شركة أفريقيا الجنوبية الإنكليزية (الشار ترد)
وفي سنة 1889 اتحد الدوق أبركورن، والدوق فيف صهر البرنس دي غال، واللورد جغورد، والمستر سسل جون رودس، والمستر ألفريد بيت، والمستر جورج جراي، والمستر جورج كاوستون؛ على تأسيس شركة في جنوب أفريقيا تسمى بشركة أفريقيا الجنوبية، مركز إدارتها في لندن وأشغالها تمتد ما بين البشوانالند وأملاك البرتغال جنوبا، والغرض منها نشر لواء التمدن على سكان هذه الجهات، وتوسيع نطاق التجارة ومنع تجارة الرقيق، وعقد المعاهدات مع رؤساء القبائل لضمانة راحة جميع الأجانب، وطلبوا من جلالة الملكة التصريح لهم بذلك، فصرحت لهم على شروط أهمها أن رؤساء الشركة يكونون من الإنكليز، وأن معتمد الحكومة الإنكليزية يكون صاحب الحكم فيما يقع من الخلاف بين الشركة والقبائل، وأن تضمن السلم واستتباب الأمن في الجهات التي تحل فيها، وأن تتعهد بمنع تجارة الرقيق وببيع جميع أصناف المسكرات إلى العبيد، وأن تحترم جميع الديانات والمذاهب على اختلاف أجناسها، وليس لها الحق في إعطاء أي احتكار تجاري لأحد، وأن تقدم حسابا سنويا لمعتمد إنكلترا يتضمن إيراداتها ومصروفاتها. وبعد ذلك أخذت الشركة في العمل تحت رئاسة الدوق فيف وأصدرت مليون سهم، وجعلت ثمن السهم جنيها إنكليزيا، ولما اجتمع لديها ثمن الأسهم المذكورة صارت تشتري المراكب وتنشئ البنوك المالية، وتمد السكك الحديدية، فمدت أولا خطا حديديا من مدينة الرأس إلى كمبرلي، وخطا آخر إلى مفكنج موازيا حدود الترنسفال، وعملت طريقا يسمى سيلوس وطوله 343 كيلومترا، وأنشأت مكاتب للبوستة والتلغراف، ونظمت جندا للبوليس، وألفت لجنة للنظر في الأعمال التجارية والزراعية وغير ذلك.
وفي أوائل سنة 1890 أراد البوير أن يضموا إلى أملاكهم أراضي المتابيلان الواقعة شمال بلاد الترنسفال، وأرسلوا حملة لهذا الغرض، فبينما هي سائرة وإذا بجنود الشركة قد قابلتها بقيادة الماجور ألن عند نهر تولي فأوقفتها عن المسير، وردتها من حيث أتت، ثم ذهب المستر سسل رودس وبعض من الجند، وقد ألبسهم ملابس الخدم حتى لا ينزعج منهم لوبنجولا ملك قبيلة المتابيلان، وقدم إليه ما كان يحمله من الهدايا، فقبلها منه، ثم عرفه المستر سسل أن بلاده في خطر من مهاجمة البوير، وأنهم كانوا قاصدين قتاله، لولا أنه صدهم وردهم إلى بلادهم، وعرض عليه قبول حماية جلالة الملكة، فأجاب بالقبول. ومن هذه السنة صارت المتابيلان خاضعة لسيادة إنكلترا، فأنشئوا فيها البوستة والتلغراف وأخذوا في تنظيمها، ثم بحثوا في أراضيها، فوجدوا فيها مناجم الذهب، فأرادوا أن يستنبطوه، ولكنهم خافوا من عدم رضاء الملك لوبنجولا، فقدموا له هدية أخرى وهي ألف بندقية وكمية عظيمة من الخرطوش، وسفينة تحمل مدفعا لكي يتنزه بها في نهر الزنبيز، وربطوا له مرتبا شهريا ألفين وخمسمائة فرنك، ثم سألوه أن يعقد معهم معاهدة لأجل استخراج الذهب، فأجابهم إلى ذلك. فأخذت رجال الشركة تنشئ المعامل اللازمة، وكانت على تمام الوئام والوفاق مع رجال الماتبيلان، لا يمانعهم ممانع ولا يعارضهم أحد. وفي سنة 1893 دخل شيطان الشقاق في قلوب رجال قبيلة الماتبيلان، فمنعوا الإنكليز من استخراج الذهب، وصاروا يلحون على ملكهم أن يطرهم من بلاده، وما اقتصروا على ذلك، بل مدوا أيديهم إلى البوستة ، ونهبوها مرارا عديدة، وكان الإنكليز في كل مرة يطلبون من لوبنجولا معاقبة الجانين وإيقافهم عند حدهم، فلم يجب لهم طلبا. ولما فرغت جعبة اصطبار المستر سسل قبض على المجرمين وأودعهم السجن، فطلب منه لوبنجولا أن يطلق سراحهم فأجاب: «إنني طالما طلبت منك أن تعاقبهم بنفسك فأبيت؛ ولذلك اضطررت لأن أسجنهم عقابا لهم.» فلم يرعو لوبنجولا من كلامه، بل ألح بطلبه، فأبى أن يسلمهم إليه، وخابر حكومته في أمرهم، وطلب منها التصريح له بقتال المتابيلان فصرحت بذلك.
