La Era de la Prosperidad: Historia de la Nación Árabe (Parte Quinta)
عصر الازدهار: تاريخ الأمة العربية (الجزء الخامس)
Géneros
ولما قوي عوده أخذ يدربه على القيادة والسيادة، فجعله في سنة 163ه أمير الصائفة، وعمره إذ ذاك لم يتجاوز الثامنة عشرة، فبرزت مواهبه الحربية في تلك الغزاة، ولما عاد منها منصورا فرح به أبوه فرحا عظيما وأحسن استقباله، ثم أعاد الكرة فأرسله في سنة 165ه على الصائفة ففاز وغنم، وكان فوزه في هذه المرة فوزا باهرا دل على علو كعبه في الحرب وحسن إدارته وحزم قيادته، وهكذا توالت قياداته للحملات الصائفة والشاتية في بلاد الروم طول عهد أبيه، ثم إنه رأى أن يدربه على الرياسة والإدارة فسماه أميرا على المغرب كله من الأنبار إلى أطراف إفريقية، ولما لمع نجمه في قياداته وإداراته رأى أبوه أن ينقل ولاية العهد من أخيه الهادي إليه، ولكن موت المهدي حال دون تنفيذ تلك الفكرة.
بويع الرشيد بعد موت أخيه الهادي في 14 ربيع الأول سنة 170ه وعمره خمس وعشرون سنة، وكان طبيعيا جدا أن يعهد بأمور الدولة إلى صديقه القديم الشيخ العاقل الداهية الذي لعب دورا خطيرا في إيصاله إلى الحكم، ألا وهو يحيى بن خالد بن برمك، فاستوزره وكان قبل ذلك كاتبه وصاحب سره، فقام يحيى بمواهبه الواسعة ودهائه وذكائه بالأمر خير قيام.
يقول ابن طباطبا في «التاريخ الفخري» (ص173): «لما جلس الرشيد على سرير المملكة استوزر يحيى بن خالد، وكان كاتبه ووزيره قبل الخلافة، فنهض بأعباء الدولة أتم النهوض، وسد الثغور وتدارك الخلل، جبى الأموال وعمر الأرض وأظهر رونق الخلافة وتصدى لمهمات المملكة، وكان كاتبا بليغا أديبا لبيبا سديدا صائب الآراء.» واستمر يحيى في توجيه الدولة وتسيير دفتها منفردا بذلك أو كالمنفرد؛ لأن الرشيد كان يحترمه ويجله ويثق به ويعرف فضله عليه، حتى إنه كان لا يناديه إلا بيا أبي؛ لأن زوجة يحيى وأم ابنه الفضل كانت أرضعت هارون بلبن ابنها الفضل، وأرضعت الخيزران الفضل بلبان ابنها هارون، لهذا وثق الرشيد بيحيى فقلده وزارته وزارة تفويض، ثم ضم إليه وزارة الخاتم بعد وفاة الفضل بن سليمان الطوسي، فاجتمعت له الوزارتان، وأعانه في العمل أبناؤه الأربعة: الفضل وجعفر ومحمد وموسى، وكانوا كلهم فضلاء عقلا فأحسنوا تصريف الأمور إلى أن نكبوا تلك النكبة التي سنتحدث عنها فيما بعد. (2) الأحوال الداخلية في عصره
كان عهد الرشيد من خير العهود، وصلت الخلافة العباسية فيه إلى درجات من الفخامة والجلال والقوة والمال والعلم لم تصل إليها دولة إسلامية أخرى، ولولا بعض الفتن والمشاكل السياسية التي مرت بعهده لكان عصرا أمثل، ويظهر أن الرشيد كان أول أمره متسامحا في إدارة شئون دولته متساهلا مع عماله واثقا بهم مطمئنا إليهم، وكان إذا وثق بشخص ولاه واطمأن إليه ولم يستمع فيه ما يقول القائلون كائنا من كانوا، وسنرى أنه حين أراد تولية علي بن عيسى أمور خراسان خالفه وزيره يحيى بن خالد في ذلك لما يعرفه من شدة الرجل وقسوته، ولكن الرشيد لم يسمع قوله على الرغم من وثوقه بسداد رأيه، ولما بلغه عن قسوة علي بن عيسى ما بلغه من زيادة الضرائب وإرهاق الناس بدفع الخراج مضاعفا لم يغير رأيه فيه، واستمر على تأييده لما يعرف عنه من الإخلاص، وقد أنتجت هذه السياسة الهارونية الصلبة بعض الفتن التي شوهت عهد الرشيد الزاهر، وإليك بيانها: (2-1) ثورات العلويين والفتك بهم
كثرت ثورات العلويين في عهد العباسيين؛ لأنهم كانوا يأملون وخصوصا في عهد الرشيد أن ينالوا ما حرموا منه قبلا، فقد لقوا عنتا كثيرا منذ عهد السفاح إلى عصر الرشيد، ويظهر أن الرشيد قد أراد في أول عهده تدارك ما فات، وإصلاح أخطاء آبائه، فرفع الحجر عن جماعة من العلويين كانوا محجوزين ببغداد، وسيرهم إلى المدينة مكرمين إلا العباس بن الحسن بن عبد الله بن عبد الله، فإنه استبقاه، وأحسن إليهم وأغدق عليهم، ولكنهم ما لبثوا أن وصلوا إلى المدينة حتى عاودتهم فكرة الثورة، وأول من خرج عليه منهم هو يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، وكان ممن نجوا في وقعة «فخ» ففر إلى بلاد الديلم وأخذ يدعو لنفسه فكثرت أتباعه، وفي سنة 179ه ثار ونادى بنفسه أميرا على تلك البلاد، فغضب الرشيد منه ووجه إليه الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي لقتاله في خمسين ألفا، ولما قرب من مقر يحيى كاتبه واستماله ورغبه في الاستسلام، وأعلمه أن الرشيد لا يريد به سوءا، فرد عليه يحيى أنه يقبل المصالحة على أن يكتب إليه الرشيد بنفسه أمانا يكون بخطه، ويشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلة بني هاشم، فلبى الرشيد طلبه، وكتب إليه العهد الذي أراد وبعث به إليه فأتاه وأحسن لقاءه.
