Historia de William el Conquistador
تاريخ وليم الظافر
Géneros
أما روبرت فاعتبر أباه ضدا له في هذه المخاصمة، وصرح علانية بأنه لم يعد في طاقته أن يصبر بعد على هذه المعاملة الجائرة، وقد آنس شيئا من ميل والدته نحوه، فذهب إليها متظلما متشكيا، وهي قاسمته الكدر وشاركته في مصابه، واجتهدت في أن تصب زيتا على أمواج غيظه المتلاطمة، أما هو فلم يقتنع بضروب هذه المجاملة، بل قضى غابر ذلك النهار ومساءه في إغراء فريق من الشبان الشرفاء الطائشين العاطلين من حلي التهذيب والآداب على شق عصا الطاعة لأبيه، واغتصابه إمارة نورماندي عنوة، فأجابوه إلى ذلك وأجمعوا سرا على إخفاء مقاصدهم وكتمانها، وعولوا تلك الليلة على مغادرة القلعة والخروج على مدينة روان العاصمة ومحاصرتها، وعليه فما انتصف الليل حتى امتطى أولئك الثائرون ظهر خيولهم وساروا، وفي الصباح أخبر الملك بذهابهم، فجند جيشا قويا وسيره وراءهم، وكان من ذلك أن أخفق مسعاهم في محاصرة روان؛ لأن جيش الملك تأثرهم ونازلهم في معركة انجلت عن أسر بعض العصاة، أما روبرت فنجا ببعض أتباعه وفر إلى مقاطعة مجاورة يطلب لنفسه ملجأ في قلعة أحد أعداء أبيه، فأفعمت هذه الحادثة فؤاد متيلدا هما وحزنا؛ إذ رأت أنه لم يبق بد من انتشاب حرب أهلية بين الأب وابنه.
وبينما كانت مقتضيات الواجب ودواعي الحكمة تفرض عليها الانحياز نحو الأب، قامت في قلبها بواعث المحبة الوالدية تتغلب على تلك المقتضيات والدواعي، وتميل بها بقوة لا تقاوم نحو ابنها، أما روبرت فأخذ يجمع إليه في ملجئه جميع أهل المطامع الطامحين الطائشين من سائر أنحاء المملكة، ويعمل على نكاية أبيه وتعكير كأس راحته، وفي غضون ذلك كانت أمه قائمة مقام المحامي في وجه أبيه، وملازمة مواصلته سرا بكل ما يجد ويحدث من الأخبار، ويبدو لها من المشورات، ويتيسر لديها من الإعانات حتى كانت ولا ريب مرتكبة في ذلك جريمة فظيعة، جريمة المؤامرة ومواصلة الأخبار مع العصاة، وقد كان لتصرفها هذا وجه من الحق، وقد نتج عنه شيء من الفائدة؛ لأنها سعت جهدها في إصلاح ذات البين بين الأب وابنه، فبهذه الواسطة خففت نوعا ثقل وطأة تلك المخاصمة.
ومعلوم أن الفوز في حرب أهلية كهذه كان نيله مضمونا للملك؛ فوليم كان مالكا متحيزا لجميع ما في المملكة من القوى من الجيوش والمدن والقلاع والأموال، أما روبرت فلم يكن لديه سوى عصابة مؤلفة من شبان متوحشين طائشين خاملين ثائرين بلا سلطة وبلا مال، وبلا أقل وجه من الحق في الثورة والعصيان، حتى إنه جعل من تلقاء نفسه يقتنع بالتدريج بعدم فائدة هذا العتو والتمرد، ومتيلدا ذاتها إذ أدركت صيرورة هذه الثورة إلى التلاشي والانحلال شرعت تجاهر بزيادة في تسديد مساعيها نحو إخمادها بالكلية، وأخيرا نجحت في حمل روبرت على ترك السلاح ودعوته إلى مقابلة أبيه رجاء استئصال مواد الخصام، وتأصيل جذوع الصلح والسلام.
