغة التي تدرسها، فأعلنت في الصحف، ووصلني رسائل شتى من سوريات مختلفات، ولم تكتب لي إحداهن من سوء الحظ باللغة الإنجليزية، بل كانت جميعهن يكتبن باللغة العربية إذا صح أن يقال إن لغتهن تلك كانت عربية، رأيت إذن أن أقابل هؤلاء المعلمات قبل أن أختار من بينهن واحدة خشية أن تكون كالمعلمة التي بالمدرسة لا تستطيع التفاهم بتلك اللغة التي تدرسها، فزرت أغلبهن في منازلهن، وعلمت أنهن لا يفضلن معلمتي في شيء، ويظهر لي أن كل سورية في ذلك الوقت كانت تدعي العلم بأية لغة ما دامت تعرف ألف باء تلك اللغة، ومما أذكره أني زرت إحداهن، وسألتها هل تعرف اللغة الإنجليزية جيدا؟ قالت: أعرف سبع لغات. قلت: أسأل فقط عن اللغة الإنجليزية. قالت: أعرفها تماما. ورأيت أن أختبرها فأخذت أتحدث معها بالإنجليزية، وأخذت تجيبني بنعم أشكرك، وضايقتني تلك الإجابة؛ لأني لم أفهم منها إذا كانت واثقة تفهم ما تقول أم هي تحفظ هاتين الكلمتين فتنطق بهما عندما أخاطبها دون أي فهم.
وأردت أن أختبر ذلك بنفسي، فقلت لها: إن كل شيء بالمدرسة جميل إلا أني أنا شخصيا اعتدت أن أضرب المعلمات أمام الصفوف بعصاتي، وكنت أظن أنها ستدهش لهذا الكلام إذا هي فهمته، ولكنها وهي لا تفهم شيئا في اللغة الإنجليزية التي تريد تدريسها لم تظهر أية دهشة لهذا الخبر المضحك، بل أجابتني، نعم أشكرك. لقد صدق ظني إذن في أنها لا تفهم شيئا، وهنا قلت لها: وأنا أيضا أشكرك، وتركت المكان.
Página desconocida