عرفت الإنجليزيات أني أدافع عن عادات بلادي، ولا أرمي أهلها بسوء، فأقلعن عن تجريح المصريين أمامي، ووافقنني على رأيي من أن كل الشعوب لا تخلو من أخيار، كما لا تخلو من أشرار، وأن الله لم يخلق أمة من ملائكة، وأخرى من شياطين، وفي ذلك تقرير لحقيقة أومن بها كل الإيمان.
أقامت المعلمات الإنجليزيات حفلة شاي دعت إليها بعض المصريات، وكنت بالطبع من بين هؤلاء المصريات، وأخذنا نتحدث أثناء تناول الشاي في مختلف الشئون، وفجأة عرضت إحدى المصريات إلى ذكر بعض المومسات، وسألت إنجليزية عن مرادف كلمة مومس باللغة الإنجليزية، فدهشت الإنجليزية لذلك، وقالت: إن تلك المرأة غير موجودة في إنجلترا، وما دام المسمى لا وجود له، فليس له بالطبع اسم في قواميس اللغة. ودهشت المصريات لذلك وأخذن يسألن أسئلة مختلفة عن الحالة في إنجلترا، وانبرت إنجليزية غيورة على بلادها تصف لهن إنجلترا بأنها بلاد الخير والعلم، ولا أثر للشر فيها، واندفعت في ذلك اندفاعا نسيت معه الحقيقة، فأخذت تزعم أنه ليس في إنجلترا كذوب ولا غشاش ولا لص ولا محتال، وأخذت المصريات تقول إن مصر ليس فيها من يصدق أو من يفي بوعده، وإن كل المصريين خونة لا أثر للفضيلة فيهم، وساءتني تلك الدعاية الكاذبة التي تقوم بها زميلاتي ضد بلادهن، ولكني سكت إلى أن هدأت العاصفة، ثم التفت إلى تلك الإنجليزية المتحمسة، وسألتها ببساطة: هل في إنجلترا محاكم وسجون؟ فدهشت وقالت: إنه لسؤال عجيب! ويظهر أنها ظنت في الغباء، فقلت لها: لا عجب يا سيدتي من سؤالي هذا، فإني لم أتشرف بزيارة إنجلترا. قالت: لا بأس، وأخذت تصف لي سجون لندن واتساعها، وتنسيق غرفها، وهنا أظهرت الدهشة، وقلت في شيء من السخرية: وهل بنيت هذه السجون يا سيدتي لتكون مأوى المصريين عند ذهابهم لتمضية الصيف في إنجلترا، ما دام ليس في الإنجليز كذاب، ولا غشاش، ولا قاتل، ولا شرير؟!
ارتج على السيدة الإنجليزية فلم تحر جوابا، وكانت غريبة لا تعرفني، أما المعلمات الإنجليزيات اللائي خبرنني وعرفن حواري، فقد نظرت كل منهن إلى فنجان الشاي الذي تشربه، واشتغلت به عن الرد علي، وقوى ذلك من عزيمتي، فقلت للسيدة التي كانت تناقشني: لا شك يا سيدتي أن هذه السجون مملوءة بالإنجليز أنفسهم، وهنا لا يخرج كلامك عن أحد أمرين؛ فإما أن يكون كلامك لا صحة فيه ولا حقيقة له، وإما أن تكوني صادقة ، وليس في إنجلترا لا لص ولا شرير، وهنا تكون النكبة الكبرى؛ لأن قضاة الإنجليز يكونون بسجنهم هؤلاء الناس الأبرياء ظالمين، ومصر إذا كان فيها من الدهماء اللص أو الكذوب، فإن قضاتها قد اشتهروا بالعدل والنزاهة، فلا ظلم في قضاء مصر، ولا إحراج، أفلا ترين بعد هذا أن مصر أفضل من إنجلترا؟
فسكتت، ولم تستطع الإجابة، وتشاغل عني باقي الإنجليزيات، ثم التفت إلى المصريات، وقلت لهن: لقد علمتن من ذلك النقاش أن تلك السيدة الإنجليزية كانت تكذب لصالح بلادها، وهي تشكر على ذلك، أما أنتن فيسوءني جدا أن أقول إنكن كذبتن كذبا واضحا في ادعائكن أن مصر ليس فيها وفي أو صادق، وليتكن اقترفتن جريمة الكذب هذه لصالحكن، أو لصالح بلادكن، بل لسوء حظ مصر أنكن تقترفن جريمة الكذب للدعاية ضد بلادكن، تلك البلاد المسكينة التي أنجبت نارا تحترق بها، على أنكن في ذلك الادعاء قد أسأتن إلى أنفسكن؛ لأنكن وأنتن تعترفن صراحة، وأمام زميلاتنا الإنجليزيات أنه ليس في مصر صادق ولا أمين، قد سجلتن على أنفسكن وصمة عار الكذب والخيانة؛ لأنكن لسوء الحظ مصريات ينطبق عليكن ما ينطبق على جميع المصريين.