على أنه ما لبث أن ظهر من خلال هذه المقابلة أن لا سبيل للحصول على مصالحة وثيقة العرى، وسلم وحيدة الأركان؛ لأنه مع انتهاك قوى كلا الأب والابن في تلك الحرب الأهلية التي بها صلى كل منهما الآخر، فمحبة الذات والمطامع الشخصية التي بنيت عليها تلك المخاصمات ظلت في كل منهما هي إياها بدون أدنى تحول، فإن روبرت جعل فاتحة حديثه تقاضي أبيه وعده له بحكومة نورماندي، أما أبوه فأجابه على ذلك موبخا إياه بصرامة على عصيانه الردي، وإنذاره بتوقع نصيب أبشالوم الذي حذا روبرت حذوه في هذا التمرد، فرد عليه روبرت بقوله: إنه لم ينو مقابلة أبيه بقصد استماع موعظة منه؛ لأنه كان قد نال كفايته من استماع العظات عندما كان صبيا يدرس قواعد اللغة، فغاية ما يريده من الآن هو الإنصاف لا الوعظ.
أما الملك فقال: إنه لا يرضى مطلقا أن يقاسم أحدا أملاكه وهو بعد حي، وزاد على ذلك قائلا بأنه وإن كان روبرت قد ذكر المواعظ بمعرض الهزء والازدراء، فالإنجيل المقدس يقول: كل بيت ينقسم على ذاته لا يثبت، ثم استطرق إلى تأنيب ابنه وتقريعه بشدة على خيانته كأحد الرعية وعلى حقوقه وعدم بره كابن وقال: إنه مما لا يحتمل أن يكون الابن أشد مقاوم وأكبر عدو لأبيه في حالة كونه مديونا له، ليس فقط في كل ما يتمتع بنواله منه، بل في أمر وجوده أيضا.
وقد لفظ وليم كل هذه التوبيخات على طريق الغيظ والغضب، ونطق بها بلسان الوعيد والتهديد، وعوضا عن أنها تؤثر في روبرت شعورا بخطئه يحدوه على التوبة والندامة ضاعفت فيه روح العناد والعصيان، ولم يأت توبيخ أبيه على حقوقه وكفره بالحقوق الوالدية بأدنى جدوى، فخرج من لدنه بغتة والغيظ حشو حشائه، والشتائم ملء فيه، وفي قلبه من نار السخائم والضغائن ما فيه، وعول مرة ثانية على مهاجرة البلاد رغما عن كل ما انتحته والدته متيلدا من الوسائل والوسائط في منعه قائلا: إنه بالأحرى يفضل أن يكون من الجالية التائهين بلا مأوى في بلاد غريبة، على بقائه في قصر أبيه معاملا بالقساوة ممن كان يتوقع الإخلاص والصداقة بداعي الحقوق والواجبات، وإذ لم تقوى والدته أن تثنيه عن عزمه هذا دعا إليه بعض الطرارين من رفقائه، وضرب بهم نحو الشمال مجتازا نورماندي يفتش على ملجأ عند خاله أمير فلندرس، فاستقبله هذا بكل إعزاز وترحاب؛ أولا: إكراما لأخته، وثانيا: نكاية بالملك وليم جاره القوي البطاش الذي كان (أمير فلندرس) يحسده على رفعة شأنه وعظمة مجده، وسعة نطاق توفيقه، وحسن طالع سعده.
وإذ كان روبرت عاجزا عن تجديد الحرب مع أبيه مجردا عن القوى والوسائط أنشأ يراسل جميع أمراء نورماندي وأشرافها الذين رأى فيهم الارتياح إلى ذلك، ويحثهم على القيام معه سرا ضد أبيه، فلبى أولئك دعوته وأنشئوا اكتتابا سريا سدا لحاجاته، على وعد أنه يعوض عليهم بالمنح والهدايا وحسن المجازاتد، بعد إذ يتمكن من نيل حقوقه المطلوبة من أبيه، ولم يغفل في الوقت ذاته عن مراسلة أمه متيلدا واستمداد بعض الاحتياجات منها، ولكن كل ذلك كان سرا أيضا بغاية التحرس والاحتياط، وقد توفق لاكتساب صداقة غير الذين مالئوه في نورماندي، فإن فيليب ملك فرنسا ذاته كان مسرورا جدا بشبوب نيران هذا الخصام في عائلة جاره الذي بعدما كان خاضعا لسلطانه أصبح بغلبته على إنكلترا مزاحمه الأكبر، ومناظره الأسبق في مضمار السؤدد والأبهة، وكان من أشهى الأمور لديه استماع ما يبعث على خسوف مجد وليم وتقلص ظل سلطانه، وينذر بانقسام قوته، وتفرق شمل كلمته؛ ولذا نشر من قبله سعاة وسفراء في جميع أنحاء نورماندي وسائر أطراف فلندرس يشجعون الثائرين، ويثبتونهم في القيام على حكومة وليم، وقد احترز غاية الاحتراز من أن يعدهم جهرا بالمساعدة، على أنه سعى سرا بألف واسطة مكتومة في تنشيط روبرت وتحريضه وحمله على توقع العون منه.