وكان سروره لذلك لا يوصف حتى جعل مصاريف الحملة من ماله الخاص، فجهز ستمائة مقاتل تحت قيادة الدكتور جمسون وأمرهم بالهجوم على المتابيلان، فانتشب القتال بينهما، ثم انجلى عن قتل الملك لوبنجولا وتبديد رجاله أيدي سبأ، وكانت خسارة الإنكليز 245 نفسا، ما بين قتيل وجريح، وبلغت مصاريف هذه الحملة ثلاثة ملايين من الفرنكات أنفقها المستر سسل رودس وهو يكاد أن يطير فرحا لنجاح أعماله التي قدرتها حكومته حق قدرها، فسمت هذه البلاد ولاية رودسيا تذكارا حسنا لتخليد اسمه، ومن هذه السنة عظمت شهرته وصار يعد من رجال إنكلترا الأكفاء، المشهود لهم بإجادة العمل، وسداد الرأي، وعلو الهمة، ثم تعين رئيسا لوزارة حكومة الكاب.
مشروع المستر سسل رودس
ولما نجح المستر سسل في المتابيلان حدثته نفسه بعمل أعظم، وهو اتحاد الترنسفال والأورنج والناتال بمستعمرة الكاب، حتى تصير مملكة واسعة الأرجاء، تلقب بممالك أفريقيا الجنوبية المتحدة، ويتلو ذلك إنشاء سكة حديد تخترق أفريقيا من مدينة الرأس إلى مدينة الإسكندرية، فلما اطلع مواطنوه على مشروعاته هذه وغايتها، لقبوه ب «نابليون أفريقيا»، وقد ساعده على الاهتمام بها ما كان من الارتباك ما بين جمهورية أفريقيا الجنوبية وقبيلتي السوازيس والمجازوتس، وكانت إنكلترا ترغب كثيرا في دوام استقلال القبيلة الأولى، وجعلها بمعزل عن سيادة جمهورية أفريقيا الجنوبية؛ ولذلك عقدت معاهدة في سنة 1884 مع جمهورية الترنسفال تمنع فيها نفوذ هذه الجمهورية من الجهة الشمالية من نهر ليمبوبو؛ لكيلا يمس استقلالها، فما راعى البوير هذ المعاهدة وحاولوا نكثها. فأنفذت إنكلترا من قبلها السير فرنسيس دي ونتون إلى بلاد السوازيلان؛ ليقف على حقيقة الأمر، فاقترح على حكومته أن تجعلها تحت سيادتها أو تكلف شركة أفريقيا الجنوبية بملاحظتها، فرفضت إنكلترا اقتراحه، وأرسلت إلى الرئيس كروجر تحذره من إتيان أي عمل كان خارقا للمعاهدة، ثم استترت هذه المسألة بحجاب السكوت إلى سنة 1890، فعادت الجمهورية إلى السعي للاستيلاء عليها، فوقفت إنكلترا في السبيل، وقد اشتد الخلاف بينهما حتى أصبحت الحرب على قاب قوسين أو أدنى، ولكن جلالة الملكة حبا في نشر لواء السلام وحقن الدماء أرسلت السير هوفمير إلى الرئيس كروجر، فاتفق معه على حالة ترضي الطرفين.
