وهكذا كنت أقضي إجازة الصيف لا أعرف للراحة طعما، وكلما انتهيت من منزل بدأت في بناء غيره، وعمل ماشية له كالجاموس والبقر والحمير والخيول والجمال، وكنت أعنى بتمثيلها تمثيلا يقرب من الحقيقة على قدر طاقتي، وكان يعجب بها كثيرون ممن يرونها لقربها من الحقيقة؛ حتى إن الأفران التي كنا نبنيها كانت تحمى، ويظهر في جوفها اللهب كالأفران الحقيقية تماما، وكنت أخبز فيها الخبز الصغير الذي كنت أصنعه أحيانا، ولم أكن مع صغر سني أبرح ذلك المنزل لاشتغالي بتلك الأعمال، ومراقبة مرءوسي من أطفال القرية، ومن المدهش العجيب أني كنت آمر هؤلاء الأطفال فيطيعون، وأنهاهم فيستمعون، وكنا نقضي اليوم في عمل متواصل كأننا نقوم باكتساب قوتنا، وكأني رئيستهم الفعلية.
كنت آمر هؤلاء الأطفال فيطيعون.
وكنت إذا انتهيت من ذلك، وتعب الأطفال الذين يعملون معي ابتدأت أخيط ملابس عروستي، وأعمل للجمال والخيول سروجا من القماش المزين البديع، وهكذا كنت أقضي إجازة الصيف، حتى إذا انتهت تركت ما عنيت بعمله من المنازل والتماثيل، وانتقلت بعروستي وقطتي الصغيرة إلى القاهرة، وكنت مشهورة بحب القطط والعناية بها؛ حتى إني كنت أكسوها ملابس مزخرفة بشتى الزخرف، وكنت أقوم أنا بخياطتها وزخرفتها، وكانت تلك القطط والعروسة هي عملي الوحيد في القاهرة، ولم يكن معي من الأطفال من يساعدني على ما أقوم به من الأعمال إلا خادمة صغيرة في مثل سني، كنت أختلسها اختلاسا من والدتي، وكنت أميل إلى مجالسة شقيقي عند حضوره من المدرسة، وكان يكبرني بنحو 10 سنوات؛ فكنت أستمع لما يقرؤه من القصص، وأجتهد في فهمها، وكثيرا ما كنت أحفظ ما يحفظه هو من المحفوظات، أما أثناء النهار فكنت أقضيه كما قدمت في خياطة ملابس القطط والعروسة، ثم تدرجت من ذلك إلى خياطة ملابسي على آلة الخياطة.
كيف تذوقت الأدب العربي قبل أن أعرف
القراءة والكتابة؟!
كنت في سن السادسة لما كان شقيقي في سن السادسة عشرة، وكان طالبا في المدارس الثانوية، وقد ألف مجالستي، فكان يقرأ لي في كتب الأدب القديمة كالأغاني وغيره، وكنت أصغي إليه باهتمام حتى تعودت فهمها، وكان إذا حاول حفظ قصيدة كلفته المدرسة حفظها، حفظتها معه، ولا يخفى أن موهبة الحفظ قوية عند صغار الأطفال؛ فهم لا يجدون فيها صعوبة؛ ولهذا كنت كثيرا ما أحفظ القصيدة بمجرد استماعي له وهو يقرؤها قبل أن يحفظها هو، وكان يسره ذلك فيسمعها لي، ويطلب مني أن أسمعها له، وهكذا تمت بيننا الصداقة والألفة، واستطعت أنا أن أتذوق الأدب العربي قبل أن أعرف الألف من الباء.
وكنت أصغي إليه باهتمام.
كيف تعلمت القراءة؟
انتهى شقيقي من دراسته الثانوية، ودخل المدرسة الحربية الداخلية، فبعد عني، وعز علي الأمر، وشعرت بالوحدة بعده، وتشوقت للقراءة حتى إذا عاد يوم الخميس من مدرسته توسلت إليه أن يعلمني مبادئ القراءة ففعل، ولم أكد أتعلم الحروف الهجائية وحركاتها حتى بدأت أعالج القراءة بنفسي، وكنت قد حفظت مع شقيقي بعض قصائد من كتاب «مجاني الأدب»، فلما عاد أخي أحد أيام الخميس رجوته أن يدلني على مكان إحدى تلك القصائد من كتاب «مجاني الأدب»، ثم أخذت أقرؤها في بحر ذلك الأسبوع، حتى إذا عاد في الأسبوع التالي أطلعته على مبلغ قراءتي لتلك القصيدة، ولما كنت قد حفظتها عن ظهر قلب قبل أن أقرأها فقد كنت أتعلم منها القراءة، وهكذا قضيت تلك السنة الدراسية في قراءة القصائد التي سبق أن حفظتها، وكنت أعتقد أني لا أستطيع أن أقرأ غيرها.
وحدث في ذات يوم أني ذهبت لزيارة إحدى قريباتي فوجدت في منزلها كتابا صغيرا كتب عليه «قصة حسن الصائغ البصري»، وكم كان سروري عظيما عندما استطعت قراءة ذلك العنوان، وقد اكتشفت في تلك اللحظة أني أستطيع أن أقرأ الكلمات التي لم تشكل والتي لم أحفظها من قبل، فسررت بذلك وطلبت من قريبتي أن تعيرني ذلك الكتاب فلم تمانع، وكانت قراءة ذلك الكتاب عملي مدة الأسبوع، حتى إذا عاد أخي من مدرسته أطلعته على ما استطعت قراءته، وأخذت من ذلك اليوم أقرأ كثيرا من الكتب والروايات؛ فقرأت كتاب ألف ليلة وليلة جميعه، وقصة عنترة بن شداد بأكملها، كما قرأت كثيرا من الروايات الأخرى، لا أطلب من ذلك سوى التسلية، ومع هذا كنت أصل الليل بالنهار في قراءتها، ثم ملت بعد هذا إلى الكتابة محاكية ما قرأته.
Página desconocida