وهكذا كنت ترى الثورة يتسع خرقها ويمتد نطاقها وهي باقية محصورة ضمن حدود القوة لا تتعداها إلى الفعل، وكان السر في ذلك خلو روبرت من الوسائط الفعالة، وتعريه من القوى العقلية الضرورية في الإقدام على عمل خطير كهذا، فمرت الأيام وانقضت الشهور بدون أدنى مجاهرة في العصيان، حتى إن مشايعي روبرت في نورماندي داخلهم الخوف، واستولى عليهم اليأس، فانقطعوا عن جمع الاكتتاب، وابتدءوا شيئا فشيئا ينسون قائدهم الغائب الخامل، أما روبرت فقضى وقته بارتكاب المعاصي واجتراح المآثم، وإنفاق ما أرسله إليه أتباعه على الانبعاث في أوحال السكر، والارتطام بحمأة الفواحش، وأوشك عندما فرغت يداه من المال ونضب حوض معداته أن يهيم على وجهه مقذوفا بتيار القنوط والضيق، لو لم يدم له صديق واحد وأي صديق، صديق عطف عليه ومال إليه، وقشع ديجور اليأس عن عينيه، وذلك الصديق كان أمه نصيرته في كل ملمة.
وقد علمت متيلدا جيدا أن كل ما تصنعه لابنها الغائب ينبغي أن يصنع بمزيد الدقة والحرص، بحيث لا يتجاوز دائرة الغموض والخفاء، وذلك اقتضى له ما لا مزيد عليه من الاحتيال والدهاء، وقد ساعدها عليه تغيب زوجها، فإنه كان في هذا الوقت قد مضى إلى إنكلترا مدعوا بإلحاح شديد للنظر في بعض المسائل العمومية، وعهد نظارة الحكومة في نورماندي إلى وزير استسهلت متيلدا مراقبته، ورأت أنه لا يصعب عليها مواصلة ابنها في أيام نظارته، فأمدت روبرت في فلندرس بما لديها من المال، ثم صارت تلبيه بالمعين لها، وكلما أرسلت له بزيادة كان بمقدار ذلك يكرر الطلب، ويلح في استدعاء إعانات جديدة.
ومعلوم أن ثروة الأم سواء كثرت أم قلت لا تكفي لسد عوز ابن مسرف بطال، فلما فرغت جعبة دراهمها باعت جواهرها، ثم ملابسها الفاخرة، وأخيرا الأشياء الثمينة المختصة بها أو بزوجها، وكل ذلك بطريقة سرية جدا، فالوزير المعهودة إليه نظارة الحكومة إذ كان أمينا وساهرا على رعاية ما عهد إليه لحظ أن أمورا سرية تجري في البلاط الملوكي، وذلك استدعى ارتيابه واشتباهه، وهذان استلزما مراقبته وانتباهه، فعلق يجوس حركات متيلدا ويترصد أعمالها، وفي الحال اكتشف على الحقيقة، وأرسل يعلم وليم بذلك، أما وليم فصعب عليه تصديق ما قرره له الوزير؛ ولذا عزم في الحال أن يتخذ جميع الوسائط الكافلة له تحقيق الأمر، فرجع إلى نورماندي، وهناك اتفق له في طريقه أن يقبض على أحد رسل متيلدا بينما كان ذاهبا إلى فلندرس يحمل إلى روبرت مالا ورسائل، وكان اسمه سمبسون، فأخذ منه وليم الدراهم والرسائل وأرسله ليسجن في إحدى القلاع، وبعد إذ وقع على البينات الكافية الناطقة بجريمة متيلدا انطلق مفعما حيرة وغيظا يطلب مشاهدتها؛ لينيلها ما تستحقه من التوبيخ على فعلها هذا الأثيم الذي أقل ما فيه الغدر بزوجها وتسليمه.
Página desconocida