فتلك العلل النحوية لم تكن تستقيم مع المنطق حتى يتعلم منها التلميذ حسن التعليل، ولم تكن تفيده كثيرا في الكتابة، وكان يكفي أن يشرح المعلم الأسماء الناقصة، ثم يقول للتلاميذ في بساطة إن ياءها تحذف في حالتي الرفع والجر، وتبقى في حالة النصب، ولا داعي إلى ذلك الخطأ المنطقي المرذول في تعليل ما ليس له تعليل.
ومن تلك العلل قولهم: نظرت إلى كتابي، كتاب مجرور بإلى وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة. سلسلة من أخطاء منطقية لا يفهمها - والحمد لله - إلا أولئك الشيوخ؛ فحركة المناسبة التي يقولون إنها منعت ظهور الحركة الأصلية هي الكسرة، وهي ليست حركة مناسبة في الواقع؛ فكثيرا ما تسبق الياء بحرف مفتوح كهيئة؛ فلا معنى إذن لحركة المناسبة هذه؛ أي مناسبة الياء على أننا نقول كتابي محمد بفتح الباء، ونترك المناسبة، وأمرها لله.
هذا الخطأ الأول، أما الخطأ الثاني فكيف بربك تنوب الكسرة عن الكسرة؛ لأن حركة هذا الاسم هي الكسرة إذ هو مجرور بإلى، وحركة المناسبة هي الكسرة، فهل يستطيع إنسان يعقل أن يقول إن الكسرة تمنع الكسرة عن الظهور لتظهر هي؟!
ومن هذا نعلم أن قولهم منع من ظهورها - أي الكسرة - اشتغال المحل بحركة المناسبة غير معقول بالمرة، وما قال أحد إن إنسانا يشتغل بالصلاة عن الصلاة، فكيف اشتغل ذلك المحل بالكسرة عن الكسرة؟!
إنهم لو أصابوا لقالوا إن ياء المتكلم المضافة إلى الأسماء تسبق دائما بالكسر، هكذا نطقت العرب تلك اللغة، ولا معنى لإيراد علل غير منطقية.
كذلك شرحت في ذلك التقرير قولهم نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فتحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها بحسب الآن فقلبت ألفا كاستطال، وتعجبت في تقريري هذا كيف تكون الحركة الواحدة على الواو حركتين تتحرك بها الواو بحسب الأصل، كما يتحرك الساكن قبلها بحسب الآن، وهل إذا كان مع الإنسان ألف جنيه وسرقها لص يجوز له أن يشتري منزلا بحسب الأصل كما يشتري اللص بها منزلا بحسب الآن؟ أليس ذلك هو السخف كله؟!
هكذا انتقدت طرق مدرسي اللغة العربية، وطلبت أن يعنى المدرسون بالمعاني والأساليب، واستعمال الكلمات في مواضعها بدلا من صرف الوقت في شرح تلك العلل السخيفة، وكان ناظر المعارف في ذلك الوقت المغفور له سعد باشا زغلول، وما كاد يطلع على التقرير حتى سر به سرورا عظيما، وطبعه ووزعه على مدارس البنات، ومعه خطاب دوري يقول فيه:
جاء هذا التقرير من السيدة نبوية موسى - وقد كنا في ذلك الوقت لا نقول آنسة - فنرسله إليكم رجاء اتباعه في مدرستكم.
وزع هذا التقرير على جميع مدارس البنات، ومن ضمنها مدرسة عباس التي كنت موظفة بها، وقد دهشت الناظرة، وجن جنونها عند اطلاعها عليه، فأحضرتني وقالت: ما هذا؟! لقد كان هؤلاء يدرسون قبل أن تولدي أنت، فكيف تصححين لهم طرقهم؟ قلت: لا غرابة في ذلك يا سيدتي؛ فقد درست أنا بهذه المدرسة في العام الماضي، وكانت نتائجي في التدريس محمودة، وكنت أنت راضية عني، وها هو رضاؤك في هذا العام قد انقلب سخطا؛ أي إنني لما درست عاما جهلت ما كنت أدرسه في العام الأول، فلم أستطع إرضاءك بقدر ما أرضيتك في أول تدريسي، إذا قست ذلك علمت أنهم الآن لا يعرفون شيئا ما دام الإنسان في عام واحد ينقص كل هذا النقص؛ أي يرجع إلى الوراء، فما بالك بهم وقد درسوا ما يزيد عن عشرين عاما؟! قالت: هكذا أنت لا تصلحين إلا في الفلسفة.
اضطرت الناظرة أن تؤجل الحرب التي بيني وبينها مؤقتا، وتتظاهر بالرضاء عني، ولكنها كانت تسر لي ضد ما كانت تظهر.
Página desconocida