الحرية وهل لها مسمى؟
كنت شغوفة بلفظ الحرية، وكنت أحسب أن لها مسمى حتى علمني الدهر أن الحرية والعدل اسمان وهميان لا حقيقة لهما، دفعني حبي لتلك الحرية الموهومة أن أطلب الخروج من خدمة الحكومة لأكون ناظرة للمدرسة المحمدية في الفيوم التي أنشأها مجلس المديرية في ذلك الوقت، وكنت أعتقد كل الاعتقاد أن العمل في تلك المدرسة عمل حر لا تدخل لأحد فيه.
وكان أن ذكر المغفور له سعد باشا اسمي أمام حضرة صاحب الرفعة محمد باشا محمود، وروى له رواية المقالة، وكيف اختارني محمد باشا سعيد معلمة لبناته.
كان محمد باشا محمود في ذلك الوقت قد أنشأ المدرسة المحمدية في الفيوم، وعين لها ناظرة إنجليزية، ولكنه اختلف معها فتركت المدرسة لخلاف اعتبرت فيه أن المصريين لا يفهمون النظافة؛ لأنها طلبت من مجلس المديرية أن يرصف فناء المدرسة بالأسفلت على اتساعه، فلم يجد المجلس في ماليته ما يقوم بذلك، وتضايقت الناظرة لعدم تنفيذ هذا المشروع؛ لأن الفناء كان أثناء المطر يملأ بالوحول، فتحمله أرجل الطالبات إلى فصول الدراسة، فلما رفض المجلس طلبها تركته، وأخذ المدير؛ أي محمد باشا محمود يبحث عن ناظرة أخرى، وما كاد يسمع باسمي حتى أخذ عنواني من وزارة المعارف، وكتب إلي لأقابله في منزله بشارع الفلكي، وهناك اتفقنا على أن أذهب معه إلى الفيوم لكتابة عقد التوظف مع المجلس ذاته.
وراقني طلبه هذا، وسررت له كل السرور؛ لأني شعرت أني سأنال الحرية المرغوبة بعيدا عن الحكومة، وقد فاتني في ذلك الوقت أن أعرف أن مجالس المديريات هي أيضا جزء من الحكومة، وفي اليوم التالي سافرت معه في قطار واحد، وكنا في عطلة الصيف، وما كاد القطار يصل إلى الفيوم، وينزل منه حضرة المدير؛ أي رفعة محمد باشا محمود حتى أخذ العساكر يدفعون الناس ليفسحوا له الطريق، وكانت ضجة، وكان زحام اصطدم فيه كل الناس حتى أنا التي حضرت مع سعادة المدير نفسه.
هالني ذلك السلطان العظيم للمدير، الشيء الذي لم أعهده في عاصمة البلاد القاهرة، فمحافظها يسير دون ضجة ولا جلبة، أما المدير في المديريات فكأنه ملك، وذكرتني تلك الحادثة بحكاية رويت لي عن فلاحة رأت زحاما على محطة السكة الحديد في بلدها، فسألت: علام ذلك الزحام؟ فقيل لها إنه الخديوي يشرف البلد قالت: «يا سلام والزيطة دي كلها علشان الخديوي، والله أنا باحسبه المدير.» وهكذا عرفت في ذلك اليوم من هو ذلك المدير العظيم.
Página desconocida