1
وممن ثار عليه منهم: إدريس بن عبد الله بن الحسن، وكان ممن نجوا أيضا من وقعة «فخ» وهو أخو يحيى السابق، وذهب إلى مصر ثم إلى شمال إفريقية، ودخل المغرب الأقصى، ودعا لنفسه فالتف الناس حوله وبايعوه في سنة 172ه، وكان ذلك مبدأ ظهور دولة الأدارسة هناك، وقد أراد الرشيد الفتك به، ولكنه علم بقوته فلجأ إلى الحيلة ودس إليه سليمان بن جرير فسمه في سنة 177ه، ومنهم موسى بن جعفر الكاظم، فقد روى الطبري وابن الأثير أنه وشي به إليه أنه يريد الثورة، وأن الناس يحملون إليه خمس أموالهم، فخاف الرشيد من موسى الكاظم وعزم على أن يحج في ذلك العام ويحتال على الكاظم، فلما وصل المدينة استدعاه إليه وكلمه، رأى منه رجلا داهية عاقلا فخاف منه، ثم حمله معه في قبة إلى بغداد فحبسه في دار السندي بن شاهك، ثم قتل أو سم، وأظهر للملأ أنه مات حتف أنفه، وشهدت عدول بذلك وطويت صفحته ودفن في مرقده المعروف اليوم بالكاظمية في بغداد. (2-2) فتنة علي بن عيسى بن ماهان
ولى الرشيد علي بن عيسى على خراسان، على الرغم من معارضة يحيى بن خالد في ذلك؛ لما يعرفه من سوء أمر علي وفساد إدارته، ولما استقر علي في إمارته ضاق الناس بظلمه وأخذوا يشتكون إلى الخليفة، ولكن الأموال والألطاف التي كان يبعث بها إلى الخليفة كانت تجعله يغض النظر، ثم ضج الخراسانيون من عسف علي وكتبوا إلى الرشيد، فعزم على لقائه وسار إلى إيران سنة 189ه، فلقيه علي بالري فبرأ نفسه من كل ما اتهم به، ولما رجع الرشيد إلى العراق أخذ علي يفتك بالخراسانيين ويضيق عليهم، ثم جرت حوادث تأكد بها الرشيد من فساد طوية الرجل وسوء إرادته، فبعث إليه هرثمة بن أعين وأوصاه أن يتلطف في أمر القبض عليه، ولما وصل هرثمة مرو أحسن علي بن عيسى استقباله وأنزله في قصره، ولم يظهر له هرثمة شيئا أول الأمر، ثم أطلعه على كتاب من الرشيد بعزله وتوليته مكانه، فأسقط في يده وأراد الهرب، فأمسك به هرثمة وقيده هو وأولاده، وخطب في الناس وأخبرهم بعزل علي وتوليته هو أمرهم، وأن أمير المؤمنين بعث به لينصفهم، فارتفعت أصواتهم بالتهليل والشكر، وما استقر هرثمة في مرو حتى بلغت أسماعه أنباء ثورة كبيرة قامت في خراسان بقيادة رافع بن الليث بن نصر بن سيار، فخرج إليه هرثمة بنفسه في سنة 193ه، ولكن منيته أدركته بطوس فلم يستطع إتمام ما خرج من أجله، وأما علي بن عيسى وأولاده فإن هرثمة كان استصفى أموالهم وبعثهم في الأغلال إلى الرشيد، ففتك بهم شر فتكة. (2-3) فتنة رافع بن الليث بن نصر بن سيار
اختلفت أقوال المؤرخين في سبب ثورة رافع على الرغم مما عرف من أن آل رافع هم من موالي العباسيين وأنصارهم المخلصين؛ فالطبري يذكر أن السبب هو شخصي بحت ، وهو أن رافعا اتهم بالزنا فأقيم عليه الحد وثار، ويقول ابن قتيبة: إن علي بن عيسى لما ولي خراسان أساء السيرة وتحامل على من كان بها من العرب فخرج عليه رافع.
2
Página desconocida