وفي سنة 1893 عاد البوير إلى غايتهم الأولى، فلما ملت إنكلترا من هذه المسألة سمحت للجمهورية بأن تجعل بلاد السوازيس تحت سيادتها من غير أن تضمها إلى أملاكها، مع مراعاة حفظ حقوق إنكلترا فيها، وتعين لهذا الصدد مندوب إنكليزي، وعقد بذلك معاهدة في 14 فبراير سنة 1894، ثم ربطت الجمهورية ضرائب على هذه القبيلة، فما قبلت بها وقامت ضدها، وكان ملك تلك القبيلة المسمى إيليني قد رأى من أحد أعضاء مجلسه ميلا إلى البوير، فقتله، فاعترضت عليه الجمهورية، وأرسلت تطلبه للمحاكمة، فرفض إجابة الطلب، وقتل خمسة آخرين من الأعضاء الذين حثوه على إجابة طلبها، فاشتد حنق الرئيس كروجر وأصر على استحضاره بالقوة إلى بريتوريا لمحاكمته، وأرسل إليه مندوبين يأمرانه بالحضور، فأبى مقابلتهما، فأمر حينئذ الرئيس كروجر بإرسال حملة بقيادة الجنرال جوبير، وبعد قتال عظيم دخل البوير عاصمة الزولس، فهرب الملك إيليني من وجههم، واختبأ مع ثمانية من عائلته، وبعض من رجاله في الزولولند، بالقرب من بحيرة القديسة لويسة تحت حماية المندوب الإنكليزي، فجمع الجنرال جوبير 180 رجلا من كبراء القبيلة، وأمرهم أن ينتخبوا لهم ملكا بدلا عن الأول، فوقع اختيارهم على والدة إيليني، فولاها عليهم، وعاد إلى بريتوريا بعدما ترك نحو مائة جندي للمحافظة على الأمن، ثم أرسلت الجمهورية لإنكلترا تطلب منها تسليم إيليني لمحاكمته، فأجابت طلبها تحت شرط أن يحضر مندوب إنكليزي معهم في المحاكمة، فعينت إنكلترا المستر هنري لسوك، وتم الحكم على إيليني بالنفي من بلاده.
وفي بحر هذه السنة؛ أي سنة 1894، كان ملك المجازوتس المدعو مبغو شق عصا الطاعة على حكومة الترنسفال ورفض دفع الضريبة المربوطة عليه، وثارت جميع رجاله على جميع البيض القاطنين ببلاده، وحرقوا أحد المرسلين حيا، فجردت عليهم الجمهورية حملة في 13 أكتوبر بقيادة الجنرال جوبير، فدمرتهم، وفازت بالنصر، وولى مبغو هاربا على شواطئ نهر ليبومبو هو ومن معه، وبعد مدة وجيزة عاد من معه إلى بلادهم وقدموا الطاعة للجمهورية، فلما علم بذلك مبغو حاول أن ينتحر ففاجئته رجال بوليس ولاية رودسيا، وقبضوا عليه وسلموه للجمهورية وولت آخر بدله.
أما حالة الترنسفال في ذاك الوقت فكانت على غير ما يرام؛ لأن قانون العسكرية كان يقضي على الوتلندر القاطنين هناك بالانتظام في سلك الجيش الترنسفالي، فأبى خمسة منهم الالتحاق بالحملة التي أرسلتها الجمهورية لإخضاع مبغو، فألقت القبض عليهم وسجنتهم، ولما علمت حكومة إنكلترا بهذا الأمر، كلفت المستر هنري لوك بأن ينظر في أمرهم، وفي أثناء ذلك كان الهياج شديدا في جوهانسبرج، وخصوصا الإنكليز بعد أن سجن إخوانهم، وكان في هذه المدينة جمعية إنكليزية تسمى جمعية الإصلاح تابعة لشركة أفريقيا الجنوبية، فأرسلت إلى المستر هنري لوك في بريتوريا تطلب منه التوسط والنظر في أمرهم، فلبى دعوتهم، فعلم بذلك رئيس نظارة المعادن في جوهانسبرج المسمى ليونيل فيليبس، فكتب إلى حكومته كتابا يدعي فيه بأن المستر هنري لوك لم يحضر إلا ليختبر حالة مدينة جوهانسبرج والقوة الحربية التي فيها، وليقف على ما عندنا من المئونة والذخيرة؛ فكان لكتابه هذا دوي عظيم في بلاد الترنسفال، فأرسل الرئيس كروجر إلى المستر لوك إفادة بتاريخ 26 يونيو سنة 1894 يقول فيها: «إني أرجوكم عدم زيارة جوهانسبرج؛ إيقافا للفتنة وإبطالا للهياج الذي أتأكد تعاظمه عند حضوركم، ولكيلا أتحمل مسئولية ذلك أرسلت إليك إفادتي هذه لترفض طلب الوفد الآتي إليك فأصبح ممنونا لكم، وفضلا عن ذلك فإنكم تكونون قد فعلتم ما يديم الوفاق والوئام والمحبة الدولية بيننا.»
فلما علم السير هنري بما نسب إليه، تعجب كثيرا وكتب إلى الرئيس كروجر يقول: «إني أؤكد لكم موافقتي لأفكاركم وقبول ما أبديتموه بإفادتكم، ودليلي على ذلك رفض طلب من دعاني للذهاب إلى جوهانسبرج، وإنما أقول بأنه ظهر لي بأن هذا الهياج هو نتيجة اهتضام حقوق الوتلندر، وحيث أعهد فيكم الميل إلى السلم والابتعاد عن الظلم، فأطلب تلافي هذا الأمر قبل استفحاله باتخاذ التدابير اللازمة، وحكمتكم المشهورة كفء لمثل هذا العمل، ويسرني كثيرا ألا أرى أثرا لهذا الهياج بعد قليل من الزمن.»
Página desconocida